الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
((دينو بوتزاتي:دروس في كتابة الأدب السياسي ))/ د. حسين سرمك حسن

قلنا في مناسبات سابقات – و هو أمر مفروغ منه – أن الأدب السياسي يعد لونا مهما من ألوان الفن . وقد تصاعدت أهميته في عصرنا الراهن الذي جاء خلاف ما كنا نتوقعه في أن يكون عصر انفتاح و انعتاق و انطلاق للحرية الإنسانية الى أوسع مدياتها ، وتحقيق لإمكانات الإنسان الخلاقة بلا قيود أو قهر أو استلاب , فإذا بنا نرتد – وبشراسة – الى أحط مستويات عصور الوحشية والتي تترفع عنها حتى ممارسات حياة الغاب . ومن الطبيعي , وأمام تنامي سياسات القهر والإذلال واستباحة مقدرات الشعوب , أن يتصاعد فعل المبدع وتفاعله مع قضايا سحق الإنسان ، وخصوصا في ظل الأنظمة الشمولية ليقدم ألوانا باهرة من الأدب السياسي التي تجسد معاناة الإنسان المقهور في كل مكان . وقلنا - أيضا - في مقالتنا عن الدرس الذي قدمه (( ميلان كونديرا )) في كتابة الأدب السياسي من خلال أنموذج قصصي من مجموعته القصصية (( غراميات مرحة )) ، وهي قصة (( لن يضحك أحد )) ، والتي حاولنا من خلال عرض سماتها الأساسية أن نبيّن لكتاب القصة والرواية من العراقيين تحديدا ، والشباب منهم خصوصا , الكيفية التي يمكن أن يُكتب بها النص الأدبي السياسي الذي يتناول القهر والقمع والإستلاب ومحنة الإنسان في طل الأنظمة الشمولية . حيث يعتقد الكثيرون منهم أن شحن النص بوقائع حقيقية , بل ومسميات وماكن فعلية , يمنحه قدرا هائلا من المصداقية ، ناسين أن هذه الخاصية ستجعل النص القصصي يقترب من فن المقالة أولا ، ويسلبه سمة الشمولية الإنسانية الكونية ثانيا . لنسأل : هل كانت هناك مدينة حقيقية إسمها (( أوقيانيا )) شهدت عذابات ((ونستون سمث)) بطل رواية (( 1984 )) التي أبدعها (( جورج أورويل )) ؟ ولو أخذنا كتاب (( حوار المنفيين )) لبرتولد بريخت ، وهو قطعة رائعة من روائع الأدب السياسي فسنجد ان كل المواقف التي تعرّض فيها بريخت لهتلر وموسوليني بصورة مباشرة ، لم تكن , أبدا – بحرارة الحوارات الفاجعة التي صورت معاناة بطليه المنفيين في المرض وطلب اللجوء والحنين الى وطنهم ومشاعر الإذلال التي تكتسح وجودهم .
في مجموعته القصصية (( الجنرال المجهول )) (1) يقدم لنا القاص الإيطالي المبدع (( دينو بوتزاتي )) ثلاثة نماذج قصصية من الأدب السياسي , صاغها بعقلية الكاتب (( المحترف )) الذي خبر الصنعة ، وتمكّن تماما من أدواته الفنية الى الحد الذي أهّله لأن يسطّر نصوصا يتفاعل معها كل إنسان وفي أي مكان من عالمنا الوحشي هذا . في قصة (( الفراشة )) يمارس بوتزاتي اللعبة التي طالما برع بها بصورة فائقة وهي لعبة الإيهام المؤسسة على الفنطازيا والتي يقدّم من خلالها حبكة تتصاعد لتصل الذروة في لحظة التنوير . الفاضل (( ألدو سميت )) – وكيل وزارة النظام العام في حكومة الباستوجي الفاشية يكتب تقريرا لزميله المسؤول عن استجوابه بصدد ((الفرسان الضالين)) ، وعندما يخرج من مكتبه متوجها الى بيته تتعطل سيارته في الظلمة ، ويعترضه شابان من الفرسان الضالين ، ويقرران قتله فيتمنى الخلاص بأن يصبح خفاشا  ، ويتحقق له ذلك ، ويتوجه طائرا الى مكتبه ، ويحاول الدخول من الشباك فلا يستطيع  ، ويتمنى أن يكون فراشة ، ويتحقق له ذلك ، وحين يدخل ، يتعلق بالستارة ، ويلاحظ أن زميله قد احتل مكانه كوكيل وزارة . ولأنه يعتقد أنه امتلك قوة عجيبة ، فان باستطاعته أن يصبح هو الوكيل ، ويصبح الوكيل فراشة . لكنه تعب كثيرا ، فيؤجل الأمر حتى الصباح ، وينام متعلقا بالستارة كفراشة . (( ما إن أغلق عينيه حتى قام الفاضل حاملا كرسيه ثم وضعه تحت النافذة . صعد وضرب الفراشة بالمسطرة فجعلها تسقط ميتة )) والأمر لا يحتاج الى تعليق .
