الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
آمال عوّاد رضوان تحاور الشاعر الرّوائيّ إبراهيم نصرالله
آمال عوّاد رضوان تحاور الشاعر الرّوائيّ إبراهيم نصرالله

 

الثقافة العربيّة نفسها بحاجة إلى ثورة، والشلليّة والقطريّة وأوجه الفساد الثقافيّ اتّسعت في السّنوات الماضية، فالشاعر والروائي إبراهيم نصرالله يتخطى حدود مخيم الوحدات في الأردن، إذ وُلد لأبويْن فلسطينيّين هُجّرا من قرية البريج الواقعة ضمن لواء القدس في الضفة الغربيّة المحتلة، وتلقى تعليمَه الأساسيّ في مخيّم الوحدات حيث وُلد ونشأ، ثمّ انتقلَ إلى السعوديّة ليعمل مُعلّمًا، ومن ثمّ عمل مستشارًا ثقافيًّا في مؤسّسة عبد الحميد شومان، والتقته "الجديدة" في حوار صريح لامس وجع ابن المخيّم ومشواره الإنسانيّ والثقافيّ وطموحه السياسيّ، كما لامس الثقافة العربيّة بشكل عام، فكان أهمّ ما قاله، إنّ الثقافة العربيّة بحاجة إلى ثورة لإخراجها من ثوب الفساد والشلليّة والقطريّة، ووصف مقولة اليهود "أرض بلا شعب" بالكذبة التي استخدمها الغرب الاستعماريّ للنّيْل من خيرات الشّعوب!

 

* "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".. هذه المقولة ماذا تعني لك كلاجئ؟

لا تعني لي سوى الكذبة، وواحدة من مقولات الاستعمار التي تمهد لإبادة الشعوب دائما. هناك شعوب أبيدت لأنهم ادعوا أنها بلا ثقافة، ويجب أن تتحضّر، فحضروها بالموت! مع ثقافة تلك الشعوب عميقة وزاهية ورفيقة بالأرض ومن عليها؛ وهناك شعوب استعمرت لأن الاستعمار رأى نفسه أحق بخيراتها؛ وهناك شعوب اقتيدت إلى الشقاء لأن الاستعمار رأى في رجالها ونسائها عبيدا له وللونه الأبيض، وهناك شعوب أبيدت بسبب اعتقاد المحتل بأنه أرقى من أي جنس بشري آخر. دائما كانت هناك كذبة. وكنا ضحايا مُطْلقيها ومن يقف معهم، وهو غرب استعماري كان قد جرب واستخدم كل أنواع الكذب، فلم يجد في مخيلته أفضل من كذبة (أرض بلا شعب).

 

* المخيم  بحاراته وأزقته، بطفولته المتعثرة وفقره ومعاناته دمعاته.. هل ما زالت بصمة آثاره جليّة في مخيلتك؟ وإلى أي مدى يتحرّش المخيم بذاكرتك؟

المخيم حاضر لأنهم لم يزل قائما، هو ذكرى حية تسير أمامنا حيث التفتنا، وبالتالي، لم يكن في أي يوم خلفنا. وبالنسبة لي، عشته في البداية حالة من البؤس واليأس وانعدام اليقين، عشته خيمة، ثم بيت صفيح وغرف اسمنت بائسة؛ وعشته حين تحوّل اليأس في لحظة استثنائية إلى حلم، ثم عشت الحلم وهو يورق، ثم وهو ُيقتل ويعود ويورق من جديد. وعشت كل ما مر عليه وفيه، ولذا، فسيرة المخيم سيرتي الإنسانية المستمرة. ما يحدث له يحدث لي ولكل لاجئ. ولذلك حضر في عدة روايات وعدة دواوين شعرية كتبتها، وحضر في تلك الكتب التي لم أشر إليه فيها، لأنني كنت في تلك الكتب، لأنني جزء منها، وما دمت جزءا منها فالمخيم جزء أساس فيها.

