الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مساءٌ مُثْقَلٌ بأغْبرةِ الغُربةِ!/ آمال عوّاد رضوان
مساءٌ مُثْقَلٌ بأغْبرةِ الغُربةِ!/ آمال عوّاد رضوان

بَلغَتْني رِسالَةٌ مِنْ مُنتدى شُعراء بِلا حُدودٍ، مِن الشّاعِرِ العِراقيّ سعيد إبراهيم الجافّ، يقولُ فيها:


كمْ مِنْكِ امْرَأةٌ ، وكَمْ مِنْكِ إلهٌ وَدَمُهُ خُبْزٌ وماءٌ؟ كمْ مِنْكِ سَأسْتطيعُ أنْ أشْكُرَ؟
خسارة.. لأنّني أعمًى، وسوْفَ لن أرى كُلَّ مُحَيَّاكِ.. مَعَ الحُبّ.


وقدْ جاءَتْ هذهِ الرّسالةُ كَرَدٍّ على إحْدى تعقيباتي، في قصيدةٍ لهُ، كُنْتُ قد تَناوَلْتُها في قِراءَةٍ سَريعةٍ منذ عام 2006، وقد فقدتُها عنوةً، ككثيرٍ من القِراءاتِ والموادِّ والقصائدِ الّتي مَحَتْها ذَاكِرَةُ حَاسُوبي الخرِفةِ دونَ رأفةٍ، وقد فرحتُ بالرّسالة أيّما فرح، إذ أعادَتْ لي بعضَ ماضٍ مُحبَّبٍ، كانَ معَ كوكبةٍ رائعةٍ مِنْ شُعَراءَ ةأدباءَ، يَتواصَلونَ بالحَرْفِ والصِّدْقِ في رُدودِهِم، على اختلافاتِها وتَنَوُّعاتِها.
كَوْمَةٌ
إبراهيم سعيد الجاف
فثمّةَ مساءٌ يسمع ذبائح مَواسم الحيض
يستنشق زبدَ النشيد غريبًا يسرد
الأمكنة من أوطأ الفراغ، أيّها
الجالسون الضحى والرثاء وكومة من عراء
والمغيب كومة غياب والغياب
كومة حارة وكومة بكاء
كومة نسيتم أن تزرعوا الدم على طلعة التراب من سنين
هو لا يفرد الدم
عن القشة مديح الذبائح
هو لا يفرد الدم
عن موجة كسلى اختنقت على شفة الرثاء
يا كومة من ظلي
دونَ أبجديّاتٍ تحنو ولا تُدركُ الأرض
فآخِرُ الفراغ النّذور تُصلّي مِلْءَ السّلالِمِ
شهوات الآلهة
لا أعرفُ
كيفَ ستَمرحُ أعلى القمحة
وهواؤك وسط الابتهالِ يَسألُ الهبوبَ
يا كسائي اسْتَكِنْ
وأَلْبِسْني الأحْقابَ
فالمساءُ ثقيلٌ حينَ لا يَغسِلُهُ وَطني.
فكتبتُ آنذاكَ أقولُ: فآخرُ الفراغِ النّذورُ تُصلّي ملءَ السّلالمِ شهواتِ الآلهة
بومضةٍ سريعةٍ تلِجُ هذهِ الصّورةُ إلى ذهن القارئ، وتَسوقُهُ إلى السّومريّةِ والبابليّةِ تحديدًا، مَنبَتِ شاعِرِنا الجافّ، تَتصاعدُ بهِ إلى قمّةِ الفراغِ والهباءِ، إلى مذبحِ الآلهةِ، حيثُ يُقرّبونَ الذّبائحَ، وبلغةٍ تهكّميّةٍ يُعبّرُ عن قصوى السّخرياتِ، إذ إنّ سفكَ الدّماءِ "ماءِ الحياة" وهدْرَها، هي أعظمُ قرابينَ تُقرَّبُ للآلهةِ، ولا زالتْ تُسفَكُ قربانًا للصّراعِ في الحياةِ الدّنيا!


فثمّةَ مساءٌ يَسمعُ ذبائحَ مواسمِ الحيضِ
يستنشقُ زبدَ النّشيدِ غريبًا
يسردُ الأمكنةَ مِن أوطأِ الفراغِ


