الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءةٌ في قصيدةِ العطرِ الأزرق– للشاعرة آمال عوّاد رضوان بقلم: الناقد والشاعر د. جمال سلسع
قراءةٌ في قصيدةِ العطرِ الأزرق– للشاعرة آمال عوّاد رضوان بقلم: الناقد والشاعر  د. جمال سلسع

حينَ دخلتُ مَقرّ الشّبيبةِ العاملةِ والمُتعلّمةِ في النّاصرة، بتاريخ 8-7-2013، للاحتفاءِ بالشاعر جَمال سلسع وبصُدورِ ديوانِهِ الشّعريّ "ما زالَ يغسلُنا الرّحيلُ"، استقبلتني عزيزتي سلوى ناصر، وأخذتني مِن يدي لتُعرّفَني على الشاعر جمال سلسع، وحينَ سلّمتُ عليهِ، أمسكَ بيدي ونظراتُهُ الثاقبةُ تتأمّلُني قائلًا بنبرةٍ مَذهولة: أنت الشاعرة آمال عوّاد رضوان! أنتِ يا آمال قصيدة!
استغربتُ أنّهُ يَعرفُني وباسْمي الثلاثيّ، رغمَ أنّها المرّةَ الأولى الّتي ألتقيهِ وأتبادلُ معهُ الحديثَ، وتابَعَ: أنا أتابعُكِ في جَريدةِ القدس، فلَكِ فيها صفحةٌ أسبوعيّةٌ تقريبًا. وقد كتبتُ عنكِ عدّةَ قراءاتٍ نقديّةً، ألَمْ تقرئيها؟ أنا مِنَ المُعجَبينَ بشِعرِكِ، ولكنّي كنتُ قاسيًا في نقدي، لأنّي أحبُّ شِعرَكِ!


وقد أرسلَ لي القراءةَ بحسبِ وعدِهِ لأطّلعَ عليها، ولأنّني موضوعيّةٌ، وأحترمُ عينَ قارئي ورأيَ ناقدي، أقومُ بنشرِ هذه القراءةِ النقدِيّة، عِرفانًا للشّاعر الناقدِ جمال سلسع، واحترامًا للكلمةِ الصادقةِ، وتقديرًا للعينِ القارئة، وهذه هي القراءةُ الثالثةُ التي وصلَتني لقصيدةِ "مرّغوا نهديَّ بعطرِهِ الأزرقِ"، فقد سبقهُ إليها الشاعرُ والناقدُ العراقيُّ عبدالعزيز وجدان، وكذلكَ الناقدُ العراقيُّ علوان السلمان!
يقولُ الناقد الفلسطينيّ جمال سلسع:
تلجأ الشاعرةُ  في تجربتِها الشعريّةِ هذه،  إلى الاعتمادِ على الصورِ الشعريّةِ المُركّبةِ، في أغلب صوَرِ هذه القصيدة، فلا تجعلُها ترتاحُ على أنفاسِها، بل تتركُها تركضُ في لهاثِ عِطرِها. إنّ تتابُعَ هذهِ الصورِ المُركّبةِ وتراكُمَها، يُتيحُ لها فرصةَ الدّخولِ إلى ضبابيّةِ المَكانِ، وصعوبةِ التفسيرِ لدى القارئ.
مع أنّها تمتلكُ أدواتِها الشعريّةِ بجَدارةٍ، ولكنّها لا تنجحُ في توظيفِها شعريًّا، كما هو مُتوقّعٌ ممّن يَملكُ مثلَ تلكَ الأدواتِ الشّعريّةِ، إذ إنّ لكلِّ قصيدةٍ قضيّةٌ شعريّةٌ، وضوحُ هذهِ القضيّةِ أمرٌ هامٌّ. وهنا أحبُّ أن أُقدِّمَ لكِ يا آمال مثالًا واحدًا على ما طرحتُهُ بخصوصِ الصوّرِ الشعريّةِ المُركبّة، فمثلًا في هذا الشطرِ الشعريّ:
(بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّـى): صورةٌ شعريّةٌ جميلةٌ، ولكنّها غيرُ مُكتملة. إذ لم توّضحي بماذا يومضُ عطرُهُ العابثُ مثلًا، كي يرتاحَ على جَمالِ أنفاسِهِ، ويَستعدَّ لصورةٍ شعريّةٍ جديدةٍ، توسعُ تشكيلَهُ الجَماليّ. ولكنّكِ يا سيّدتي كسرتِ اكتمالَ هذهِ الصورةِ الجميلةِ، بإضافةِ صورةٍ أخرى جديدةٍ ومُلاصِقةٍ لها قائلةً : بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّى/ تـقـتـرِفُ تقوَى إشاعةٍ بشوشةٍ.