 

* المخيّمات خرّجت الكتّاب والشعراء والمثقفين والمناضلين.. لماذا برأيك تجلّى صوت اللاجئ في إبداع الكلمة شعرًا كانت أم لوحة أم رصاصة.. في مقال؟ هل للمخيم دوْر في صقل شخصيّة الكاتب إبراهيم نصر الله الأدبية والشعرية؟ كيف؟

كما أشرت، المخيم شهد تحولات كبرى، وحين أقول ذلك، أعني أن البشر فيه هم من شهدوا هذه التحولات الكبرى، وأصابنا المنفى وأثر فينا عميقا. الأدب والفن، كانا شكلا من أشكال صراع الروح مع ذاتها. تحلم في الليل ليدفعك الحلم أو تدفعه نحو التحقّق في اليوم التالي، وتكتب القصيدة، فتكتبك القصيدة وتلزمك بأن تكون وفيّا لما فيها. بمعنى أن القصائد والأعمال التي نلدها تلدنا أيضا، وتصبح شاهدا على أحلامنا، وتظل تراقبنا، ونحن لا نستطيع أن ننسى هذا، لذا نتقدم دائما باتجاهها، باتجاه ما فكرنا فيه وأصبح كلمات.

وهكذا أصبح المخيم جزءا من شخصيتي، لأنني لا يمكن أن أكون ما أنا عليه لو أنني ولدت في مكان آخر وظرف آخر. وقد قلت ذات يوم: المخيم سكة الحديد التي يسير عليها قطار حياتي منذ أن ولدت، وحتى هذا اليوم.

 

* قرية البريج لواء القدس احتلت عام 1948 لتولد أنت في عمان، وبدلاً من أن تغرس الزيتون في أرض قريتك، حصلت على بطاقة لاجئ "كارت مؤن"! ماذا يعرف شاعرنا عن قريته؟

أعرف عن القرية ما يعرفه أهلي، وهو كثير بالتأكيد، والآن يعرفه كثير من القراء لأنني كتبت عنها وكانت شهادات أهلي جزءا من الكتب التي كتبتها، وهي تؤثر اليوم في جيل جديد.

حاولت زيارتها عام 1987، حين ذهبت بتصريح زيارة، لكنني اكتشفت أنها منطقة عسكرية مغلقة. في الأمسيات التي أقيمها في كثير من دول العالم أتحدث في هذا كثيرا ، وأشير دائما إلى الذاكرة المشهدية لكبار السن من أهلنا، فهي ليست كلمات، إنها شريط مصور غني، كاميرا استثنائية لا تهمل أي تفصيل صغير.

*هناك من اعتبر أنّ المخيّم يشكّل عارًا بمفهوم التشرّد والضّياع.. كيف لامستَ وواجهتَ هذا الاتّجاه؟

لا أعرف كيف يمكن أن يكون المخيم عارا. إذا كان عارا فهو عار كل من لم يقف إلى جانب الفلسطيني لكي يعود إلى أرضه، هو عار الذين حاصروا المخيمات وارتكبوا المذابح فيها، وهو عار الدول التي دعمت الكيان الصهيوني. لقد أعطى المخيم العالمَ فرصةً ممتدة منذ أكثر من ستين عاما، كي يكون لهذا العالم ضمير. وهذا هو العار. لأن العار يلحق بالقاتل وليس بالقتيل، بخاصة أن القتيل دافع عن أرضه وشرفه وكرامته وحياة أبنائه بشجاعة، في معادلة القوى الظالمة.

 

* الحبّ والعشق في المخيم مختلفان عن طبيعة التقارب والالتصاق.. ما مدى صحّة ودقة هذا الكلام؟

الحب هو الحب في كل مكان، ما يصيب عاشقا أو عاشقة في المخيم يصيب كل إنسان في أي بقعة من هذا العالم، لكن الذي يختلف هو ظروف الحب.. التفاصيل الخارجية للقاء والفراق المحكومَين بالتقاليد المختلفة لشعوب الأرض.

