الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
طائر الفينيق 'أوغست ستريندبيرغ' ... ترجمها عن السويدية: فرمز حسين
 طائر الفينيق  'أوغست ستريندبيرغ' ... ترجمها عن السويدية: فرمز حسين

 كان ذلك في موسم الفراولة البرية في حديقة الكاهن حين رآها أول مرة. كان قد رأى قبلها فتيات كثيرات، لكن حين وقع نظره عليها عرف أنها هي، إلا أنه لم يجرؤ على قول شيء. ابتسمت له. كان لايزال تلميذاً في الإعدادية، لكنه عاد مرة أخرى وهو طالب جامعي، فقبّلها، ورأى توابيت المدافع وسمع أصوات الناقوس وبوق الصياد وشعر بالأرض وهي تتزلزل من تحت قدميه. كانت صبية في الرابعة عشرة من عمرها. نهداها ممتلئتان ومتوثبان عالياً وكأنهما بانتظار أنوف طامعة صغيرة، وأياد صغيرة خبيرة مداعبة. مشيتها كانت واثقة. شعرها كان أصفر كثيفاً وكأنها قطعة عسل على الرأس تترك رذاذاً من الماء من فضاء جبينها، العين كانت حارقة والجلد أملس ناعماً مثل قفاز اليد. كانت خطيبته ويتبادلان القبلات مثل طيور الحديقة تحت ظلال الزيزفون في الغابة، والحياة ماثلة أمامهما كمرج مضيء لا مثيل له، ولكن كان عليه أن ينتهي من دراسته أولاً، وأن يحصل على شهادته وهذا كان يتطلب عشرة أعوام خارج البلد! عشرة أعوام!

 وهكذا ذهب إلى أوبسالا، وفي الصيف عاد إلى حديقة الكاهن مرة أخرى. كانت جميلة كما كانت من ذي قبل. ثلاث مرات عاد إلى الحديقة. لكنها في المرة الرابعة كانت شاحبة. وثمة خطوط حمراء صغيرة بدت في زوايا أنفها، صدرها كان قد انخفض، حين جاء الصيف للمرة السادسة كانت تتناول عقار الحديد، وفي الصيف السابع كانت تنتقل إلى منتجع على البحر، في الصيف الثامن كانت تشكو من وجع الأسنان وكانت عصبية المزاج. الشعر كان قد فقد بريقه والصوت أجش ونقاط سوداء على الأنف، صدرها كان قد اختفى وتكورات جسدها كانت قد زالت وخداها تجوفا. في الشتاء أصيبت بحمى العصب وكان عليها حلاقة شعرها. وحين نبت من جديد أصبح لونه أشقر رمادياً. هو كان قد وقع في غرام فتاة شقراء في الرابعة عشرة من عمرها، ولم يكن يتخيل أبداً بأن ينظر إلى أخرى ذات شعر بني اللون، ولا أن يتزوج بتلك التي في الرابعة والعشرين، والتي لم تكن تريد أن تكون محظوظة كعروس. لكنه مع ذلك أحبها. حبه لم يكن عاصفاً كما كان، ولكن كان ثابتاً وهادئا، وفي تلك المدينة الجبلية الصغيرة لم يعكر صفو سعادتهما الهادئة أحد. أنجبت طفلين واحداً تلو الآخر، لكن الرجل كان يريد من كل قلبه أن تأتيه ابنة. وحينها رزقا بمولودة، بطفلة شقراء صغيرة، صارت قرة عين أبيها.

كبرت وأصبحت شبه أمها، أصبح عمرها سبع سنوات وبعمر الثمانية أصبحت صورة عن أمها حين كانت صبية هي الأخرى. والأب لم يكن يلهيه أي شيء آخر عنها في عطلته. الأم كانت منهمكة بأعمال البيت وأصبحت يداها خشنتين. أنفها أصبح كقناع وصدغها أجوف. كانت تُشاهَدُ دوماً وهي واقفة بانحناء من فوق الموقد. فكانا يلتقيان فقط عند الوجبات على مائدة الطعام وفي الليالي. لم يكونا يتشاجران أبداً. لكنهما لم يكونان كما كانا من قبل أيضاً.

