الجمعة 21/10/1444 هـ الموافق 12/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
يوميات نصراوي: نوستالجيا انتخابية/ نبيل عودة

الشعارات تزين الناصرة.. تبشر بجو انتخابات حامية... لكنها لا تقول شيئا هاما،  كلمات تفتقد حتى للوزن  الشعري والأهم تفتقد للمعنى . ادخلتني هذه الشعارات بنوستالجيا ( حنين) الى ايام شبابي المبكر. ذكرتني برجل مسن كان يتجول في احياء الناصرة والبلدات المجاورة، حاملا كيس  من الخيش على ظهره ، تطقطق داخلة اصوات تصادم القناني الزجاجية.. خاصة عندما ينزل الكيس عن ظهره ليحشو به قناني أخرى اشتراها للتو.. وما ان يبدأ بالسير حتى يرتفع صوته بكل القوة التي بقيت في اوتاره الصوتية مناديا:" قناني فارغة للبيع".
كنت مع صديق لي من ابناء الجيران،نجمع ما نستطع الوصول اليه من القناني الفارغة، ننتظر صاحبنا لنبيعه ما جمعنا ونركض لشراء المثلجات من مصنع الجبالي للمثلجات، القائم مقابل كنيسة البشارة للروم الأورتوذكس (اليوم كيوسك).
نداء "قناني فارغة للبيع"  يثير لدي حتى اليوم مشاعر ما ، حنين لا ينسى لأيام جميلة، الشعارات الضخمة بالالوان والصور تذكرني بذلك المسن ، الذي كان يحرث الشوارع في الناصرة والبلدات العربية المحيطة من أجل بعض القروش ليعيل عائلته. اليوم صارت قناني فارغة للبيع بالألوان والصور.. يتوهم البعض انها تشتري بعض "القناني غير الفارغة"، لست خبيرا في القناني الفارغة او غيرها وأقول اننا مجتمع حر، سوق حرة، لا قيود على البيع والشراء اذا اتفق طرفان على الثمن.. 

