السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الواقعيون الفلسطينيون الجدد/بقلم د.ابراهيم ابراش
الواقعيون الفلسطينيون الجدد/بقلم د.ابراهيم ابراش

الواقعية السياسية نظرية أو مقاربة للتحليل السياسي تشكل النقيض للنظرية المثالية.الأولى تنطلق من الواقع والمصالح المتضاربة والقوة وتوازناتها،والثانية تنطلق من الأخلاق والمُثل العليا وما يجب أن يكون.غالبية سياسات الدول والفاعلين السياسيين في عالم اليوم تقوم على الواقعية السياسية حتى وإن تكلموا بلغة الأخلاق والمبادئ .

ولكن يبدو أن للواقعية السياسية سمعة سيئة تقوم على اختلاطين أو فهمين خاطئين لها: الأول يجعلها رديف الاستسلام للأمر الواقع،والثاني يجعلها رديف القوة الغاشمة المنفلتة من كل ضوابط أخلاقية .فيما الواقعية السياسية غير ذلك، فهي لا تعني الاستسلام للأمر الواقع كما يقول الأولون و كما تُفهم عند البعض في العالم العربي،ولا تعني أيضا سياسة القوة المجردة والمبنية على المصلحة وتوازن القوى كما يقول الآخرون وكما تُفهم وتُمارس عند الغرب،الأولون يبررون عجزهم واستسلامهم للأمر الواقع بالقول بأنهم واقعيون،والآخرون يبررون عدوانهم وهيمنتهم وتجردهم من أي ضوابط أخلاقية أو قانونية بالقول بأنهم واقعيون.

السياسة الواقعية العقلانية تعني إعمال للعقل الجمعي للأمة لاستنهاضها اعتمادا على معطيات الواقع الحاضر الملموسة والكامنة،وانطلاقا من حقيقة أزلية مفادها أن لا شعب يخلو من مصادر القوة . إجرائيا فإن العقل الجمعي المقصود هو الذي تُعَبِر عنه قيادة وطنية توافقية ،بما يتضمنه من إيمان بالشعب وبحقوقه الوطنية الثابتة،وبما يتضمنه من ثقافة وتجسيد وفهم لتاريخ الشعب وقيمه . إن العقل الجمعي الواقعي وهو الذي يموقع الواقعية في الفكر والممارسة،إما كاستسلام وخضوع للأمر الواقع مما يجر الشعب للكارثة والتفريط بحقوقه الوطنية ،أو تجاوز وتطوير لهذا الواقع بالتمرد عليه واستنهاض مقدرات الأمة . بمعنى أن الواقعية بحد ذاتها وبمفهومها العلمي العملي ليست أمرا سلبيا ولكن الخلل في فهم وتفسير النخبة السياسية للمصطلح ،وإسقاط المصطلح على سلوكيات انهزامية ،أو توصيف التنازلات للعدو بأنها تندرج تحت عنوان الواقعية السياسية .

من هذا المنطلق لا تعني الواقعية العقلانية هيمنة القوى على الضعيف ولا خضوع الضعيف للأمر الواقع الذي يفرضه القوي ، بل هي نمط تفكير ونهج عقلاني في الممارسة السياسية يقوم على فهم الواقع وموازين القوى التي تحكمه والبيئة الداخلية والخارجية المؤثرة فيه، وتعني تجاوزا لحالات اليأس والإحباط ،والإيمان بأن الشعب يمكنه حتى بالاعتماد على ذاته مواجهة العدو إن لم يكن للانتصار عليه حاليا فعلى الأقل للحفاظ على الذات الوطنية ومنع مزيد من التنازلات.هذه الواقعية السياسية تحتاج لقيادة سياسية وطنية ذي بصيرة وتعرف ما تريد ،ومشروع سياسي وطني محل توافق غالبية القوى السياسية ،وعندما نقول غالبية القوى السياسية فلأن الواقعية تقول بصعوبة حدوث إجماع كامل في الحياة السياسية .

ومن هنا يمكن القول بأن الواقعية السياسية العقلانية للشعوب ليست أمرا سلبيا بالمطلق ، إنها تحقيق الممكن في الطريق نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي إن كان العقل الجمعي للأمة مؤمن ومتمسك بثوابت الأمة ومصالحها الإستراتيجية. كل فعل سياسي على مستوى القرارات المصيرية للأمة يجب أن يؤَسس على العقلانية وليس على تهويمات الايدولوجيا والأساطير والتاريخ غير التاريخي،وعلى تخليق الممكن من وسط عدم واقع أو عدم أحلام وأوهام.عندما تؤسَس السياسة على الأيديولوجيات فقط ، وهذه الأخيرة انقسامية وحالة عابرة ومتقلبة، تصبح السياسة أسيرة لها ويصبح مصيرها مرتبط بمصير الايدولوجيا ومن يَنظُم مقولاتها من أحزاب وزعامات.