الأنموذج الثاني هي قصة (( وإذا؟ )) التي تتحدث عن ديكتاتور يراجع انتصاراته وسحقه لمعارضيه و كونه الشخصية الأكثر قوة في البلاد .. (( لقد بلغ الهدف الأقصى لحياته ولم يعد يستطيع , والحق يُقال . أن يرغب شيئا أكثر من ذلك .. )) . ثم يبدأ القاص باستعراض قدرات الديكتاتور المذهلة ، فهو الموسيقي الكبير الذي سمع للحظات خلت في المسرح الإمبراطوري للأوبرا الحان رائعته الموسيقية , فسجل انتصارا بذلك , ومازال يرن في رأسه شلال عارم من التصفيق ... وهو طبيب التشريح الكبير ، الذي اكتشف بيديه السحريتين اللمعة الصغيرة المرتجفة في الأعماق الغائرة لمخ المريض . بطريقة جعلت المتوفى يفتح عينيه ثانية ، ويبتسم .. وهو رجل المال الكبير ... والعالم الكبير .. وهو القائد العام الذي حاصرته جيوش تفوقه قوة وعددا , غير أنه , بمكره و نشاطه , حول جيشه من جيش مُتعب ويائس الى حشد فولاذي جعل جيوش الأعداء تولّي الأدبار مذعورة ...
و هو الصناعي الكبير , والمكتشف الكبير , والشاعر الكبير , وباختصار الرجل المنتصر . وقد حقق كل ذلك بزهده وتضحيته بكل المسرات والضحك والملذات الجسدية ، والعزوف عن فاتنات المجتنع الراقي ..
ولكن لنر ما يحصل الأن في هذا الصباح المشمس .. لقد كان ديكتاتورنا يجوب شوارع المدينة على قدميه مع مستشاره واثنين من مساعديه .. ووقع بصره , مصادفة على فتاة شابة .. جد جميلة .. ترتدي تنورة سوداء تلف قامتها و تزمها زما  ... ردفاها ناميان بانحراف حر وبشكل شهواني.. جاذبيتها جارحة ... وقد رأى - لجزء من الثانية فقط - الانحناءة المتغطرسة لربلة ساقيها .. لقد اشتعل قلقا واهتماما ، و(( لاحظ , في هذه اللحظة بالذات , أن شيئا ما ينقصه . إنه شيء جوهري , وهام جدا . أسرع .. ولاحظ مذعورا , أن السعادة السابقة , والإحساس بالسكينة , والنصر قد انقطعوا عن الوجود . كما لاحظ أن جسمه قد غدا ثقيلا من الحزن ، وكان ثمة حشداً من الملل ينتظره .. ماذا جرى ؟ ألم يكن هو المسيطر , والفنان الكبير والعبقري ؟ لماذا لم يعد ينجح في أن يكون سعيدا )) ..
يقول بوتزاتي أن الحب كان خلف كل هذاالعطش للشهرة وللقوة ..لقد فعل كل شيء من اجل هذه الفتاة.. لكنه لم يفهم قط - ولن يفهم قط - وأن التفكير وحده بهذا كان يبدو له مدعاة  لجنون فاضح . لقد تأخر الوقت جدا الأن .
في قصة (( الجنرال المجهول )) يصمّم بوتزاتي مقاربة جديدة بارعة . إته يستخدم (( لغة مألوفة لوصف غير المألوف فتتسم قصصه بالبراعة في التناظر و الألمعية في وضع الملامح المعروفة في مواقع جديدة ( ... ) . والأخيولة عنده متطورة منطقيا , ولذالك فإن قبول المقدمة المنطقية الأولى يتيح للقارئ أن يدخل تماما فيما يليها . واسلوبه السردي ينقل قصصا موثوقا بها , حتى عندما تخيب التوقعات العادية للمسرود . وهي قصص ذات تأثير جمالي واخز منبجس من العزف السري على هاجس الحرية في سياقات عنف الورطة وسحر الهاوية وارتباك مواجهة الألغاز واشتباك الحياة مع الموت ولذعة انكشاف الحقيقة ))(2)
في قصة (( الجنرال المجهول )) هذه لا يكتفي بوتزاتي بالسخرية المريرة من سلطة القمع المتنفجة : (( عثرنا على جترال كان فوق حقل معركة ... كان يرقد مثل أي مسكين تعيس ... أو كما يرقد أي منشرد لا وطن له . أو كما يرقد جمل نفق من العطش , ولا يغير من هذا أنه كان جنرالا فالفوارق لا توجد إلا حين نعيش ونتكلم ونتبختر في مشيتنا )) ... ولا الكيفية التي نتساوى فيها – حكاما و محكومين – أمام سطوة النهاية حيث نتساوى جميعا في الموقف المطابق للموت حسب ، ولكنه يقدم من خلال المقارنة بين روح شباب مجموعة الحفريات و حاضرهم الممتلىء بالعمل والنشاط  ، وماضي الجنرال المنتفخ الذي حملت ((الرياح أوسمته الآن وتركته عاريا مثل كلب )) ، موقفا فلسفيا من موضوعة الموت والحياة يصل الذروة في ختام القصة الأخيولة حين يقول :
(( دفع أحد العمال الرمل بقدميه لكي يردم الحفرة فيغطي هذا البائس على الأقل , ثم بعد أن جمع ادواته , قفز مع الأخرين الى سيارة الجيب التي انطلقت سريعا وأشعل لفافة )).
هوامش :
1. الجنرال المجهول – مختارات قصصية – دينو بوتزاتي – ترجمة د . منذر عياش – مركز الإنماء الحضاري – دمشق – 2002 .
2. من الغلاف الأخير لكتاب (( الجنرال المجهول )) .

2014-01-05