هذا الحديث ذو الشجون ينقلني لحديث من نوع مختلف، احاول ان اقارن به بين ما كنا عليه وبين ما اصبحنا به. كنا شعبا انجز اهم حضارات عرفتها الشعوب في تاريخها الحضاري، اعطى للعالم كله طلائعيين في مجالات العلوم ، التقنيات ،الفكر الاجتماعي، الفكر التاريخي، الفكر الاقتصادي، الموسيقى، الفلسفة، الأدب وسائر ابواب العلوم..
نموذجا واحدا فقط .. اود ان اضعه بمواجهة ما نشهده اليوم في بلداتنا العربية من صراع الكل بالكل. هي حكاية عبقري حالم اسمه عباس بن فرناس الذي حلم بالطيران ، أخذ لنفسه جناحين وذنبا، اعتلى مكانا شاهقا ، وقفت الجموع تراقب تجربته المثيرة، بجرأة قفز طائرا ... لكن الى حتفه ... اما الأمر الأهم هو ان فرناس بقي رائد فكرة الطيران في التراث العربي .. وفي الفكر الانساني كله.
ترى هل من بين المرشحين من يملك موهبة وعبقرية عباس بن فرناس ، لعله يطير مباشرة الى كرسي رئاسة السلطة المحلية خاصة وان تكنولوجيا اليوم متطورة وتضمن الطيران الآمن بدون ذيل ، بواسطة مروحيات قوية؟...اذن  سارعوا حتى لا تفوتكم الفرصة!!
عباس بن فرناس حاول ان يسبق عصره ويقتحم السموات بجناحي طائر.. اليوم يستعملون الاعلانات والصور للطيران نحو كرسي السلطة المحلية. لكن ما الضمانة ان هذه الجناحات والذيول "التكنولوجية الحديثة" قادرة على رفع اوزان المتنافسين والتحليق بهم الى المكان المرغوب؟
اعزائي القراء، وأستثني المرشحين لأنهم مقتنعون بما يقومون ويؤمنون به  ولن يصدقوا كلامي ان الثور لا يحلب...  فليكن المولى في عونهم دائما،  قبل الانتخابات وخاصة بعدها.
ان الشعارات مثل النوايا الطيبة لا تقود الى شيء... واقسم ان نوايا اكثرية المرشحين طيبة، اما طيبة لأهل طائفتهم، او طيبة لعائلاتهم، او طيبة لأحزابهم، او طيبة للمجموعة التي تدعمهم. لكنها شعارات رغم طيبتها، لا تقود الى شيء، هذا قلناه ونكرره لعل في التكرار لفتا للإنتباه. لا اعني انه لا قيمة للكلام المصاغ بمهنية لغوية ، لغتنا العربية هي لغة البيان ، لغة الفصاحة والبلاغة، لغة الديباجة اللغوية، ترى هل سنطور البنى التحتية في مدننا وقرانا بالفصاحة اللغوية والبيان الساحر؟ هل ستساهم بلاغتنا في تطوير التعليم وانجاز مراتب علمية تضع مدارسنا في رأس القائمة ؟ هل بما نملك من مفردات ومرادفات لغوية  يمكن حل اشكاليات التمييز العنصري  الذي نواجهة كأقلية قومية غير معترف بها الا كقبائل وطوائف؟
هذه الأسئلة موجهة لجميع المرشحين المتنافسين على كراسي رئاسة السلطات المحلية ، الذين اتحفونا ببلاغة الاعلان ورطانته اللغوية. لعلهم يفصحون عن مشاريعهم السرية، انصحهم ان يسجلوا مشاريعهم ولغة المشاريع، في معهد الاختراعات الاسرائيلي حتى لا يسطو احد من المتنافسين على بلاغتهم وفصاحتهم اولا وعلى مشاريعهم ثانيا.
الحقيقة للأسف مرة.ان كلام البلاغة والفصاحة هو كتابة على الرمال، سرعان ما تذروها الرياح قبل الوصول لكرسي الرئاسة، او بعد السقوط المؤلم بسبب عجز الجناحين والذيل من التحليق بالمتنافس!!
حتى لا اتهم بالسرقة الأدبية لم استعمل مثال رواية  "دون كيخوت"  للأديب الاسباني "ميغيل دي ثيربانتس" ( بفصاحة العرب صار "سرفانتس")   لوصف المتنافسين،  تعد "دون كيخوت"  واحدة من بين أفضل الأعمال الروائية المكتوبة قبل أي وقت مضى حيث يعالج وهم الفروسية بطريقة ملحمية  ساخرة  كوميدية وهي مواهب يتمتع بها بدون شك المتنافسون على رئاسة سلطاتنا المحلية، لكنهم لا يدرون ذلك.
لمن لا يعلم تدور أحداث رواية "دون كيخوت" حول شخصية "ألونسو كيخانو"، رجل نبيل في الخمسين من العمر مولعًا بقراءة كتب الفروسية والشهامة بشكل كبير. كان بدوره يصدق كل كلمة من هذه الكتب على الرغم من انها خيالية، يشد الرحال كفارس حاملًا درعًا قديمة ومرتديًا خوذة بالية مع حصانه الضعيف  يبحث عن مغامرة تنتظره، واقنع "دون كيخوت" جاره البسيط "سانشو بانثا" بمرافقته ليكون حاملًا للدرع ومساعدًا له مقابل تعيينه حاكمًا على جزيرة وبدوره يصدقه "سانشو" لسذاجته، بالطبع يحتد الصراع (او القتال) بين "دون كيخوت" وطواحين الهواء. اما جاره البسيط فعاد بخفي حنين بلا اي مكسب من صراع فارسه المغوار مع طواحين الهواء..وما اكثر ظاهرة "سانشو" في بلادنا.
اتساءل الا تستحق معاركنا الانتخابية "ميغيل دي ثيربانتس" عربي معاصر ليكتب قصة ال "دون كيخوتات" في المنافسة  للوصول الى رئاسات السلطات المحلية بصفتها  "طواحين الهواء المعاصرة"؟!
طبعا انا اتحدث بشكل واسع وشامل  حتى لا اتهم بالتمييز الطائفي او الديني او السياسي، او اني اقصد بلدة محددة، لأني متألم من واقعنا الذي توقعت ان يكون في طريق سياسية حضارية صاعدة وليس في طريق متهاوية.
كلمة اخيرة فقط حول الناصرة بصفتها عاصمة الجماهير العربية.

