الثلاثاء 25/10/1444 هـ الموافق 16/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
(كأس النبيذ) مقطع جديد من رواية تكتبها بيانكا ماضيّة

اليوم التقيت مصادفة تلك المرأة التي دخلت ساحة الحطب في حلب ورأت مارأته من مناظر لم يكن يخطر على بالها أن تراها... سمعتُ تفاصيل ما جرى معها في دار العجزة في "الجديدة" في العام الماضي نقلاً على لسان قريبة لي وكنتُ مذاك اليوم أتوق لرؤية هذه المرأة لسماع التفاصيل منها..إذ للحكاية التي روتها وهي في قلب المعركة تعابير وملامح.. جلست بقربي في مجلس عزاء أحد الشهداء وراحت تروي الحكاية.. ما أن وصلتُ الساحة حتى فاجأني منظر اللحى الطويلة وصوت الرصاص والتكبير.. تسمّرت قدماي إذ رأيت الكتابات السوداء على أبواب المحال الخشبية المنمّقة الصنع.. ما الذي حصل ومتى دخلوا؟! هذا هو السؤال الذي فاجأني.. ولم يعد باستطاعتي التقدم خطوة أو الرجوع خطوات.. فإلى أين المفرّ من الرصاص المتطاير كالأشلاء؟!
مجموعة كبيرة من ذوي اللحى المسلحين يملؤون الساحة وما إن رآني أحدهم حتى صرخ في وجهي: "ما الذي أتى بك إلى هنا أيتها المرأة.. انقلعي من هنا؟!" .. "بيتي هنا دعني أمرّ".. وبسرعة البرق ركضت باتجاه الزقاق الذي تقع فيه "دار العجزة" التي كنت أعمل فيها مشرفة على أمور العجائز.. 
كان قلبي قبل أن أطرق باب الدار يضرب إيقاعه بجنون.. فتح لي أحد المشرفين وما إن دخلت حتى انهار جسدي على حافة الدرج المطلّ على الباحة..
ثلاثة أيام بلياليها لم أذق طعم النوم.. هكذا كانت تروي لي والبسمة تملأ شفتيها.. حاولنا الاتصال بالمعنيين لنخبرهم بأنهم يملؤون الساحة ومطعم "المشربيّة" المقابل للدار.. ثلاثة ليال ونحن ننتظر الفرج القريب.. ونحن نسمع تكبيراتهم وأصواتهم.. من إحدى النوافذ المطلّة على الزقاق رأيت اثنين منهم يجلسان على درج المدخل.. أحدهم كان يقول للآخر: هنا دار عجزة ولا شيء يدعو للحذر.. وكنت أهمس في نفسي: ستعلّمكم هذه الدار كيف تتجرؤون على البيوت وأهلها.. كيف تستولون على مطاعم هذا الزقاق العتيق.. كيف تشوهون المدن وأزقتها.. وبعد محاولات عديدة للاتصال بالمعنيين، إذ كانت الاتصالات مقطوعة في بعض الأحيان، وصل رجال الجيش العربي السوري مدججين بأسلحتهم متأهبين للهجوم... خمس وعشرون جندياً تسلّلوا من مطرانية الروم الكاثوليك التي تقع بالقرب من الدار.. حول طاولة صغيرة جلس معهم أحد مشرفي الدار راسماً لهم مخطط الغرف والأبنية المجاورة ليدلّهم على المنافذ التي يستطيعون من خلالها الوصول إلى ساحة الحطب.. دقائق وبدأ الانتشار.. وبدأت الاشتباكات.. كان صوت الرصاص يصمّ الآذان.. وانتشر الصراخ والتكبير في فضاء الساحة.. "ياكلاب النظام.. ياشبيحة النظام.. سنحرقكم حرقاً" هكذا كانوا يصيحون من أعماق ليل الساحة.. يردّ بعض جنودنا "سنجعلكم تندمون على الساعة التي حملتم فيها السلاح ياكلاب.. ولن تخرجوا من هنا إلا أشلاء ممزقة" وكان هناك تبادل للسباب والشتائم ومشهد مكرر للرصاص الكثيف..