 

* أنت من مواليد مخيم الوحدات الذي عرفه أهل الوطن، ما هو السّرّ في علوّ صوت واسم هذا المخيّم رغم صغره؟

هذا المخيم واحد من أكبر مخيمات الفلسطينيين، وشهد الكثير من التحولات، وكان رافعة كبيرة للحلم الفلسطيني في أصعب الأوقات، وتعرّض لواحدة من أشرس الهجمات والمذابح. ولذا من الطبيعي أن تحتفظ له الذاكرة الفلسطينية بمكان واسع فيها، وبخاصة أنه من أوائل المخيمات، في المنفى، التي شهدت واحدة من أعلى درجات المقاومة.

 

* بدا البعد الإنسانيّ في قصائد ديوانك الثالث "أناشيد الصباح" طاغيًا.. هل هي  الصدفة أم هي روح الشاعر عكست ذاتها؟

في هذا الديوان تكثف البعد الإنساني أكثر، لكنه كان حاضرا في الديوانين اللذين سبقاه، وأعني: الخيول على مشارف المدينة، والمطر في الداخل. كُتبَ ذلك الديوان في العامين التاليين للخروج الفلسطيني من بيروت، وقد جاءت قصائده مختلفة ومفاجئة للنقد والقراء في تلك الفترة، ولعلني، على المستوى الذاتي، أيضا، في تلك السنتين، قد بدأت بملامسة أفق الحياة إنسانيا بصورة أعمق. ولذا لا أعتبره محطة شعرية فقط، بل محطة إنسانية.

 

* ما هي التحولات التي أثرت على تجربتك الشعرية من جهة وعلى مسيرتك الأدبية بشكل عام؟

هناك أشياء كثيرة أثرت في هذه التجربة، ثقافيا وإنسانيا. فحين أحسست بأن الشعر سيكون طريقي عملت كثيرا على تثقيف نفسي، بخاصة أنني لم تتح لي فرصة الذهاب إلى الجامعة، وأظن أن تجربتي في التثقيف الذاتي كانت مهمة، لأنني خصصت لها ثلاث سنوات، قرأت فيها الملاحم والأساطير والمسرح الإغريقي وكثيرا جدا من الشعر القديم والحديث، وتدرجت في ذلك حتى الأدب الحديث والسينما المختلفة، وما كتب عن هذه الأعمال ووصلني.

ولذا حقق ديواني الأول الحضور الذي يتمناه أي كاتب شاب، وكذلك روايتي الأولى (براري الحمى).

بدأتُ بالقصيدة المتوسطة، ثم سرعان ما انتقلتُ إلى القصائد الملحمية، وبعدها كسرت هذا الاتجاه بالقصائد القصيرة جدا في رباعية (عواصف القلب) ثم كتبت الديوان السِّيري، مثل (بسم الأم والابن) و (مرايا الملائكة) وصولا لديواني الأخير (لو أنني كنت مايسترو) والذي أعتبره محطة أساسية في تجربتي الشعرية.

في الرواية كان الأمر مختلفا، فحين كتبت (براري الحمى) كنت أظن لفترة أنها الرواية الأولى والأخيرة. ثم ولدت فكرة الملهاة الفلسطينية، ثم فكرة الشرفات.. ولكل هذه الروايات حكاياتها الخاصة لدي.

 

* الشعر والمخيم تلازما في مسيرة طويلة لا شك.. ما هو انعكاس المخيم والطفولة  بين جدرانه على بداية الشاعر إبراهيم نصر الله؟

أبرز انعكاس مباشر، تجلى في ديوان (نعمان يسترد لونه) ولعله محاولة ما لكتابة الرواية شعرا. وهذا جاء انعكاسا لما عشته في مخيم الوحدات خلال فترة أيلول الأسود عام 1970، ثم جاءت رواية (مجرد 2 فقط) لتعبر بصورة أخرى، بالنثر، عن تلك التجربة.