وهكذا يا آمال أغلقتِ نوافذَ هذا الجَمالِ الشّعريّ، مِن خلالِ تركيبِ صورةٍ جديدةٍ قبلَ أوانِها، وتمّ إضافتَها فوقَ الصورةِ الأولى، قبلَ أن تستنشقَ هواءَ راحتِها بينَ كلماتِها الجميلة، فجاءَ الضبابُ بعباءَتِهِ يَلفُّ هذا الجَمالَ الشعريَّ، خاصّةً وأنتِ تثملينَ بموجٍ مُستحيلٍ. تقولُ آمال:


"على عَنانِ بُشرى جائعةٍ/ تماوَجْتَ../ بليلٍ لائلٍ اقتفيْتَ فيْضَ ظِلِّي المُبلَّلِ/ بضوضاءِ أَصفادي/ أرخيْتَ مناديلَ عتبٍ مُطرَّزٍ بتعبٍ/ تستدرجُ بِشريَ المُستحيل/ وفي تمامِ امْتثالي المُتمرِّدِ تورَّدْتَ!
بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّـى/ تـقـتـرِفُ تقوَى إشاعةٍ بشوشةٍ / وأنا في سكرةِ أعماقي/ أثملُ بموْجِ مُستحيلٍ/ لا يُذبِلُ نُواحَهُ جنونُكَ!"
وما بينَ استدراجِ بُشرى المُستحيلِ وحتّى الثمالةِ منهُ، كانَ عِطرُهُ العابثُ يَمضي.. يتخفّى.. ويقترف. تقولُ الشاعرةُ: بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّـى/ تـقـتـرِفُ تقوَى إشاعةٍ بشوشةٍ
هنا يا آمال في الشطرِ الأخير، قد حمّلت التقوى (إشاعةً بشوشةً)، فأثقلتِ الصورةَ الشعريّةَ بضبابيّةِ التفسيرِ، لذا مِنَ الأفضلِ حذفُ إمّا كلمة (إشاعة) أو كلمة ( بشوشة)، فنمسحُ ثِقلَ الضبابِ عن هذا الشطرِ الشعريّ. أنا لا أريدُ أن أتصيّدَ بعضَ هذهِ الكلماتِ، الّتي تُلقي بضبابيّتِها على قصيدتِكِ الجميلة، ولكن حِرصي على إبداعِكِ واستمرارِهِ، يَجعلُني أُشيرُ إلى القليلِ مِن ذلكَ، كي تَخرجَ قصيدتَكِ جميلةً بمستوى تجربتِكِ الشعريّة.
بعدَ ذلكَ تنتقلُ الشاعرةُ مِن عِطرِهِ العابثِ إلى أناملِهِ الّتي تُقشّرُ سحابَ النعاسِ والتثاؤُبِ، وهي تُراقصُ نيرانَ أحلامٍ، قدِ استهوى طعمَها مَذاقَ الشاعرةِ، فتقول آمال:
أنامِلُكَ.. ما فتئتْ تتندَّى اشتعالاً دامِسًا/ تُقشِّرُ سحابَ وقتِي الموْشومِ بالنّعاسِ!/ ولمّا تزلْ تخلعُ أسمالَ تثاؤُبٍ/ كم تيمّنَ بالأزلْ!/ ولمّا تزلْ.. في سديمِ الصّمتِ المثقوبِ/ تمتطي تراتيلَ كَوْني الغافي!
أسرابُ وهنِكَ المغناجِ/ انسَلَّتْ/ تُراقصُ نيرانَ أحلامٍ / ما غابَ طعمُها عن لساني!
