الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الفايننشال تايمز:أوباما والإعلام .. بوادر معركة طويلة وقاسية

كان بوب وودوارد يضع أصيص أزهار على قاعدة نافذته لتكون إشارة إلى مارك فيلت للقاء أثناء التحقيق في ووترجيت. وبعد 40 سنة استخدم جيم روزِن أسلوباً أكثر ملاءمة لعصر الإنترنت، هو وضع نجمات (*) في رسائله الإلكترونية.

روزِن، كبير مراسلي واشنطن لقناة فوكس نيوز، هو آخر صحافي في العاصمة الأمريكية يُعتقَل في موجة من الإجراءات القانونية ضد أشخاص بسبب تسريب معلومات متعلقة بالأمن القومي.

وحقيقة أن إدارة باراك أوباما تشرف على هذه الإجراءات القانونية تعطي هذه الأمر المثير للجدل ملمساً مؤلماً بالنسبة لكثير من مؤيدي أوباما الليبراليين.

أوباما الذي انتُخِب في 2008 وسط ردود أفعال قوية ضد الحرب في العراق وأفغانستان، وبسبب دفاعه عن الحاجة إلى ملاحقة المتسببين في التسريبات، وضع نفسه في دائرة أضواء جديدة فظة وقاسية.

يوجد في السجن الآن اثنان من المسؤولين السابقين مدانان ويقضيان محكوميتهما، الأول من مكتب المباحث الفيدرالي والثاني من المخابرات المركزية CIA. وإذا اعتبرنا الأحداث الأخيرة دليلاً على ما يمكن أن يحدث، فسيكون هناك مزيد من الإجراءات القانونية – وأحكام السجن – بسبب ادعاءات بالتسريب، ما يُعِد المسرح لصراع طويل بين أوباما والصحافة الرئيسة.

والتحقيقات حول التسريبات ليست من الأمور الجديدة في واشنطن، وكذلك التداعيات التي تأتي غالباً في أعقابها. فالمعركة حول نشر أوراق البنتاجون، وهي تاريخ سري لوزارة الدفاع حول ضلوع الولايات المتحدة في فيتنام، قطعت كامل الشوط إلى المحكمة العليا واستمرت أصداؤها لسنوات كثيرة.

وقبل فترة ليست بالطويلة، تعاركت إدارة الرئيس جورج بوش مع صحيفة ''نيويورك تايمز'' حول نشر تفاصيل برنامج مراقبة سري يسمح للوكالات الأمريكية بمراقبة الاتصالات المحلية أثناء ملاحقتها للتهديدات الإرهابية الأجنبية.

لكن لم يكن البيت الأبيض يتولى الإشراف على قضايا التسريبات مثلما يفعل البيت الأبيض في عهد أوباما. فمنذ عام 2008 أرسلت وزارة العدل ست قضايا إلى المحكمة، خمسا منها بموجب قانون مكافحة التجسس.

ويقول بيل كوفاتش، الذي كان في السابق مدير مكتب ''نيويورك تايمز'' في واشنطن ورئيس تحرير ''ذي أطلانطا جورنال كونستتيوشن'' The Atlanta Journal-Constitution: ''إني أعتبر هذا الأمر منهجاً متشدداً من جانب الحكومة يفوق كثيراً ما شاهدته خلال 30 عاماً. كانت الحكومة تلاحقنا بعد نشر مقال معين، لكن كان ذلك يقتصر على صحافي هنا أو هناك، ولا يشبه أبداً الأسلوب الكاسح الواسع الذي تقوم به الآن''.

ليونارد داوني، رئيس التحرير السابق لـ ''واشنطن بوست''، الذي يعمل الآن أستاذا للصحافة في جامعة ولاية أريزونا، وصف إدارة أوباما بأنها ''أكثر الإدارات تشدداً'' منذ موقف إدارة نيكسون حول التسريبات. لكن أوباما الذي وعد بأن يقود ''أكثر الإدارات انفتاحاً وشفافية'' في التاريخ الأمريكي، فاق سلفه نيكسون.