 

*وقفة شجاعة مع الذات تقتضيها الروح أحيانًا.. هل وقف إبراهيم نصر الله مع ذاته؟ متى ولماذا؟

دائما أقف هذه الوقفات مع ذاتي، وجوهر هذه الوقفة هو سؤالي المستمر: ما الذي قدمته لشعبي؟ وما الذي قدمته لإنسانيتي كي لا أكون مجرد عبء على فلسطين. أقف هذه الوقفة لأتأكد من أنني أعمل بإخلاص، وبشجاعة، وبحرية، وأحرص على ألا أكون رهينة أحد، ولا أريد من فلسطين سوى أن أعطيها بصورة أفضل دائما، وأن تصبح أجمل في قلوب البشر بعد كل كتاب أكتبه. فكتاب جديد جيد يجعل فلسطين أكثر قربا من قلوب الناس، ويجعل شعبها جزءا أساسا من ذاكرة الإنسان الجمالية في كل مكان، ويثبت أننا نستطيع أن نعطي، وأننا لسنا أرقاما.

 

* كتبت قصيدة النثر، وما زالت قصيدة النثر تعاني من هويتها عند البعض.. كيف يمكن انتزاع الهوية لقصيدة النثر برأيك؟

كتبتُ النثر حينما أحسستُ أنه يستوعب تجربتي الإنسانية في مرحلة ما، كما حدث في (أناشيد الصباح) ثم غابت قصيدة النثر ووجدتها تكتبني بعد سنوات في ديوان فضيحة الثعلب. وقد كتبتُ شهادة عن هذه التجربة.

لنعترف أن هذه القصيدة تعاني، لأنها لم تصبح بعد جزءا من ذائقة القارئ العربي، وربما ساهم كثير من نماذجها في إقصاء الناس عن الشعر. لكنها في جوهرها، ومع شعراء رائعين، وهم نادرون، إضافة جمالية لا يستطيع شاعر قصيدة التفعلية أن يغض النظر عنها.

 

* في الغالب يغلب على  ابن المخيم الطابع السياسي أو العمق الإنسانيّ.. أين نجد الأدب السياسي في مشوار إبراهيم نصرالله؟

لا أعرف أين نجد الأدب السياسي بالمعنى الحرفي، فهناك بعض القصائد مثل (حوارية المرحلة)، ورواية (عَوْ) التي ترصد ظاهرة سقوط المثقف، ولكن حتى هذه القصيدة وتلك الرواية تغرفان من الإنساني. ولعل سبب الابتعاد عن السياسي المباشر، هو أن كتابتي بدأت بعد أن كان الشعر العربي بمعظمه قد تخفف من حضور السياسة في القصيدة، وكانت السبعينات من القرن الماضي فاصلة وحاسمة إلى حدّ بعيد، ولأن تجربتي بدأت في أواسط السبعينات، فقد تلمستُ وأحسست أن شعراء فلسطين الذين سبقوني، أراحوني من هذا. لكن السياسة دائما تأخذ وجوها جديدة في الأدب، وهي حاضرة، فكتابة رواية فلسطينية جيدة أو قصيدة أو قصة جيدة، سياسة، لأن الجيد الذي يقف إلى جانب إبداعات العالم يجعل فلسطين أجمل وأروع، وهذه رسالة سياسية. وحسنا أن كثيرا من إبداعاتنا التفتت إلى الإنساني الذي وسّع الوطني، بدل الوطني المجرّد الذي كان يضيّق الإنساني.

 

* هل نجح الشعراء العرب في  تصدير هويتهم ورسالتهم  ومعاناة شعوبهم عبر الأدب للعالم الغربي؟

لنعترف أننا نقاتل وحدنا على هذه الجبهة، فالكاتب العربي، باستثناءات قليلة، مضطهد في وطنه ومهمش، ومن يهمشك في وطنك ويهمش وطنك، لا يمكن أن يفكر بتقديم كتاباتك للعالم، فالزعماء العرب، ومن بينهم زعماؤنا للأسف، يحرصون على أن ينقلوا للغرب بأننا شعوب جاهلة، ولولاهم (هؤلاء الزعماء) لمتنا جوعا وجهلا!

