الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مكانية التعايش بين التيارين القومي والإسلامي

( الحصاد المرير لعامين من الارتباك بعد الثورة. الفترة الانتقالية أديرت أسوأ إدارة، المجلس العسكري لم يكن يملك الخبرة السياسية، ولا خطة لوضع أهداف الثورة موضع التطبيق، وشباب الثورة كان بلا قيادة، والأحزاب المدنية كانت قد عانت كثيراً من حصار النظام السابق.)

رام الله - الوسط اليوم:


عشية الذكري الثانية لثورة 25 يناير كان المشهد في مصر مليئاً بالدلالات ومفتوحاً على كل الاحتمالات. قوى الثورة الحقيقية تحشد قواها لتخوض معركة فاصلة ضد من سرقوا الثورة وقادوا مصر إلى حافة الهاوية.

بينما الحكم يهدد ويتوعد، وجماعة الإخوان المسلمين تطلب حماية مقراتها خوفاً من غضب الجماهير، وحزبها يطلب من الجيش أن يستخدم سلطات استثنائية في التعامل مع الجماهير، والجيش يقول إنه على الحياد، وأنه سيحمي فقط منشآت الدولة الحيوية. أما الحكومة فرئيسها ترك المناسبة وذهب إلى "دافوس" ليشارك في المؤتمر الاقتصادي العالمي بخبراته في الري، والوزراء مشغولون بوضع إمكانيات وزاراتهم في خدمة "الجماعة".

أما أول رئيس منتخب بعد الثورة فقد ترك العاصمة في إجازة يقضيها في استراحة كان الرئيس السادات يقضي بها إجازاته بمدينة الإسماعيلية ذات الطقس الدافئ، والتي تتوسط قناة السويس التي قفزت في الأيام الأخيرة إلي مقدمة الأحداث بعد ما أثير من شكوك حول مشروعات استثمارية ترتبط بها وتركز عليها دول وشركات أجنبية. وهو ما دعا قيادة الجيش المصري إلى التأكيد على أن قناة السويس خط أحمر وأنه مسؤول عن حمايتها.

إنه الحصاد المرير لعامين من الارتباك بعد الثورة. الفترة الانتقالية أديرت أسوأ إدارة، المجلس العسكري لم يكن يملك الخبرة السياسية، ولا خطة لوضع أهداف الثورة موضع التطبيق، وشباب الثورة كان بلا قيادة، والأحزاب المدنية كانت قد عانت كثيراً من حصار النظام السابق.

بدلاً من أن تدار الفترة الانتقالية بهدف "تمكين" قوى الثورة من الحكم، سارت الأمور بالخديعة أو بالاتفاق أو بالأمر الواقع لتسليم السلطة إلى "الإخوان المسلمين" وحلفائهم بعد أن تم إسقاط القيود التي كانت تحكم العمل السياسي في مصر، والتي كانت تمنع قيام الأحزاب الدينية حرصاً على الوحدة الوطنية.

كانت أمام "الإخوان المسلمين" فرصة نادرة ليقيموا شراكة حقيقية مع كل القوى الوطنية لتأسيس النظام الجديد الذي كان المصريون جميعاً يأملون فيه. لكن "الإخوان" أقصوا الآخرين وغدروا بأصحاب الثورة الحقيقيين، ربما ليداروا حقيقة أنهم لم يشاركوا في الثورة إلا بعد التأكد من سقوط النظام السابق، وأنهم كانوا آخر الملتحقين بالثورة، وأول المغادرين للميدان بحثاً عن السلطة.

قد تكون الرغبة في "الاستحواذ" جزءاً من فكر الجماعة وكل جماعة مثلها تؤمن أنها وحدها من يمثل الإسلام، لكن قد يكون العامل الأساسي في سير "الإخوان" في هذا الطريق هو الموقف الأميركي. كان معروفاً أن الصلات السرية والعلنية بينهم وبين الأميركان لم تنقطع من سنوات، الصفقة تدخل في مخطط خريطة جديدة للمنطقة.