والجدال حول التسريبات – إلى جانب معلومات كُشف عنها النقاب من أن مصلحة ضريبة الدخل الأمريكية كانت تستهدف جماعات محافظة، والأسئلة المستمرة حول معالجة حادثة السفارة الأمريكية في ليبيا التي راح ضحيتها عدد من القتلى – يستنزف رأس مال سياسيا ثمينا في مرحلة مبكرة من ولايته الثانية.

وفي الشهر الفائت قالت وزارة العدل لوكالة أسوشيتد برس إنها حصلت سراً على سجلات الهواتف لـ 20 من مراسلي الوكالة في إطار تحقيق حول مقال نشرته الوكالة في آذار (مارس) 2012 حول مؤامرة إرهابية فاشلة في اليمن.

وكان التحقيق في المقال حول اليمن واحداً من تحقيقين أمر بهما في السنة الماضية إريك هولدر، وزير العدل الأمريكي الذي عينه باراك أوباما. ويتعلق التحقيق الثاني الذي يسير فيه ممثلو النائب العام بكل نشاط، بتقارير إخبارية، معظمها في ''نيويورك تايمز''، حول عملية تخريب إلكترونية قادت معظمها الولايات المتحدة ضد برنامج إيران النووي.

جاء الدور البسيط لروزِن حين كشفت ''واشنطن بوست'' أن عميلاً لدى المباحث الفيدرالية حاول الدخول إلى البريد الإلكتروني الخاص للمراسل كجزء من تحقيق يدور حول تسريب تقرير من المخابرات الأمريكية حول كوريا الشمالية.

وكشفت إفادة العميل بالتفصيل كيف أن روزِن أَعَدَّ مصدراً محتملاً في وزارة الخارجية، هو ستيفن جين وو كيم، باتباع الأساليب المعهودة التي يستخدمها الجواسيس الحقيقيون عندما يريدون إعداد شخص للعمل معهم.

فقد أعطى المراسل اسماً حركياً لكل واحد منهما، حيث كان ليو هو اسم كيم، وأليكس هو اسم روزِن. ولأن روزِن كان متخصصاً ومهتماً بموضوع ووترجيت، فقد أعد نظاماً عصرياً على منوال أصيص الزهور من أجل الاتصال. فإذا وضع نجمة واحدة في رسالة إلكترونية إلى كيم فهذا معناه أنه سيكون هناك لقاء، وإذا وضع نجمتين لن يكون هناك لقاء.

ولم يكشف بوب ودوارد عن هوية مارك فيلت، الذي كان يعمل حتى عام 1973 في منصب المدير المشارك للمباحث الفيدرالية، إلا بعد وفاته في 2008. وعلى حسب المعلومات التي يمكن استخلاصها، لم يكن هناك من يلاحظ لقاءات وودوارد وفيلت، على الرغم من شكوك البيت الأبيض في عهد نيكسون بخصوص فيلت.

وليس هناك ما هو أكثر من الفرق بين التحقيق في التسريبات في القرن الحادي والعشرين والتحقيقات أيام ووترجيت.

وهناك سجلات إلكترونية محفوظة عليها اللقاءات المتعددة التي جرت بين كيم وروزِن عن طريق البريد الإلكتروني، وعن طريق سجلات الهاتف، وحتى التوقيت الدقيق لحركات الشخصين من وزارة الخارجية يوم التسريب المزعوم (وكلها مسجلة في تصريحهما الأمني)، وفقاً للإفادة. وحين بدأ المحققون في البحث، لم يكن من الصعب عليهم العثور على آثار اتصال روزِن بكيم. (في ذلك الحين كان روزِن يعمل في غرفة صغيرة للصحافيين في الوزارة).

ومن دون البصمة الإلكترونية، كانت مهمة المباحث الفيدرالية في تقصي المُسَرِب المزعوم ستكون أكثر صعوبة بكثير. ووفقاً للإفادة، خلال الساعات التي أعقبت إرسال التقرير للمرة الأولى صباح يوم من أيام حزيران (يونيو) 2009، اطلع 95 شخصاً على تقرير المخابرات الأمريكية حول رد فعل كوريا الشمالية على العقوبات، وكان ذلك قبل أن يتحدث عنه روزِن على قناة فوكس.