أعرف حكايات كثيرة عن مشاريع ماتت لأن أي سفارة عربية أو وزارة ثقافة لم تتقدم لشراء نسخة واحدة لدعم بعض مشاريع الترجمة التي تمت. أين هو الزعيم العربي أو الفلسطيني الذي يمكن أن يخطر بباله أن يقدم لزعماء العالم الذين يقابلهم نسخة من رواية أو ديوان شعري أو مجموعة قصصية تتحدث عن فلسطين؟ لا يفعلون ذلك، لأنهم لا يفهمون المعنى العميق لفلسطين، ولأنهم لا يفهمون الأدب، ولا معنى الأدب ولا ما يقدمه الأدباء لأوطانهم.

منذ زمن طويل أدركنا أن كولومبيا هي بلد الروائي ماركيز، ولهذا فهي محترمة، رغم تسويقها بأنها بلد المخدرات، وإيطاليا التي سحقت الشعب الليبي محترمة لأن فيها أمبرتو ايكو وكالفينو وبوتزاتي وبرانديللو وفلليني، وهكذا. الشعوب التي ليس لديها أدب وفنون، ليست جزءا من الذاكرة الإنسانية كما يجب أن تكون. عليك أن تبدع كشعب، وفي أي مجال تريد، كي يحس العالم بأنه بحاجة إليك وإلى جمالك.

ونحن شعب لم يستعبد أحدا، وهو طالب حرية، ومن حقه أن يقدَّم للعالم في صورة تليق بكفاحه وعمق قضيته. أما على المستوى الفردي، فكثير من الكتاب يعملون بلا كلل.

 

* ما بين قصائدك الملحمية التي برزت في أواخر الثمانينات وبين اتجاهك للقصائد القصيرة تساؤل.. هل نعتبر أنّ هذا تحول نحو التجديد؟ أم هو جزء من شمولية الفكرة لدى الشاعر؟

التحولات لا بد منها في مسيرة الكتابة، تماما، كما هي طبيعية وضرورية على مستوى الفرد، إنسانيا. وهناك أسئلة تؤرقنا في العشرينات من عمرنا، غير تلك التي تؤرقنا في الثلاثينات والأربعينات، إلخ.. وكل سؤال يبحث عن شكل يتحقق فيه بصورة أفضل، جماليا ومعرفيا. ولكن ما أدافع عنه دائما وأدعو إليه بقوة هو: ضرورة أن يتنوع الكاتب داخل تجربته، وإلا سيجفّ.

 

* ما هو المشروع الشعري/ الأدبيّ/ الإنساني الذي تمنى الشاعر إبراهيم نصر الله إنجازه؟

في مرحلة ما كانت القصيدة الملحمية، وفي مرحلة ما مشروع الملهاة الفلسطينية، الآن لدي مشاريع كثيرة، ولا أبالغ إذا قلت: إنني أحس أنني لم أبدأ، وهي بحاجة للوقت، الذي هو الأغلى، لإنجازها.

 

* روايتك "براري الحُمّى" ترجمت للدنمركية، واختارها الكاتب الأمريكي مات ريس كواحدة من أهمّ عشر روايات كتبت عن العالم العربي.. هل فوجئت بما حققته الرواية؟ وماذا أضافت للروائي الشاعر إبراهيم نصر الله؟