ثمّ تأتي إلى طيوفِ جراحِها الطّاعنةِ في سَرمديّتِها، على حيرةِ تَساؤلاتٍ مُتعدّدةٍ، فهل تُخدِّرُها وثُمولِها مِن نقشِ خشخاشِهِ؟ أم مِن تَعلُّقِ حَدْسِها الكفيفِ على موجِ فِردوْسِهِ؟ ولكنّ الشاعرةَ تتكسّرُ مُنصاعةً مِن سُيولِ تَمَرُّغِهِ، فيأتي الحبيبُ ويُرَصِّعُها بانكسارِها هذا، فتقولُ الشاعرةُ:
طُيوفُ جراحي طاعنةٌ في سَرمديّتها/ أسهْوًا.. / تَشدّقها سُهْدٌ أُسطوريُّ الملامِحِ؟/ أَشابَها خَدرُ نَقْشِكَ الخشْخاشِ؟/ أَعلَّقْتَ حَدْسِيَ الكفيفَ/ على مِقبضِ موجِكَ الفردوسيِّ؟
زفراتُ نجومي جرَفَتْها سيولُ تمرُّغِكَ/ حينما غرَّها بَسْطُكَ المُهترِئُ/ وَ.. على مَقامِكَ المرْكونِ/ مُــنْــصَــاعَــةً
تَــكَــسَّــرَتْ/ وَ.. رصَّعتني بانكساري!
وتؤكّدُ الشاعرةُ المُنصاعةُ، أنّ الحبيبَ مَضى يَستبيحُ رفوفَ انشطارِها ( انكسارِها) بجَناحَيْ جُنونِهِ، وهو يَمتشقُ إغواءاتِ احتضارِها، ويُسمِّرُها بعدَ أنْ خطفَ قصاصاتِ توْقِها، بينَ وعودٍ مُؤجّلةٍ وجدرانَ تتهاوى. تقول آمال:
بجناحَيْ جنونِكَ انبثقْتَ عائِمًا تُرفرِفُ/ اضطرَبْتَ هائِجًا تُهفهِفُ/ تَستبيحُ رُفُوفَ انشِطارٍ/ لَكَمْ صَفّدْتَهُ بضياعي المُنمْنَمِ/ كي تمتشِقَ إِغواءاتِ احتضاري!
فتائِلُ دهشةٍ/ خطفَتْ قُصاصاتِ تَوْقي مسحورةَ الطّوقِ/ سمّرْتَني/ بينَ وعودٍ مُؤجّلةٍ وجدرانَ تتهاوى!
وتحترفُ الشاعرةُ تضميدَ حُروقِ حروفِها، مِن ريحِ العاشقِ الضريرةِ، الّتي شبَّ لهيبُها في اقتفاءِ أثرِها، وهوَ يتمرّدُ ويتبغددُ على هذه الحبيبةِ في مَحافلِ الترقُّبِ. تقول آمال: خُطى ريحِكَ الضّريرَةُ وَشَتْ أجنحتكَ/ شبَّ لهيبُها في اقتفاءِ أثري/ تنيْرَنْتَ! / تبغْدَدْتَ!/ وفي مَحافِلِ التّرقُّبِ/ احترفتَ تضميدَ حروقِ حروفي!
وهذهِ الحوريّةُ العاشقةُ الجميلةُ تستجيرُ، لأنّهُ سَباها في عِشقِهِ، وبعثرَ وجهَها في ذاكرةِ الحُجُبِ، وابتلعَ ذيْلَها الذهبيَّ، لأنّهُ أغواها في حُبِّهِ. تقول الشاعرةُ:- ألْسِنةُ بوْحي النّاريِّ/ طليتَها بوَشوشةٍ انبجَسَتْ تستجيرُ:
سرابُ حوريّةٍ أنا؛/ إِلى مسارِبِ الوَهْمِ أَغواني/ بثوْبِ السّباني.. سَباني/ بَعثرَ وجهيَ في ذاكرةِ الحُجُبِ/ وَابتلعَ ذيليَ الذّهبيّ!
وهي تستجيرُ تارةً بـ (رُفقاءَ الأسمى) وطورًا بـ (سليمان الحكيم)، لأنّ حبيبَها قد تعنّقَ مُنتشيًا نحوَ عشِّ النارِ، ولكنّها في نهايةِ تجربتِها الشعريّةِ، تستظلُّ تحتَ ظلالِ هذا الحُبِّ (عشِّ النار)، وهي تَهُزُّ قلائدَ سمائِها غيثًا يَتضوّعُ حُبًّا، وهي تتلهّفُ لعِطرِهِ الأزرقِ يُمرّغُ نهدَيْها. تقولُ آمال: يا رُفقاءَ الأسمى/ بوّابةُ سمائي مَحفوفةٌ بهياكِلَ مَجْدٍ/ ساحَ ضوؤُها زركشةً تتجَنّحُ/ وما انفَكّتْ بأهدابِ الذّهولِ تتموّجُ
اِستنيروا بي!/ لَدُنِي المُقدّسُ كَمِ ازدانَ بأرياشِ الشّمسِ/ وَمُنتشيًا / تَعَنّقَ نحوَ عُشِّ النّارِ!