واستخدمت المباحث الفيدرالية في إفادة 2010 الأساليب التي اتبعها روزِن لإعداد العميل، حتى تؤكد أن المراسل تصرف ''على أقل تقدير'' بصفة ''مساعد أو محرض أو شريك في التآمر'' مع كيم.

وكتب العميل، ريجينالد ريس، في إفادته: ''منذ بداية علاقتهما، كان المراسل يسأل كيم ويستعين به ويشجعه على الكشف عن مستندات أمريكية داخلية حساسة ومعلومات استخبارية حول بلد أجنبي. وقد فعل المراسل ذلك باستخدام الإطراء واللعب على غرور وخيلاء كيم''.

ربما كان ريس يحاول فقط تعزيز حجته لضمان أن يمنحه القاضي أمراً قضائياً بالدخول إلى البريد الإلكتروني، لكن نشر إفادته أطلق أجراس الإنذار في وسائل الإعلام الأمريكية، وكذلك في البيت الأبيض.

وفي البداية رفض جاي كارني، المتحدث باسم أوباما، التعليق على قضية روزِن، باستثناء تكراره كلمات المداهنة حول الحاجة إلى الموازنة بين حرية الصحافة وحماية الأمن القومي، لكن بنهاية الأسبوع الماضي غير أوباما مساره.

ففي كلمة ألقاها في جامعة الأمن القومي، لتحديث سياسة الإدارة حول الإرهاب، كرر أوباما عزمه على ''فرض العواقب على الذين يخالفون القانون ويخالفون التزامهم بحماية المعلومات السرية''.

وفي الوقت نفسه طالب بأن يقوم هولدر بمراجعة المبادئ الإرشادية من وزارة العدل حول التحقيقات التي أوقعت بالمراسلين وطلب منه استشارة منظمات الإعلام في العملية.

والتدخل الذي من هذا القبيل، حتى وإن كان موضوعاً بكلمات غامضة مثل كلمات أوباما، يمكن تفسيره على أنه تعميم إلى وزارة العدل للتراجع عن ملاحقة الصحافيين.

لكن يصبح من الصعب التوفيق بين هذا والتأكيد الواسع للبيت الأبيض على أن وزارة العدل هي وكالة مستقلة، وأن تنفيذ وإجراء التحقيقات مسؤولية الوزارة وحدها.

ومن المؤكد أنه لا يمكن العثور على بصمات أوباما في أي مكان في القضايا الفردية، كما أنه ليس أول رئيس يشعر بالغضب من التسريبات. ذلك أن بعض التحقيقات التي أدت إلى إجراءات قانونية في إدارته بدأت في عهد الرئيس بوش.

ويقول رودريك توماس، وهو محام سابق لدى وزارة العدل، يترأس الآن أعمال المحاماة في مجال جرائم موظفي الدفاع في شركة المحاماة ''وايلي راين'' في واشنطن: ''هذا النوع من التحقيقات ليس جديداً، ولم يحدث فقط في ظل إدارة أوباما''.

وقد أدى التعميم المرسل في أعقاب أحداث 11/9 إلى أجهزة الاستخبارات وتطبيق القانون بالمشاركة في المعلومات فيما بينها إلى زيادة خطر كشف المعلومات.

وكذلك فعلت الإنترنت، خصوصاً ''ويكيليكس''، الموقع الذي نشر كميات مذهلة من المستندات ومقاطع فيديو حكومية سرية. وقد اعترف برادلي مانينج، الذي خدم سابقاً مع الجيش الأمريكي في العراق، بأنه مذنب بخصوص بعض التهم المتعلقة بتمرير مواد سرية إلى ''ويكيليكس''.

ويقول توماس: ''كل شخص هذه الأيام يستطيع الجلوس على مكتب ويضغط كلمة: إرسال. إن وجود عدد من القضايا البارزة يمكن أن يكون عامل ردع''. لكن الموظفين السابقين في أجهزة الاستخبارات يقولون إن الموقف المتشدد من وزارة العدل هو علامة على غضب أوباما الشخصي من التسريبات، وغضب عدد من زملائه في الإدارة.

