الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الزائر الفلسطيني دفنه الحنين والزائر الاسرائيلي شبع من الترحيب ....شوقية عروق منصور
الزائر الفلسطيني دفنه الحنين والزائر الاسرائيلي شبع من الترحيب ....شوقية عروق منصور

 يستطيع المرء أن يبعثر الصور ، ويرمي بعض من ذاكرته في أقرب صندوق للقمامة، ولكن هناك أبجدية التفتيش التي تتحدى النسيان والهدوء ، حين تبدأ الأصابع في تقليب الصفحات المحشوة بالمسامير ، ما عليك سوى نزع المسامير لتخلف وراءها حفراً صغيرة . تنبعث منها أشعة الوجوه الغائبة .

في يوم استيقظت على الحاح بصوت كالرعد من طرف أحد أقاربي ، الزائر للوطن بعد غربة قسرية استمرت عشرات السنين في إحدى الدول العربية، وبعد تقديم عدة طلبات للزيارة، كان خلالها يحاول إيقاف خطوات الموت، لعله يرانا ونراه " ويشبع منا كما كانت تردد جدتي " ولولا الواسطات وتدخل أحد أعضاء الكنيست لما كانت الزيارة لوطنه الذي هُجر منه عام 48 .

استقبل الزائر الغائب الأقارب الذين توافدوا الى بيت شقيقه ، ووقعوا فوق ذاكرته حكاياتهم واشتياقهم، كان أحياناً يتذكر الوجوه التي تسأله بفرح – عارفني - وأحياناً يتأمل ويجر النسيان لعله يفتح له الأبواب ولكن هيهات ويخجل.. ويردد يلعن أبو الغربة ، يلعن أبو النكبة . الزائر الغائب احتضن وقَبل وبكى بحرقة وحكى عن لجوئه وألمه وخوفه من الموت قبل أن يضمنا ويشمنا ويتنفس هواء بلاده ، وسار بهدوء على ضفة نهر حياته حين سألناه عن الوضع السياسي في بلده ، ورأيت بريق عدم الثقة يلمع في عينيه، أنه لا يثق بنا .. وردد بسخرية " أه يا ليل يا عين " كأنه أراد بهذه العبارة الموسيقية إنهاء الحديث ، وعذرناه .. لأن الجدران المصنوعة من العيون والآذان قد أوسعته رعباً من كل شيء .

الحاح هذا الزائر الغائب في الصباح المتوهج بصحون الفطور التي تمتد على المائدة المليئة بما لذ وطاب، كان يصب في عبارة واحدة ، أريد رؤية بيتنا في المجيدل – مجدال هعيمق حالياً .! وطلبنا منه تناول الفطور .. رفض وأصر أن يتناول فطوره في ساحة بيتهم. لم نرد أن نكسر أحلامه ، ونحطم ما تبقى في خياله من بقايا صور عن بيتهم ، قلنا سنأخذه الى هناك ويرى ما رأيناه منذ زمن طويل ،وحشرنا في زاوية من الذهول الممزوج بالبكاء الصامت .

حين دخلنا الى الطريق المؤدية الى قرية المجيدل، لم يصدق ، كل شيء اختلف ، كنت أرى ملامح وجهه تتجهم وتغرق في عرق أخذ ينبت من حيرة وعدم تصديق ، ومع الشرح الذي كان يسقط على أرض أصبحت تبتعد عنه ، كان أبي يقول ، هنا كان بيت فلان ، وبيت فلان .. والمطحنة .. بيت المختار .. وهنا بيتكم .. وقفت السيارة بعيداً، مع صمته كنت أعرف أنه يرسل رسائل الى أحاسيسه التي كذبت عليه وقامت بتشويه سنواته ، حين احتفظت بصورة لبيتهم ، وبجدرانه العالية ، سمعت صوت صمته وهو يتساءل ، ثم همهم ، كيف صغر – العقد الكبير – وتحول الى بيت تحيط به حديقة مسيجة بقضبان تدلت من أطرافها نباتات خضراء ، وأين اختفت الساحة الكبيرة وبئر الماء الذي كان يتوسطها ، لسخرية الأقدار رأى الدلو – تنكة صدئة - الذي كانت والدته تنشل بواسطته الماء من البئر، مرمياً بعيداً ، الظاهر أن الدلو – التنكة - كان سابقاً قد تحول الى حاوية للنفايات ، لقد عرف الزائر الدلو من الذراع الحديدي الذي قام والده بتركيبه لكي يسهل ربط الحبل عند نشل الماء من البئر .