ودور جديد لـ"الجماعة" ترى واشنطن انه يمكن أن يخدم مخططاتها بعد أن حصلت على الضمانات الكاملة. بدءاً من ضمان أمن (إسرائيل) والحفاظ على المعاهدة معها، إلى التسهيلات العسكرية في المرور بقناة السويس، إلى اتباع سياسات ترضى عنها واشنطن، إلى عدم الخروج على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

مضى قطار الإخوان على طريق "الاستحواذ" وإقصاء الآخرين، مستفيداً من استغلال المشاعر الدينية العميقة لدى المصريين. ما حدث بعد ذلك كان كارثياً بكل المقاييس، عدوان على القضاء وحصار للمحاكم. ضرب لحرية الصحافة والإعلام. انقضاض على مؤسسات الدولة من أجل "الأخونة"، مهزلة في وضع الدستور. استهداف للأزهر الشريف والكنيسة الوطنية. حكم الميليشيات يتقدم مع مذبحة "الأربعاء الدامي" على أبواب قصر الرئاسة.

ومع كل هذه الجرائم، أوضاع اقتصادية تتردى ومخاطر من الأسوأ مع قبول شروط صندوق النقد. سيناء ترتع فيها عصابات الإرهاب ويد الجيش مغلولة بعد تقاعس الحكم في طلب تعديل المعاهدة مع (إسرائيل). الغلاء يطحن الناس والبطالة تتضاعف والسياحة تتوقف. والدور الذي كان المصريون والعرب جميعاً يتطلعون إليه من مصر بعد الثورة يتوارى.

لم يكن انقضاض "الإخوان" على الثورة واستحواذهم على السلطة هو المسار الطبيعي، ولكن أيضاً لم يكن الفشل الذريع في كل المجالات هو المنتظر من حكم "الجماعة". ولم يكن من الممكن تخيل أن شهوراً قليلة من حكم "الجماعة" تضع مصر على حافة الكارثة. فالدولة المدنية التي تبنيها مصر منذ مائتي عام يتم تفكيكها جرياً وراء وهم الخلافة أو دولة الإمام.

ومصر التي عاشت على أن وحدتها الوطنية هي "الخط الأحمر" تواجه الآن خطر الحرب الأهلية. وأحلام النهوض الاقتصادي والسياسي تنتهي بمشروع لبيع كل أصول مصر الرأسمالية ومرافقها ومؤسساتها أو تأجيرها أو رهنها. والاستقلال الوطني ينتهي بتسول الدعم الأميركي. والدور القومي ينتهي ب(إسرائيل) وهي "الصديق الوفي".

لقد أدركت القوى الوطنية والديمقراطية أن تشرذمها هو الذي فتح الباب أمام الكارثة، فكانت "جبهة الإنقاذ" التي ضمت هذه القوى، والتي قد تفتقد التنظيم الجيد والتمويل اللازم حتى الآن، ولكنها من التأييد ما يمكنها من الإنجاز إذا حافظت على وحدتها، وإذا انتقلت من "رد الفعل" إلى "الفعل"، وإذا حققت التواصل المطلوب مع الناس في كل أنحاء مصر.

لكن الأهم يتمثل في عاملين رئيسيين: الأول هو أن الغالبية العظمى من شعب مصر ترفض هذا "النهج" الذي تريد "الجماعة" أن تفرضه عليها. الغالبية العظمى من شعب مصر تنحاز للدولة المدنية، وتريد الحفاظ على الديمقراطية من فاشية تتغطى بالدين، وتعاني من أوضاع اقتصادية بائسة تزيدها سياسة "الإخوان" الفاشلة، بؤساً.

العامل الثاني هو أن شباب الثورة قد نضح في عامين، واكتسب من الخبرات السياسية ما لم يكن من الممكن أن يكتسبه في عشرين عاماً. هذه الأجيال الجديدة تسبق الجميع. تملك الشجاعة لتعترف بأخطائها وتملك القوة لتواصل الثورة، وتعرف الآن أن ما ثارت من أجله لم يتحقق، وأن الموجة الأولى من الثورة قد تم اختطافها، وتعرف - بعد عامين من المعاناة المريرة - أن الموجة الثانية لابد أن تحسم الموقف، وأن تنقذ مصر من الفاشيين الجدد.

الاهرام-أحمد السيوفي

2013-01-27