ويقول بروس ريدل، وهو محلل سابق في المخابرات الأمريكية، كان يقدم المشورة لأوباما حول أفغانستان وباكستان، إن أول مدير لوكالة المخابرات المركزية من تعيين أوباما، وهو ليون بانيتا، سمع كثيراً من الناس يشتكون من التسريبات حين وصل إلى الوكالة. وحين نقل الرسالة إلى البيت الأبيض وجد أناساً سمَّاعون له. يقول ريدل: ''أعتقد أن البيت الأبيض في عهد أوباما أرسل علامة مبكرة مفادها أنه مستعد لأن يتخذ موقفاً متشدداً تماماً بخصوص التسريبات يفوق ما كان لدى الرئيس السابق''.

وتتم إحالة جميع تسريبات معلومات الأمن القومي إلى وزارة العدل وفقاً للبروتوكول، مع تفصيل نوع المعلومات المسربة. وفي الغالب تكون أعمال الإحالة نفسها سرية. لكن ما إن تعلم الوكالات بأن مخاوفها ستؤخذ على محمل الجد، فإنها تميل إلى إرسال ملخصات أكثر تفصيلاً وتقديم مساندة أكبر لممثلي النائب العام، كما يقول عملاء ومحامون سابقون لدى وزارة العدل.

وبحسب بول بيلار، وهو محلل سابق لدى المخابرات الأمريكية: ''حين يقول الرئيس إنه يريد مزيدا من الإجراءات، فإنه على الأرجح سيحصل على المزيد من الإجراءات''.

وتبين الضوابط الإرشادية من وزارة العدل قواعد صارمة تحكم استدعاء الصحافيين، أو سجلاتهم للشهادة في المحكمة، حيث تلزم بمراجعة مخدِميهم للوقوف على إمكانية الحصول على المواد المعنية طوعاً.

ويقول توماس: ''حين تكون ممثلاً للنائب العام، هناك فئات معينة من الناس، مثل المراسلين، إذا كنتَ تريد استدعاءهم للشهادة، فهناك عملية متشددة ينبغي اتباعها داخل وزارة العدل''.

لكن الاحتياطات التي من هذا القبيل أُلقيت جانباً في قضية أسوشيتد برس، باستخدام ثغرة في التعليمات تسمح للحكومة بالحصول على سجلات الصحافيين في الحالات التي تعتقد فيها أن الاستدعاء العام، أو الإشعار المبكر يمكن أن يهدد التحقيق.

وتؤثر التسريبات على الطرفين. وبصرف النظر عن الرئيس الجالس في البيت الأبيض، يعتمد المسؤولون على نشرات غير معدة للتسجيل الرسمي للكشف عن معلومات حين يناسب ذلك أغراضهم السياسية.

وبعد الغارة التي أدت إلى مقتل أسامة بن لادن، والتي عملت على تلميع مؤهلات أوباما بخصوص الأمن القومي، شعر وزير الدفاع في ذلك الحين، روبرت جيتس، بغضب شديد من ظهور تفاصيل هذه العملية ذات السرية البالغة في الصحافة إلى درجة أنه اشتكى إلى البيت الأبيض.

ووفقاً للمراسلين، وجَّه جيتس النصح إلى توم دونيلون، مستشار الأمن القومي، بأنه ينبغي أن يتبنى البيت الأبيض ''منهجاً استراتيجياً جديداً في الاتصالات''. وحين سأل دونيلون ما هو هذا المنهج، أجابه جيتس: ''اخرس''.

ويقر كوفاتش بأن أوباما، وقبله بوش، كان يتعامل مع ''عدو لم نعهده في زماننا''، ويصعب التعرف على الناس الذين ''ينوون إيذاءنا''.

ويقول: ''من الواضح أن القواعد تغيرت بخصوص التحقيقات حول التسريبات، لكن لم يقل أحد إنها تغيرت. يمكن أن يقدم الرئيس الحجة لهذا الموضوع. لكنه لم يفعل ذلك بوضوح''.

2013-06-01