في إحدى الصباحات بقيت نائمة في السرير ولم تكن تريد النهوض. الأم ظنت بأن ذلك نتاج مرض المدرسة، لكن الأب استدعى الطبيب. ملائكة الموت كانت قد جاءت لزيارتهم، لقد كانت مريضة بالدفتيريا. أحد الوالدين يجب أن يغادر البيت إلى المدينة مع بقية الأطفال، الأب لم يرغب في أن يهرب. الأم يجب أن تغادر البيت إلى المدينة مع بقية الأطفال والأب مكث مع المريضة. وها هي طريحة الفراش الآن، ودخان الكبريت المستخدم في البيت حوّل إطارات الصور الذهبية إلى سوداء، وحتى الأشياء فضية اللون في الحمام أيضاً أصبحت سوداء.

الأب كان شارد الفكر وهو يمشي في الغرف الفارغة، أو في الليل عندما كان يستلقي وحيداً على السرير الكبير يشعر بنفسه وكأنه أرمل، اشترى ألعاباً للصغيرة وهي طريحة الفراش. سألت عن أمها وعن أخوتها. والأب خرج برأسه من النافذة، وأومأ للأم وأشار للأولاد ملوحاً بقبلات عن بُعد. والأم أرسلت تلغرافاً على صفحات أوراق زرقاء وحمراء من خلال خطوط النافذة، ولكن في أحد الأيام لم تعد الصغيرة تبتسم. وفقدت القدرة على الكلام. الموت جاء، جاء بذراعيه الطويلتين القابضتين وخنقها. عندها عادت الأم كانت تعاني من تأنيب الضمير لأنها تخلت عن ابنتها. وكانت تعاني أيضاً من بؤس وضيق شديدين. وعندما أراد الطبيب أن يأتي ليشرّحَ جثة الصغيرة، لم يكن الأب يريد ذلك، يجب ألا يؤذوها بسكاكينهم، فهي بالنسبة له لم تمُت. ولكن كان يجب حدوث ذلك.

وحين دُفنت بنى لها قبراً يرعاه، وصار يذهب إليه كل يوم على مدار السنة. في العام الذي بعده أصبحت زياراته أقل. كان العمل شاقاً والوقت ضيقاً. السنوات بدأت تثقل والخطوات أصبحت أكثر ثقلاً مما كانت والحزن زال. أحيانا كان يخجل لأنه لم يحزن كثيراً، ولكنه نسي هكذا مع الأيام، رزق بابنتين أخريين، لكن ذلك لن يعوضه التي رحلت.

الحياة كانت قاسية. الزينة اختفت عن تلك المرأة الشابة التي كانت جميلة يوماً ما، الزينة غابت عن تلك الدار التي كانت في يوم من الأيام صافية ومشرقة. كان الأطفال يطرقون على أواني الفضة التي كانت من بعض هدايا الزوجة القَيّمة، وكسروا بعضاً من السرير وضربوا أرجل المقاعد بأقدامهم. حشوة الأريكة خرجت وغدت بارزة والبيانو لم يفتح أعواماً طويلة. الغناء كان قد توقف واحتل بكاء الأطفال مكانه، والأصوات كانت قد أصبحت خشنة، الكلمات الرقيقة أركنت جانباً مثل ثياب الأطفال. بدأ الإحساس بالكبر والتعب. الأب لم يعد يركع على ركبتيه، للأم لكنه يبقى ملازماً في مقعده ويناديها لإحضار أعواد الثقاب، حين كان يريد إشعال غليونه. لقد غدا عجوزاً!

وهكذا مع الأيام ماتت الأم عندما كان الأب في الخمسين من عمره. ولكن من حين الى آخر كان يطفو الماضي، عندها كان يرى شخصيتها المتكسرة والمتعبة من مصارعة الموت، وهي توارى الثرى وترجعه الذكريات إلى اليوم الذي ظهرت فيه تلك الصبية ذات الأربعة عشر ربيعاً مرة أخرى، وعندها يحزن مرة أخرى على ما فقده منذ وقت طويل مضى ومع الافتقاد يأتي الندم.

هي تلك التي في الرابعة عشرة في حديقة الكاهن، التي لم يحظ بها أبداً، لكنه فقط حصل على تلك التي كانت في الرابعة والعشرين. الشاحبة. كان قد ركع لها على قدميه، كان وفياً لها،  يعبدها وحتى يكون صادقاً مع نفسه فإنها هي التي يشتاق إليها الآن. يتذكر طعامها الطيب المذاق وحنانها الذي لم يكن ينضب. بعد ذلك أصبح أكثر حميمياً مع الأطفال. بعضهم كان قد انتقل من البيت، والآخر كان لا يزال يعيش فيه. بعد أن أرهق أصدقاءه عاماً كاملاً بالحديث عن شريط ذكرياته مع زوجته المتوفاة، حدث شيء غريب. لقد وقع نظره على فتاة شابة، شقراء في الثامنة عشرة، كانت تشبه زوجته تماماً عندما كان عمرها أربعة عشرة عاماً. كان يعتبر ذلك بمثابة منحة من السماء الرحيمة التي شاءت أخيراً أن تكون زوجته. فوقع في غرامها.

