الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
يحدث أحيانًا يا صديقي/ خيري حمدان
يحدث أحيانًا يا صديقي/ خيري حمدان

يحدث أحيانًا أن تنخفض حدّة الأصوات من حولي، أشعر بأنّ العالم قد تقلّص وبدا كأنّه يضمحل. كأنّ الصمغ قد انصبّ في أذنيّ. الغناء بلا معنى والفرح مكبّل اليدين. قد يعتقد البعض بأنّني تخلّيت عن التفاؤل! لا يا صديقي، لديّ الكثير من التفاؤل، حفنات ملء اليدين، اندفاع نحو الأمام دون توقّف. لكن يحدث أحيانًا يا صديقي بين الوقت والآخر، في منتصف الأسبوع، حين تصل وتائر الإرهاق والسأم وانتظار القطار السريع التائه ذروته، يحدث أن تتراجع الأصوات حتّى الصمت.
مقاطع وجهي تبدو غير مبالية مع تقدّم ساعات الليل، هكذا تخبرني المرآة الوقحة القابعة في الممرّ. أؤكّد لك قدرتي على صنع القهوة وحدي، أسير على أطراف أصابعي نحو مطبخي الصغير، كأنّي أخشى لحظات الخلود في ساعات الليل المتقدّمة السرمديّة. أمضي لملء الفراغ برائحة القهوة ومن بعيد يصدح صوت العود يرافقه الناي من حاسوبي القابع فوق مكتبي بانتظار المزيد من كتابة القوافي، والأسطر المتتابعة حتّى اللحظة الأخيرة وما بعد نقطة النهاية بفقرة.
ما تزال الأصوات خفيضة خجلة تراوح مكانها، كأنّ المقيمين من حولي قرّروا تقطيع الحديث وسمحوا للريح بأن تتلاعب بحنجارهم، وأنا المتعطّش لمزيد من الضجيج وحضور الآخر ضيفًا ليس ثقيل الظلّ في عالمي. يأتي لساعة من الزمن، يبدي إعجابه بالقهوة السمراء الوقحة القادرة على اقتحام عوالم الموت والصمت. الأصوات خفيضة والناي يرتفع بحذر. يا عود عدْ قبل أن يقرّر الليل إعلان حالة التمرّد ويمضي مفسحًا المجال لنور الصباح ليخترق حواسي المتنامية. لا نوم يا صديقي، أخبرتك بأنّ العتمة رفيقة الدرب، الشمعة تحترق بعناد غريب، كيف أفلتت من قبضة الريح القادم من النافذة؟
كيف يمكن للحياة أن تسير بهذا البطء؟ حتّى عقارب الدقائق بالكاد تتحرّك، سوى الناي يا صاحبي وحده يتعافى، يرفض الخضوع لسلطة الوقت. حضرني طيفُكِ الليلة، حاوَلَ تسريع الحدث لكنّ الأصوات تراجعت مجدّدًا، لم تجرؤ على العبث بورودك المتناثرة في أصل الليل والقهوة تندلق في جوفي، عيناك تتألقان كنجمتين مسافرتين في عمق الصمت. تراجعت الأصوات وبقي الناي يصدح قبل أن يصغي الكون لآخر اعترافاتي الليلة، همست لكِ دون نساء الدنيا وأقسمت أنتِ بعد مرور دهر بأنّك قد سمعتِني أردّد في أذنيك "أحبّك".