كلمةُ الفراغ تكرّرَتْ مَرّتيْنِ، للتّأكيدِ المَعنويّ، لِتَعودَ بِنا وبتأكيدٍ صارمٍ إلى زمنِ الأساطيرِ، منذُ بدْءِ أثَرِها على الإنسان، لتَسرُدَ التّاريخَ الفارغَ مِن منطقيّتِهِ بِرُمَّتِهِ.
ذبائح/ الدم/ الحيض/ يستنشقُ/ زبد/ موجة كسلى
مُفرداتٌ تُعيدُنا إلى إطارِ النّظامِ الأسْطوريّ، حيثُ كانتِ الذّبائحُ والقَرابينُ تُقدَّمُ للآلِهةِ، كي تَستمدَّ التّمائمُ والتّعاويذُ منها قوّةً وفاعليّةً، فخوْفُ الإنسانِ مِنَ المَجاعاتِ، وخِشْيتُهُ مِن مَواسِمِ القَحْطِ واليَبابِ، وطَمَعًا في وفْرةِ المَحاصيلِ والغِلالِ، دَفَعتْهُ إلى اللّجوء لتهدئةِ غضبِ آلِهةِ الخصوبةِ والغيْثِ والبَحرِ والنّهر، وتقديمِ الفِديَةِ البَشريّةِ مِنَ الأطفالِ، أو الفتَياتِ الجَميلات، كعربونَ طاعةٍ ووَفاءٍ، إمّا ذبْحًا على المَذابحِ، أو قذفًا بهِمْ في النّارِ المُوقَدَةِ أمامَ تلكَ التّمائمِ، أوْ بِزَفّ العَذراواتِ الجَميلاتِ إلى الآلِهةِ، بتَزاوُجِ إغْراقِهِنَّ في مياهِ البُحيْراتِ والأنهار!
إنّ الدّماءَ بمَثابةِ تَطهيرٍ وتدْنيسٍ في كِلا الآنَيْنِ، وبِصِفةٍ خاصّةٍ دِماءُ مَواسم الحيْض، لكنْ لَها دَلالةً أخْرى، ربَّما أرَادَها الشّاعر أن تكونَ كنايةً عن تَقَزُّزِ روحِهِ مِنْ سُلوكيّاتٍ وعاداتٍ مُورِسَتْ قديمًا!
لكن، لِماذا يَستَحْضِرُها هاهُنا، بكُلِّ تَفاصيلِها المُوجَـِعَةِ ثانيةً؟
يسمع/ يستنشق/ يسرد/ يفرد/ تحنو/ تدرك/ تصلي
كلُّها أفعالٌ مُضارِعةٌ، تُشيرُ إلى استمراريّةِ الفِعلِ والطّقوسِ الغابِرةِ، ولكنْ بِصُوَرٍ وأشْكالٍ أخْرى حتّى حاضِرِنا هذا، بِدْءًا مِنِ اقْتِتال هابيلَ وقايينَ أبناءِ آدَمَ، ومُرورًا بحُروبٍ ومَعاركَ ومَذابحَ، أُريقَتْ فيها دِماءُ المَلايينِ مِنْ الضحايا؛ بَني الإنْسان!
يَسْتنشِقُ زبَدَ النّشيدِ غريبًا!
صورةٌ مُرَكّبةٌ، تحْمِلُ ما تحملُ مِنَ اسْتِعاراتٍ ورُموزٍ طائلةٍ، ألَعَلَّهُ يَقصِدُ نشيدَ العِراقِ الوَطَنِيّ؟


موْطني موطني
الجلالُ والجَمالُ والسّناءُ والبَهاءُ في رُباك
والحياةُ والنّجاةُ والهَناءُ والرّجاءُ في هَواك
هل أراك سَالِمًا مُنعَّمًا أو غانِمًا مُكَرَّمًا؟ هل أراكَ في عُلاك؟


لكنّ هذا النّشيدَ أضحى غريبَ المَضمونِ والهيْئةِ عنْ وَجهِ الحقيقةِ المُهَشَّمِ، وباتَتْ غريبةً أنفاسُ مَراياهُ عن رئِتَيْ عذارى روحٍ تُزاوجُ المَوْتَ
وكومة من عراء/ كومة/ والمغيب كومة غياب/ والغياب كومة بكاء/ كومة حارة / يا كومة من ظلي/

بلَمْحَةٍ خاطِفةٍ تُعيدُني هذه الكلماتُ إلى سيرةِ سيّدِنا إبراهيم، حينَ شاطَ غضبًا، وتقَدّحَ ذِهْنُهُ شَرَرًا، مُهَدِّدًا عَرْشَ المَلِكِ النمرودِ، مُحَطِّمًا الأوثانَ، ومتَحَدِّيًا، جاعِلًا الفأسَ مُعلَّقًا في رَقَبَةِ كبيرِ الآلهةِ، ذَليلًا، عاجِزًا عن النُّطْقِ والبَوْحِ.