العجائز الذين كنّا نعمل على خدمتهم لم يكونوا يستوعبون مايحصل في الخارج.. رجل عجوز حمل مصباحاً في إحدى تلك الليالي وراح يسلّطه على البناء المقابل وما إن ظهر لهؤلاء ضوء المصباح حتى بدأ إطلاق الرصاص.. لم نكن نعرف كيف نشرح لهؤلاء العجائز مايحصل.. ذهبت إليه وجررته جراً كيلا تصيبه رصاصاتهم.. وأعلمته أن هناك عصابات مسلّحة منتشرة حول الدار.. ولكن كيف أشرح له أنهم احتلّوا الساحة فشوّهوها وشوهوا فضاءها برصاصهم المقزز..
وصل الدعم وانتشر الجنود.. خمسة هنا.. وخمسة هناك.. والآخرون توزّعوا على الأسطح وفي الغرف.. يومٌ كامل لم يتذوقوا فيه كسرة خبز.. ماكانوا ليجوعوا إذ كان جوعهم لرؤيتهم أشلاء أمامهم.. لم يطلبوا سوى القهوة التي كانوا يرتشفونها بسرعة بين إطلاق رصاص وآخر.. بعد بطولة وحماس من رجال جيشنا توقف هدير الخوف والذعر الذي كان يسري في أوصالنا.. كان صوت التكبير في بداية العمليّة يشير إلى وجود مجموعة كبيرة منهم.. لكن ما إن بدأت زغاريد رصاص جنودنا حتى بدأ شيئاً فشيئاً يضعف صوت تكبيرهم.. كنا نسمع تلك التكبيرات حين يصاب أحدهم أيضاً أو يموت... أما القنّاص الذي كنت أراقبه من إحدى النوافذ كلّ يوم.. وقد تحصّن فوق كنيسة "الموارنة" في ساحة فرحات مختبئاً خلف قاعدة الصليب.. كنت قد أعلمتهم بوجوده أثناء العمليّة فأطاحوا به وبقنّاصته..
ووصلت التعليمات العسكرية بوجوب إنهاء العمليّة إذ سيأتي دور الطيران القاصف لأعمارهم.. ولكن المسؤول العسكري عن هذه العملية أعلم قيادته بأنه لم يبق منهم إلا القليل فلا حاجة للطيران.. فطلب الإذن بتمديد العمليّة ساعة أخرى.. رصاص ورصاص وثلاث قنابل على الساحة وينتهى الأمر.. ويبدأ القفز إلى الأعلى من شدة الفرح ويبدأ العناق بين الجنود.. "جورج" و"محمد" و"علي" تعانقوا وهم يبكون.. كانوا يقفزون ويصرخون ويهلّلون..ونقفز ونهلل معهم.. الفرحة عمّت الدار حتى بين أولئك العجائز الذين لم يكونوا يعرفون أين حطّ الله بهم... الحبور الذي انتشر في أعماقي لم أشعر به طوال حياتي إلا في تلك اللحظة.. عانقنا الجنود وزغردنا.. قفزنا معهم وبكينا معهم.. أربع ليال لايمكن أن أنساها ماحييّت.
انتهت العملية وكانت الرصاصات الفارغة تملأ الغرف.. أما جثث قتلاهم فكانت تملأ الساحة والمطعم.. لم يستشهد أحدٌ من جنودنا عدا اثنين منهم إذ أصيبا إصابات خفيفة.. أحدهم أصيب بشظية في رقبته والآخر في كتفه.. وركضنا باتجاه باب المدخل وفتحنا الباب وإذا برجال جيشنا يملؤون الزقاق والساحة.. و"نحن رجالك يابشار" أخال أن دويّها كان ينتشر في كل فضاء حلب..

2013-11-09