الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
ينابيع حلم...ألاء معالي
ينابيع حلم...ألاء معالي

شارعٌ يعدو مسرعاً للوراء وكأنّه يسابق الزمان ، أشياءٌ تلوح بمحاذاته ثم تختفي في ثوان، شمسٌ تصافح الأفق وسحبٌ خريفيةٌ تتسلل إلى نفقٍ من سراب، قطراتُ ماءٍ تلاطم ناظريه من فوق زجاج، وأمواجٌ بشريةٌ مبعثرةٌ على لوحةٍ ضبابيةٍ ذاتَ مساء.. ضجةٌ باهتةُ الألوان ترسم خلفيةَ مشهدٍ غير واضح الأركان، مشهد يبدو حيا مزدحمًا إلا منه..  على كرسيه بمحاذاة نافذةِ الحافلة يصارع سكونًا مخادعًا يحتويه.. جالسٌ بجسده المنهك،  ذهنه الشارد ،و نظرات ضيقة عشوائية الاتجاه.

هو هنا، وحقاً هو  ليس هنا!

عيناه تنظران ولا تريان! 

و أذناه تسمعان ولا تنصتان !.. مأسورٌ هو بنفاق حضوره ومقيدٌ بفوضوية حواسه، 

فكلّ ما فيه مجذوبٌ لغير مكان،  ووحده عقله مشتعلٌ بحطب ونيران بلا دخان. مشدودٌ لسطوة ذاك المشهد الذي لا يراه إنسان؛  فوحده المتابع لفيلم يعرض على شاشات ذاكرة الرّماد،وبينما هو يحاول أن ينفض أصابع ذهنه من الرّماد،  يُشّغل السائق أغنية ليتحايل -على مَن أجسادهم مَرمِيّة على كراسٍ - بأنّها سَتُريحهم و تَمتصُ ضجرهم إن طال الطريق.. وبين ألحانٍ حزينة وأخرى سعيدة تتفنن تلك النيران بعزف مقطوعاتٍ موسيقيةٍ برائحةِ الذكريات،  وإذ بمشاهد الفيلم تكتمل لتباغته بالرّماد يكسو كلّ شبرٍ منه.

 وكما الغريق يتعلق بقشة، هو أيضًا وسط سُحب من رماد يتعلق بفترة.. تلك الفترات التي نَمرُ بها جميعًا،  فتراتٌ واقعةٌ في نقطةِ زمانٍ مرسومة خارج حدود مثالياتنا.. فترات لفرط براءتنا نتوهم أَبديّتها،  تَرمينا فيها حبالُ القدرِ  على مفترقِ طرقٍ ثمّ تترُكُنا ليعترض طريقنا أحداثاً آنيةً بجمالها،  قذرةً بزيفها، فتراتٌ يشغلها أشخاص يسقطون سهواً في قلوبنا ثم يبقون عالقين في عالم ذكرياتنا.. تلك الفتراتُ التي ما نلبث أن نستيقظ مفزوعين مستهجنين من أنفسنا تحت تأثير تلك الأيادي بجراعتها الخبيثة.. فتراتٌ تخلينا فيها عنّا،  مزّّقنا مبادئنا التي طالما رفعناها شعاراً لنا و لبسناها في صدد الحياة. منطقيًا،  يتوجب علينا أن نمتن لتلك الفتراتِ الجميلة القذرة معاً، فهي حقًا من صقلت ما نحن الآن عليه من قوة .فعلى أيةِ حال، القادم ُهو مرمى الهدف.

 هو ذا كليلٍ يتبدد أمام أشعة الفجر، يتمسك بتلك النقطة من ماضيه، وبرغم صلابته يلين لها، يسمح لها أن تُفجر ينابيع حلمٍ قد احترق علَّها تنبت براعمَ لحلمٍ جديد.

وحده جَليس النافذة من يجهل تفاصيل الطريق.. فبين طرقٍ و منعطفاتٍ و إشاراتِ مرور يخلو بنفسه خلسةً و يسترقُ  السير حافياً على منعطفاتٍ خاصةٍ به وخطوطٍ تصل نقاطاً لا يُدركها سواه... صوتٌ يأتي من بعيد ينتشله من سحر نافذته المطلة على عبثية القدر فيُسارع بارتداء حذائه مجدداً، يُغير بوصلةَ أفكاره و يُعيد روحه لذاكَ الجسدِ المَرميّ على الكرسي.. "تفضّلوا بالنّزول، قد وصلنا المحطة"..

 محطةٌ لبدايةِ فترةٍ جديدةٍ رُبما ستتعلقُ بها عند نافذتك القادمة!