هو الآن حظي بها، لكن الأطفال وعلى وجه الخصوص البنات أظهرن عدم ترحيبهن بزوجة الأب الشابة. كن يخجلن من النظر إليها ويظننن بأن أمراً غير سليم يلف هذه العلاقة، وأن الأب قد خان أمهن، وهكذا فقد تركن البيت أيضاً، لينطلقن منه إلى الدنيا الواسعة. كان سعيداً، وفخوراً أكثر لأن فتاة شابة أرادته.

بعد عام أنجبت الزوجة طفلاً. وهو لم يكن يتحمل صراخ الطفل وكان يريد النوم في الليل. انتقل إلى غرفته، ولكن الزوجة كانت تبكي. كان يرى بأن النساء جشعات جداً. وهي كانت تشعر بالغيرة من زوجته السابقة، كان غبياً إذ قال لها عندما كانا في فترة الخطبة بأنها تشبه زوجته الأولى. كما أنها أيضا قرأت رسائلهما الغرامية. الآن حين تبقى وحدها أكثر فأكثر فإنها تتذكر كل ذلك. وعرفت أيضا بأن كل أسماء الدلال قد ورثتها عن الزوجة الأخرى، وأنها فقط بديلتها. هذا الشيء كان يزعجها كثيراً وقد عملت كل ما بوسعها من الأفعال الغبية الممكنة لكي تجعله يحبها لشخصها. هذا الأمر أتعبه، وحين كان في خلوته يقارن بينهما فإنه كان يفضل الزوجة القديمة فعلاً. فهذه لم تكن حنونة مثلها، وكانت تثير أعصابه. وعندها يشتاق لأطفاله الذين أُخرجوا من البيت. عادت إليه الكوابيس ورأى نفسه خائناً لزوجته المتوفاة. كان البيت لطيفاً أكثر حينها، كان غباء ما فعل وكان بالإمكان تجنب ذلك.

وهكذا بدأ يذهب إلى نزل في المدينة، وعندها بدأت الزوجة تغضب جداً، وكأنه يخونها، هو كان طائر لقلق هرم، ولكن كان عليه أن يحترس. رفيق عجوز بهذا الشكل عليه ألا يترك زوجته الشابة وحيدة، فإن ذلك قد يكون خطراً! عجوز؟ هل هو عجوز هكذا؟ لسوف يريها ذلك. وهكذا عاد مرة أخرى إليها ولكنها كانت قد أصبحت أسوأ من ذي قبل. لقد أصبح معذباً مرتين وهو يظن بأنه رأى طائر الفينيق ينبعث محلقاً من رماد حبيبته ذات الأربعة عشر ربيعاً. المرة الأولى تمثل ذلك في شخص ابنته والأخرى في زوجته الثانية، ولكن في ذاكرته تعيش فقط الأولى الصغيرة التي كانت في حديقة الكاهن، في موسم الفراولة البرية تحت الزيزفون. في الغابة تلك التي لم يحظ بها أبداً، ولكن الآن حين باتت شمسه تميل إلى الأفول، والأيام غدت أقصر فإنه لم يعد يرى أبداً غير صورة الأم الكبيرة التي كانت رقيقة معه ومع أطفاله. وحين راحت زهوته وأصبح يرى بوضوح أكثر، صار يتساءل في ما إذا كانت الأم الكبيرة طائر الفينيق الحقيقي الذي نهض بذلك الجمال وذلك الهدوء من رماد الطائر الذهبي، حين كانت في الرابعة عشرة، وبعدها وضعت بيضها وأقلعت ريشها من صدرها لصغارها وغذتهم من دمها حتى ماتت. بقي زمناً طويلاً وهو يفكر في ذلك، وحين وضع أخيراً رأسه المتعب على الوسادة كي لا ينهض بعدها أبداً، كان قد أدركه اليقين.

 

* أوغست ستريندبيرغ أديب مسرحي سويدي، له قرابة ستين عملاً مسرحياً، وعشر روايات، وعشر مجموعات قصصية، بالإضافة إلى بعض الأعمال في مجال الرسم والتصوير. النص أعلاه من مجموعته القصصية: "المتزوجون" 1884

فرمز فرمز حسين كاتب و مترجم سوري