منذ صدور هذه الرواية أحدثت حراكا كبيرا على المستوى العربي، وكتب عنها الكثير من الدراسات والرسائل الجامعية، وظلت مع الزمن كما لو أنها رواية جديدة، فعندما صدرت طبعتها الخامسة نفدت في عشرة أشهر، وحين ترجمت إلى الدنمركية بعد عشرين سنة من صدورها اختارها الدنمركيون كواحدة من أهم خمس روايات ترجمت إلى الدنمركية عام 2006، ونافست روايات من العالم كله كتبتْ في ذلك العام، كما أن استقبالها بالايطالية والإنجليزية كان ممتازا. هي تحقق حضورا متزايدا أمام اختبار الزمن، وهذا أمر جميل، مع أنني عندما كتبتها كنت في السادسة والعشرين من عمري. وأظنها ستواصل هذا الحضور. وبالطبع، كلما حققت شيئا جيدا فهي تحقق شيئا للأدب الفلسطيني ولي.

 

* هل تعتقد أن الأدب العربي في خطر بعد إقحامه في  الثورة التكنولوجية، وما نتج عنها من مواقع تواصل اجتماعي؟ بمعنى؛ بعد أن دخل الشعر البعد الاجتماعي هل فقد بريقه؟

هناك تغيرات اليوم، لن ننجو منها، ولكني أيضا، ألاحظ إقبالا على قراءة بعض الكتّاب بصورة ممتازة، وتجربتي في هذا المجال تدعوني للتفاؤل، فعادة تنتهي الطبعة الأولى في غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر، ولعلي لا أحس بأي مشكلة شخصية مع القارئ، ولهذا لدي هذا التفاؤل، فالقارئ لا يُقبل على كل كتاب يُنشر، بل يختار؛ وهذا موجود في كل بقاع الدنيا. مثلا، يدهشني أن 40% من قرائي من فئة الشباب بين عمر 18 و 24. وألمس هذا بوضوح في الجامعات. بالطبع لا أستطيع أن أتحدث عن تجارب الكتاب العرب الأخرى في هذا المجال. لكنني على المستوى الشخصي متفائل، وأرى أن الإنترنت يخدم الكتاب، لأنه ملك الجميع، وليس كبعض الصحف التي تكون حكرا على شلّة بعينها.

 

* هل لديوانك عودة الياسمين إلى أهله سالمًا مناسبة خاصة، وما مدى ارتباط هذا العنوان  بأحوال إبراهيم نصر الله ؟

هذا الديوان هو مختارات موسعة من أربعة دواوين ضمت تجربتي في مجال كتابة القصائد القصيرة جدا. وهو رحلتي التأملية في كثير من الأشياء والقضايا حولي. ولذا هو جزء أساس من تجربتي الشعرية والإنسانية.

 

* القلائل من أدبائنا في الشعر والرواية والقصة وصلوا العالمية.. برأيك ما هي العوامل التي ساهمت على بقاء الأغلبية حبيسة ذاتها الجغرافية والشخصية؟ وماذا عن تجربتك في هذا المجال؟

أعتقد أن لدينا كثيرا من الأدب الرائع، ولكن الأدب كما أشرت يقاتل وحيدا، وما يتاح لنا لا يتاح لعدوّنا، فحين تصدر رواية جيدة بالعبرية تترجم فورا إلى ست أو سبع لغات، وحين تصدر رواية جيدة لدينا قد تمنع من التّداول. كما أن الموضوع الفلسطيني ليس موضوعا مرحبا به، وقد كتبت يوما: إذا أراد الكاتب الإسرائيلي أن يصل إلى العالم، فإن عليه أن يتذكر، أما إذا أراد الكاتب الفلسطيني أن يصل إلى العالم، فإن عليه أن ينسى! ويومها اتصل بي محمود درويش، وقال لي: كم أنت على حق، هذا تلخيص لمأزق أدبنا عالميا.

بالنسبة لي، صدرت مجموعة من كتبي، ومختارات من أشعاري بلغات كثيرة، وكان آخر الكتب التي صدرت بالإنجليزية رواية (زمن الخيول البيضاء) وصدورها يعني لي الكثير لأنها تغطي الفترة من 1875 حتى عام النكبة 1948، وهناك مفاوضات مع دور النشر لنشر روايتي الأخيرة (قناديل ملك الجليل) وهي رواية تثبت أن فلسطين كانت دائما أرضا حافلة بالحياة.