بسليمانَ أغيثوني/ بأسرابِ جِنِّهِ؛ تَحفُرُ قاعَ بَحري أَفلاجًا/ تُهْدينيها في ليلةِ عيدي/ مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ/ لتهُزَّ قلائدُ سمائي غيثًا.. يتضوّعُ حُبّا.
يا رُفقاءَ الأسْمى/ مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأَزرقِ/ وزُفُّوا إليَّ.. ذيْلِيَ الوضّاء!
الشاعرةُ هنا تنقشُ تجربتَها الشعريّةَ بمَذاقٍ أنثويٍّ، وهي تبحثُ عن بُشرى جائعةٍ، تستدرجُها حتّى تثملَ بها. فكيفَ كانتْ حالةُ الشاعرةِ، مِن خلالِ هذهِ التجربةِ، وهي تستغيثُ كي يَحصلَ نهداها على عِطرِهِ الأزرقِ؟ نستطيعُ تلخيصَ ذلكَ على النّحوِ الآتي:-
موقفُ الشاعرةِ: الثّملُ. وموقفُ الحبيبِ: يُقشّرُ النعاسَ!
موقفُ الشاعرةِ: تشتعلُ شهوتُها. وموقفُ الحبيبِ: يُراقصُ نيرانَ أحلامِهِ!
موقفُ الشاعرةِ: انكسَرتْ مُنصاعةً. وموقفُ الحبيبِ: رَصَّعَها بانكسارِها.
موقفُ الشاعرةِ: احتضارُها. وموقفُ الحبيبِ: استباحَ انكسارَها.
موقفُ الشاعرةِ: تَسمّرَتْ. وموقفُ الحبيبِ: خطَفَ قصاصاتِ توْقِها.
موقفُ الشاعرةِ: احترفَتْ تضميدَ الحُروقِ. وموقفُ الحبيبِ: أشعلَ لهيبَها.
موقفُ الشاعرةِ: تَستجيرُ لأنّهُ سَباها. وموقفُ الحبيبِ: ابتلعَ ذيْلَها الذهبيّ.
موقفُ الشاعرةِ: تستغيثُ بسليْمانَ. وموقفُ الحبيبِ: تَعنّقَ نحوَ عُشِّ النار.
موقفُ الشاعرةِ: تتضوّعُ حُبًّا. وموقفُ الحبيبِ: عِطرُهُ الأزرقُ يُمرِّغُ نَهدَيْها.
فعندما تثملُ الشاعرةُ ببشرى المستحيلِ، تُقشِّرُ أناملُهُ هذا النعاسَ والتثاؤبَ، وعندما تبدأ تُراقصُ نيرانَ أحلامِهِ، تشتعلُ شهوتُها بطَعمِهِ الّذي ما زالتْ أشواقُهُ على لِسانِها. وعندما انكسرَتْ مُنصاعةً، رصّعَها بلهفةِ انكسارِها. وعندما استباحَ انشطارَها (انكسارَها)، كانت في إغواءاتِ احتضارِها. وعندما خطفَ قصاصاتِ توْقِها، تسمّرتِ الشاعرةُ بينَ وعودٍ مُؤجّلةٍ، وجُدرانَ تتهاوى. وعندما شبَّ لهيبُها في اقتفاءِ أثرِ الحبيبِ، احترفَتْ تضميدَ حُروفِ حُروقِها. وتستجيرُ الشاعرةُ لأنّهُ سَباها، عندما ابتلعَ ذيْلَها الذهبيّ. ولمّا تعنّقَ نحوَ عُشِّ النّارِ، بدأتْ تَستغيثُ بسليمانَ ورُفقاءِ الأسمى. وعندما تضوّعتْ حُبًّا، كانَ عِطرُهُ الأزرقُ يُمرّغُ نهدَيْها.
إنّ هذا الترتيبَ الشعريَّ الجَميلَ يُوحي بجَمالِ القصيدةِ، فزيدي هذا الجَمالَ جَمالًا، واستغيثي بقدرتِكِ الإبداعيّةِ، فأنتِ قادرةٌ على الابتعادِ عن الضبابيّةِ في بعض الصورِ الشعريّةِ، واجْعليها ترتاحُ على عِطرِ جَمالِها، وحافظي على وُرودِ أنفاسِها، لأنّكِ مُبدعة.