أيُّها
الجالِسونَ الضّحى والرّثاءَ وكوْمةً مِنْ عَراء
والمَغيبُ كوْمةُ غيابٍ، والغِيابُ
كومَةُ حارةٍ وكوْمَةُ بُكاء


كانَ الوَثنيّونَ قدْ جَمَعوا أكوامًا مِنَ الحَطَبِ المَنقوعِ بالقارِ والنّفطِ، ليَثْأروا لِلآلِهةِ المُحَطَّمَةِ، وقَدْ رُمِيَ السّيّدُ إبراهيمُ بالمَنجنيقِ وسطَ اللّهيبِ، فما كانَتْ بأمْرِ سُبحانِهِ، إلّا برَدًا وسَلامًا عَليْهِ، فلَمْ تَمْسُسْهُ بسُوءٍ، إذْ فَقَدَتْ قُدْرَتَها على الإحراقِ!
ألَعَلَّ الشّاعِرَ إبراهيم سعيد الجاف، اتّخَذَ مِنْ سِيرةِ سيّدِنا إبراهيم الخليل، وما عاناهُ من ظلمٍ وإجحافٍ معَ الكُفّارِ، صورةً مُشابِهةً ومختزَلَةً لحياةِ الشّاعِرِ، وما كَابَدَهُ في الأسْرِ والحَرْبِ؟ 
الضّحى: رمزٌ لشِدَّةِ الحَرِّ وأوْجِ لَهيبِ الحَرْبِ الحارِقِ.
كوْمَةٌ مِنْ عَراء: رمْزٌ لِلضّياعِ والشّتاتِ.
مِنْ خِلالِ مُعجَمِ الشّاعِرِ بمُفرَداتِهِ المُنتقاةِ ورَمْزيّتِها، يَنتهِجُ الشّاعِرُ تدَرُّجًا مُنْسَجِمًا في تصويرِ هَوْلِ الاشتعالِ في الضّياعِ، والغيابِ في أكوامِ الحرائقِ والدّمْعِ والخوْفِ واليأسِ!

نَسيتُمْ أنْ تَزْرَعوا الدَّمَ عَلى طَلْعَةِ التُّرابِ مِن سِنينَ
هُوَ لا يَفْرُدُ الدّمَ
عَنِ القَشّةِ مديحُ الذّبائحِ
هُوَ لا يَفْرِدُ الدّمَ
عن موجةٍ كسلى؛ اخْتَنَقَتْ على شَفةِ الرّثاءِ
يا كوْمَةً مِنْ ظِلّي
دونَ أبجديّاتٍ تَحنو ولا تُدْرُكُ الأرْضَ

معاتبًا ولائمًا يُخاطِبُ الجالِسينَ الضُّحى، فمَديحُ الذّبائحِ أبدًا ليسَ يُباعِدُ، أو يَفْصِلُ بيْنَ الدّمِ والقَشّ، أو بَيْنَ الدّمِ ومَوْجَةٍ كسْلى اختَنَقَتْ على شَفةِ الرّثاءِ، فكَوْمَةٌ مِنْ ظِلِّ الشّاعرِ المُواطِنِ المَسْحوقِ، لا وَزْنَ ولا لوْنَ لها، بل تَخلو تمامًا مِنْ أبْجَديّاتٍ تَحنو، ولا تُدرِكُ الأرْضَ بمَداها، والأرْضُ هِيَ رَمْزٌ لِلحياةِ والاسْتِقرارِ، كما لا تَحْمِلُ إلّا خساراتٍ وفَشَلًا ذريعًا!
لذا؛ ما زالتِ الكوْمةُ على مَرِّ العصورِ والتّاريخِ شُعلةً ناريّةً موقَدةً حربًا، ما داهَمَتْها شيخوخةُ الرّمادِ، وقدْ طُرِدَ إبراهيمُ مِنها مِنْ أرْضِ بابِلَ، ولا زالَ آهِلوها يُطْرَدونَ ويُعانونَ بَطْشَ شُرورِ الوَثنيّينَ!

لا أعْرِفُ
كيفَ ستَمْرَحُ أعْلى القمْحةِ
وهَواؤُك وسطَ الابتهالِ يَسْألُ الهُبوب!

القمحة: رَمزٌ لِلحياةِ والخبزِ والإشْباعِ، رَمْزٌ للخيْرِ والرَّغَدِ والعيْشِ الهانِئِ، وقدْ كانتْ تُقدَّمُ سَنابِلُ القمْحِ على المَذابحِ، كيْ تُبارِكُها الآلِهةُ، وترضى عنهُم، وتَمنَحَهُمُ الخيْرَ، فكيفَ لِلقمْحَةِ هذهِ أنْ ترْمَحَ وتمْرَحَ وتَحيا دوْرتَها، وطواحينُ الهواءِ ساكِنةٌ، تتضرّعُ وتَبتَهِلُ لهُبوبِ الهَواءِ، لِتُحَرِّكَها وتَطْحَنَها؟
الشّاعِرُ بمُؤشِّراتِهِ العديدةِ، يُشَكِّلُ التّاريخَ ببِنائِهِ الجَديدِ، ويَرْسُمُ آفاقًا حافِلةً بدَلالاتٍ حَرَكِيّةٍ، تَسيرُ بوَقْعٍ بَطيءٍ ووامضٍ، حتّى يَصِلَ غايةً، تنتهي بالكثيرِ مِنَ المُعاناةِ والمُكابَدَةِ، وبِنَوْعٍ مِنَ اسْتكانةِ وَطَنٍ يائِسٍ خائِبٍ، مُثْقَلٌ مساؤُهُ بأغْبرةِ الغُربةِ!