 

* هل نحتاج إلى مشروع أدبي عربي تحرري مستقل وغير قابل للقسمة؟ كيف وما هي اقتراحاتك؟

أظن أن الثقافة العربية نفسها بحاجة إلى ثورة أولا، فالشللية والقطرية وأوجه الفساد الثقافي اتسعت في السنوات العشرين الماضية، وهذا الفساد يجد دوما من يرعاه، إن لم يكن هو من يتحكم مباشرة في كثير من أوجه حياتنا الأدبية.

 شاركت في مؤتمرات وندوات ومهرجانات في معظم الدول العربية والعالم.. ما هو الإنجاز الذي أنتجه هذا الحراك؟ وهل أمكنه أن يثبت التغيير في العالم العربي، وأنّ الأدب يأتي متأخرًا على قائمة العوامل المؤثرة كالسياسة والاقتصاد وغيرها؟

هناك أشياء كثيرة تتحقق، منذ أيام عدت من إيطاليا، بعد أن شاركت في لجنة تحكيم مهرجان الأرض للسينما الوثائقية الذي أقيم في سردينيا، وأقمت عدة أمسيات. ويمكنني القول- وسفري ومشاركاتي مستمرة منذ ثلاثين عاما- إن الأدب قادر أن يحقق الكثير.

مثلا، لم أر مديرة مدرسة ثانوية عربية تبكي أمام طلابها وهي تستمع لقصائدي، ولكنني رأيت مديرة مدرسة إيطالية تفعل ذلك أمام طلابها.

القلب البشري ليس مغلقا في وجه قضيتنا، ولكنني كما أشرت نعمل وحدنا ككتاب مستقلين، ولذا يتحقق الإنجاز ببطء.

 

*مشروع الملهاة الفلسطينية أين يتجه بعد صدور ملحمتك الروائية (قناديل ملك الجليل) هذه السنة؟

لا أستطيع أن أعرف أين ستصل الملهاة، أو أصل بها بعد الرواية السابعة، لأن فلسطين حالة متجددة، وما دمت على قيد الحياة فإنني سأظل مشغولا بها، ولذا، قد أكتب رواية أخرى أو عشر روايات، فالملهاة الفلسطينية في النهاية مشروع مستمر، لأن كل رواية فيه مستقلة عن الروايات الأخرى تماما.

فالرواية الأخيرة (قناديل ملك الجليل) لم تكن في ذهني حين بدأت كتابة الملهاة، ولكنني حين عثرت على تلك المساحة الزمنية التي غطتها أحداثها (من عام 1689 إلى عام 1775) عثرت على ذاتي وعلى هويتي أيضا. إنها فترة من أزهى وأجمل ما عاشته أرض فلسطين خلال وجود ذلك القائد التاريخي الكبير ظاهر العُمر. ولكن الناس لا تعرف عن هذه الفترة إلا القليل، والذين يعرفون ظاهر العمر أقل؛ ولذا، فتجربة كتابتها تجربة نادرة، رغم صعوبتها، وككاتب لا أستطيع مقاومة سحر ظاهر العمر ودولته كأساس لتشكل الهوية الوطنية العربية في أرض فلسطين، وكان من الرائع أنني أمضيت وعشت هناك ستا وثمانين سنة أثناء كتابتها، وهذه هي الفترة التي تغطيها الرواية، فلأول مرة وجدت نفسي أمام تحد نادر، وهو أن عليّ أن أنشئ على الورق، من جديد، الدولة التي أنشأها ظاهر العمر على الأرض في ذلك الزمان. لكن رغم المشقة الكبيرة التي عشتها لأكتبها، أسعدني أن استقبال الرواية كانت رائعا