أراد أن يلف حول البيت ويأخذ الدلو المرمي بعيداً ، لكن منعناه خوفاً من اتهامنا بالسرقة، واذا امسكوا بنا كيف نفسر هذه السرقة الساذجة في زمن السرقات الكبيرة. من بعيد ، كنا مجموعة برفقة الغائب الزائر، نتأمل البيت ولا نستطيع الاقتراب ، مع إصرار الزائر على الدخول ، كان لا بد أن يقترب أحدنا ويقرع الجرس ، لكن قبل الاقتراب خرج صاحب البيت ، وأخذ يشتمنا ، ويصيح بأعلى صوته ، ماذا نريد ؟

ولماذا نراقب بيته ?

حاولنا توضيح موقفنا أن مالك البيت الحقيقي يريد رؤية بيته ، فقد جاء من بعيد، وأمنيته رؤية بيتهم القديم من الداخل .

وكأننا أشعلنا النار في ثيابه ، أخذ يصرخ ويشتمنا هذا بيتي .. اطلعوا من هون يا لصوص ، ووصل صوته إلى الجيران الذين قدموا وأخذوا يشاركون في الشتم وفي رمي الحجارة علينا ،حتى هربنا من أمامهم . حين وصلنا الى بيتنا ، نظرت الى وجه الزائر ، شعرت أن التجاعيد في وجهه قد ازدادت عمقاً ، وأن الزمن قد ركض به وأصبح عجوزاً ، وتساءلت كيف كبر فجأة ؟ أم أنني لم أكن أراه جيداً ؟ . استمرت زيارته عدة أيام ، لم يعد ذلك الزائر الذي كان يحمل الكلام على أجنحة الضحكات ، ويحاول تمرير الابتسامات حتى لو تحدث عن الصعوبات والسجون والمذابح التي عايشها ، وعندما ودعناه ، حاول ترويض شفتيه على الابتسامة ، لكن الدموع سبقت الترويض وسالت بين التجاعيد ، هذه آخر صورة له ، من خلف زجاج السيارة التي كانت تسير بسرعة كأنها تريد أخذه الى مكان بعيد .. وبعد عدة أشهر توفي، وما زالت نظراته الأخيرة تتهم الأقدار بأن أمنيته برؤية بيته لم تتحقق . الزائر الآخر " آفي غباي " رئيس حزب العمل الإسرائيلي سافر مع زوجته وأولاده الى المغرب ، لكي يزور مسقط رأس والده وأخوته – هو من مواليد إسرائيل - فوالديه ينحدران من المغرب ، الدار البيضاء ، مع أن " آفي غباي " صهيوني يميني الى حد الانصهار ، ويُصرح خلال مقابلاته بأنه ضد قيام فلسطينية ، وضد السلطة الفلسطينية ومع استمرار الاستيطان ، ويتباهى بالمستوطنات ..وو من الشعارات الصهيونية العنصرية الرنانة التي أصابتنا بالتخمة السياسية من كثرت تكرارها . هذا " الغباي " بكل وزنه العنصري ، يلقى الترحيب والاحتضان في المغرب ، حتى أنه – غباي – من شدة دلاله يعتب على " غوغل " الذي تجاهل القرية الصغيرة التي ولد فيها والده ، و التي تقع نواحي مدينة " دمنات " المغربية ، والتي بقي يفتش عنها ، حتى وجدها ، وهناك قابل الجيران الذين عرفوا والده ، وقد تحدث معهم بلغتهم المغربية، وقد قاموا بواجب الضيافة المغربية اتجاهه، لم يطرده أحد ، ولم يُشتم ويضرب بالحجارة، وعاد الى دولته منتصراً شامخاً مفتخراً بالاستقبال المغربي. قد تكون طرق الوصول الى الوطن عمياء ، لا ترى الخطوات ، ولا تجاعيد الزمن ، ولا تقرأ الوجوه ، لكن مخالب الحنين تخرمش وتترك أثراً ، حنين الفلسطيني الى بيته تحول الى خوف وهروب وموت أمل ، حنين اليهودي الى بيته تحول الى سحر وفرح وانتصار وولادة أمل .