انتخابات بلدية الناصرة ليست معركة نصراوية فقط، للناصرة  وانتخاباتها مميزات لا بد من طرحها امام الناخب للتفكير. معركة الناصرة هي معركة سياسية بمضامينها الأساسية في الواقع السياسي الاسرائيلي بسبب ما تواجهه الأقلية العربية من سياسات تمييزية. الناصرة هي نموذج تمثيلي قيادي للعرب في اسرائيل، أن من يتوهم انه البديل ويفتقد لتجربة وممارسة  وقواعد سياسية تاريخية، اقول له بشكل اخوي صادق ان تفكيره محدود بمنصب وليس بهم وطني وسياسي من اصعب المهام وأكثرها تعقيدا، طبعا ليس بهم تطويري أيضا يقتضي مواجهة ماكينات سلطوية معادية حسنة التنظيم والتضليل. بنفس الوقت يجب الفهم الواعي لمضمون ان تتطور الناصرة كمدينة مركزية في اسرائيل.. ان تعرف كيف تجذب السائح والزائر اليهودي، ان تعرف كيف تطور فرع السياحة المحلية عامة والأجنبية على وجه الخصوص، ان مشروع الناصرة 2000 لم ينجزه منكرو دور ادارة البلدية الجبهوية ، الناصرة 2000 كان نتيجة تخطيط علمي وجهد سياسي وصراع امام مؤسسات السلطة لآنجازه. اليوم يظن البعض انه نتيجة تطور طبيعي، بتجاهل او عدم معرفة الحقائق التي ساهمت عبر ادارة بلدية ساهرة على مصالح الناصرة لانجاز هذا المشروع الوطني ( اذا صح التعبير) الذي يعطي اليوم نتائجه الاقتصادية الهامة لمدينة الناصرة، محدثا تحولا حتى في نظرة السلطة، من اهمية الناصرة السياحية، بسبب انعكاسه الاقتصادي الايجابي على مجمل اقتصاد الدولة!

لست داعية لرامز جرايس او الجبهة.. انما احسم موقفي عبر معرفتي ووعيي لأهمية مدينة الناصرة في الخارطة السياسية للعرب في اسرائيل.  حين انتقد لا انتقد من موقف رفض النهج الاستراتيجي، الذي نشأت على قاعدته الجبهة ( وكنت من نشطاء التأسيس) وحدد مسارها التطويري، النهضوي والسياسي، انما انتقد اخطاء تنظيمة وادارية كان يمكن ان لا تقودنا الى أزمة عميقة،  حدتها في الناصرة ملموسة وخلقت سلبيات كثيرة تحتاج الى جهد كبير من أجل الخروج منها.
اجل، سلبيات توجد، فقط من لا يعمل لا نجد لديه سلبيات. النشاط الخلاق فيه التجربة وفيه الخطأ. هل نلغي نشاط الجبهة الخلاق حتى لا تقع بخطأ؟
لا ارفض النقد اذا كان فيه منطق، النقد هو معيار لدفع عجلة التطور بشكل افضل وأنجع. ما ارفضه هو خطاب النفي الغوغائي  الذي يخاطب المشاعر بظن من البعض ان المواطن النصراوي هو "قناني فارغة للبيع"!!


[email protected]

2013-09-19