سواء كنا أمام سياسة ديمقراطية أو ثورية أو تحررية فالواقعية ضرورة .الواقعية لا تعني الاستسلام للأمر الواقع بل فهم الواقع بكل سلبياته وقسوته ثم وضع خطط إستراتيجية لمواجهته وتجاوزه بما هو ممكن ومتاح من مصادر القوة والقدرة.وعندما تكون السياسة متعلقة بعلاقات بين طرفين فيها اختلال بيٌن في موازين القوى – كما هو الحال بين الشعب الخاضع للاحتلال ودولة الاحتلال - فإن واقعية الطرف الضعيف تأخذ شكل التدرج في تحقيق الأهداف وتوسُل كافة السبل لتحقيقها بما في ذلك شبكة تحالفات دولية وإقليمية وما هو متاح من دعم وتأييد توفره الشرعية الدولية والرأي العام العالمي،ولكن كل هذه العناصر الخارجية تشكل عوامل مساعدة وداعمة للفعل الوطني ،فبدون مشروع وطني يعبر عن فكر وثقافة وهوية وطنية وإستراتيجية وقيادة وطنية فلن يكون هناك أية فرصة لإعمال العقلانية السياسية وسيبقى الشعب الخاضع للاحتلال محل تجارب كل أيديولوجية جديدة وكل حزب ناشئ فيما الواقع يتشكل حسب مشيئة العدو.

في فلسطين وعند النخب السياسية فيها، ارتبطت الواقعية السياسية غالبا بشبهة التنازل عن الحقوق والثوابت. من واقعية الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية،إلى واقعية الاعتراف بإسرائيل، إلى واقعية التسوية واتفاقية أوسلو، إلى واقعية دولة غزة والضفة، إلى واقعية استحالة حل الدولتين والبحث عن بدائل،إلى واقعية إدارة الانقسام . كانت واقعية المرحلة العرفاتية واقعية الثوار المجروحين والمحاصرين الذين انحنوا للعاصفة حتى لا يُقتلعوا ويُقتَلع المشروع الوطني من جذوره،وواقعيتهم لم تقطع جسور العودة للمقاومة ولم تقطع الصلة بالجماهير وإمكانية المراهنة عليها . أما واقعيو ما بعد العرفاتية وخصوصا ما بعد الانقسام فواقعيتهم ونهجهم أقرب للوقوعية والاستسلام لإرادة واشنطن وإسرائيل. اليوم يتنافس ويتسابق كثيرون،بعضهم ينتمي للحزبين الحاكمين وآخرون متساقطون من أحزابهم ،ومتسلقون وانتهازيون ومتطلعون للسلطة وإمعات متحذلقون ... يسعون وراء مصالحهم الخاصة التي راكموها على حساب القضية الوطنية أو الذين يتطلعون لأدوار قادمة بعد أن باتت الساحة الوطنية تفتقر للقادة العظام، يتنافس ويتسابق هؤلاء (الواقعيون الجدد) ليطلقوا رصاصة الرحمة على المشروع الوطني معتقدين واهمين أنه مات وأصبح ذكرى من الماضي !.

على قدم وساق وبالعلن حينا وبالخفاء حينا أخرى تجري عملية إدارة الانقسام وبالتالي وأد المشروع الوطني الفلسطيني الذي قدم الشعب الفلسطيني من اجله عشرات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى ،المشروع الوطني الذي استشهد من أجله الرمز أبو عمار ومن قبله ومن بعدة عشرات القادة العظام: أبو يوسف النجار ،أبو جهاد ،أبو إياد ،أبو الهول ، سعد صايل ،أبو على إياد ،غسان كنفاني ، فتحي الشقاقي ، أبو علي مصطفى ، الشيخ أحمد ياسين ، الرنتيسي وأبو شنب الخ ، اليوم يلعب متسلقون وانتهازيون بالمصير الفلسطيني من خلال استكمال المخطط الصهيوني الأول للتسوية والذي يقوم على منح الفلسطينيين دويلة في غزة فقط ،وهو ما أُعلِن عنه بداية التسوية ،إنهم ينفذون ويستكملون ما بدأ بتنفيذه شارون من خلال الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة عام 2005.

يقوم واقعيو زمن الرداءة والردة الوطنية ،تحت عنوان الواقعية والتباكي على الشعب الفلسطيني وخصوصا على أهالي قطاع غزة ،بتجميل الفشل والانقسام من خلال الحديث عن إدارة مشتركة للقطاع أو كنفدرالية بين الضفة وغزة،ولا ندري لماذا هؤلاء الواقعيون من المثقفين والأكاديميين وإقطاعيي مؤسسات المجتمع المدني لا يقومون بتشغيل عقولهم بإبداع وسائل نضالية لانتفاضة جديدة لمواجهة الاحتلال والاستيطان والحصار بدلا من (الإبداع ) المشبوه بكيفية إدارة الانقسام أو المشاركة بإدارة دولة غزة العظمة ؟. لماذا يُسقط هؤلاء الواقعيون الجدد على الشعب إحباطهم وفشلهم وارتباط رؤاهم بمصالحهم السياسية وبأجندة مشبوهة ، فيما لم نسمع أن الشعب اشتكى لهم أو خرج بمسيرة أو مظاهرة مطالبا بالتنازل عن حقوقه أو فوض نخبته السياسية بالتفريط بها؟ لماذا لا يُبدع الواقعيون الجدد أساليب نضالية لا تنبني على الانقسام وحالة البؤس في قطاع غزة بل تنبني على أننا شعب تعداده حوالي 12 مليون نسمة نصفه في الشتات ما زال متمسكا بحق العودة ونصفه الآخر ما زال في الوطن ،وهذا النصف يقترب تعدداه من تعدد الإسرائيليين،إبداع ينبني على أن فلسطين موجودة منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، وليست نتاج سايكس- بيكو ولا قرار التقسيم 181 ولا نتيجة قرار الجمعية العامة الأخير بالاعتراف بفلسطين دولة مراقب؟.

10‏/11‏/2013

[email protected]