الأربعاء 8/10/1445 هـ الموافق 17/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أبو مازن: رئيسٌ في خطابين!/الدكتور أيوب عثمان

 كاتب وأكاديمي فلسطيني جامعة الأزهر بغزة

على الرغم من أنني من أشد منتقدي أبي مازن- بصفته رئيساً- لا سيما في نهجه التفاوضي وإصراره على اعتماد التفاوض سبيلاً واحداً ووحيداً للحل أولاً وثانياً وعاشراً وأخيراً، كما عبر عن ذلك بأقصى درجات الانفتاح والجرأة والبوح والصراحة، عبر لازمة اشتهر بها حتى صار قريناً لها وصارت هي قرينة له ومعبرة عنه: "ليس أمامنا إلا التفاوض، وحتى لو فشل التفاوض فليس أمامنا إلا أن نتفاوض ونستمر في التفاوض، لا سيما وإننا خسرانين خسرانين، سواء ذهبنا إلى المفاوضات أو رفضناها"، وعلى الرغم من أنني أؤمن إيماناً يقينياً أن أبا مازن الذي في قبضة يده رئاسات ثلاث من السلطة والدولة إلى منظمة التحرير إلى حركة فتح، قد أضاع الكثير الكثير من الوقت والجهد في مفاوضات غاية في العبثية أسهم طابعها العبثي المفرط إسهاماً بالغاً في نهب أرضنا وزرعها بعشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية، فضلاً عن الجدار الذي يتلوّى في بطن أرضنا كالأفعى التي رأسها هنا، فيما ذيلها هناك، وعلى الرغم من أنني لست معجباً- أبداً- بكثير ممن يدورون في فلك أبي مازن من مسؤولين وسفراء ومساعدين ومستشارين ومبعوثين وممثلين وموفدين باسمه ممن أفقدوا فلسطين أكثر بكثير مما يشاع- زوراً وبهتاناً وكذباً ونفاقاً- أنهم حققوا لها، ما حفز البعض أن يطالبوه "بطرد جميع مستشاريه والتوجه، على الفور، إلى غزة التي تقاوم وهي محاصرة وتحت حمم القصف المتصل وجحيمه"، إلا أنني لا أملك إلا أن أقول إن أبا مازن كان جيداً، وكان جديداً، وكان مفاجئاً مرتين، وفي خطابين نسبياً متباعدين. أما خطابه الأول في جدته ومفاجآته وجودته، فقد كان في اجتماع الجمعية العامة السادسة والستين للأمم المتحدة المنعقد يوم الجمعة 23/9/2011، حيث بدا جديداً في طرحه، كفياً في إلقائه ومخاطبته، ودقيقاً وجاداً- هذه المرة- في كلماته وألفاظه وجمله وعباراته، فأبان عن قدرة لافتة على تقريب الصورة الذهنية لمأساة بلاده، محاولاً تركيزها في أذهان سامعيه ومشاهديه، لا سيما في سرده الواقعي لمأساة شعبه وفي فضحه للاحتلال العسكري الإسرائيلي وبشاعة جرائم مستوطنيه والإرهاب المنظم لدولته. لفت أبو مازن يومها انتباه المجتمع الدولي الذي يتربع النفاق فوق صدره إلى ما أسماه "لحظة الحقيقة التي ينتظر شعبنا فيها "أن يسمع الجواب من العالم" عن تساؤلاته: هل يسمح العالم لإسرائيل أن تواصل آخر احتلال في العالم؟! وهل يغمض المجتمع الدولي عيونه عن حقيقة مفادها أن شعب فلسطين هو آخر شعب تحت الاحتلال في هذه الدنيا؟! وهل يسمح المجتمع الدولي لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن تبقى فوق القانون وفوق المساءلة والمحاسبة؟! وهل يسمح لها بأن تواصل رفض قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ومواقف الغالبية الساحقة من دول العالم؟! هل يجوز هذا؟!... إن جوهر الأزمة في منطقتنا هو إما أن هناك من يعتقد أننا شعب فائض عن الحاجة في الشرق الأوسط، وإما أن هناك في الحقيقة دولة ناقصة ينبغي المسارعة إلى إقامتها!" وتماماً، كما كان أبو مازن جيداً وجديداً في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث وضع المجتمع الدولي أمام خيارين لا ثالث لهما، وكأنه يقول: إما أن يعترف العالم بنا شعباً له حق في وطنه ودولته، وإما أن يقف العالم خلف دولة الاحتلال في حربها علينا وإبادتها لنا، فقد كان في خطابه الأخير يوم الثلاثاء 22/7/2014 جديداً ومفاجئاً وجاداً- لا استجداء فيه- رغم إيجازه واقتضابه، إذ وصف العدوان الإسرائيلي بـ "الهمجي" والاحتلال الإسرائيلي بـ "الغاشم"، وأنه قد آن الأوان ليرفع الجميع صوته عالياً في وجه آلة القتل والدمار الإسرائيلية، مؤكداً على أن قوات دولة الاحتلال الغاشمة قد تجاوزت كل الحدود وانتهكت كل القوانين والأخلاق الإنسانية والدولية، وبمنتهى الوحشية والهمجية، مشدداً على أن الهدف الرئيس لهذا العدوان الإسرائيلي هو تدمير قضيتنا الوطنية وإجهاض المصالحة، مضيفاً قوله: "إننا نؤكد أننا متمسكون بالوحدة الوطنية وحكومة التوافق الوطني وإنهاء الانقسام... ولن نتخلى عن مسؤولياتنا، وسنذهب لكل مكان لوقف العدوان وانتزاع حقوقنا، وسنلاحق كل مرتكبي الجرائم ضد أبناء شعبنا.... دون أن تمر هذه الجرائم من دون محاسبة وعقاب... لن ننسى ولن نغفر وشعبنا لن يركع إلا للواحد القهار، ولن ينعم أحد في العالم بالأمن والاستقرار ما لم ينعم بها أطفال غزة والقدس والضفة، بل كل أطفال فلسطين في كل مكان... لن يرهبنا القتل ولا التدمير، وسنعيد بناء ما دمره العدوان، وسنضمد جراحنا إلى أن يأتي اليوم المحتوم الذي ننتصر فيه وترفرف رايات القدس عالية فوق الأقصى والقيامة في القدس الشريف عاصمة دولة فلسطين المستقلة إن شاء الله". ومهما يكن من أمر، فإن خطاب أبي مازن الأخير لم يكن فيه أجمل ولا أفضل ولا أعدل من خاتمته التي كانت آية من القرآن الكريم في سورة الحجّ: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير". وبعد، فكما رأينا في خطاب أبي مازن أمام الدورة السادسة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 23/9/2011 علامة فارقة في الخطاب الفلسطيني الرسمي، حيث كان ذلك الخطاب- وقت كان- نقطة تحول في النهج الكفاحي الفلسطيني على المستوى الرسمي أـيضاً، ها نحن نرى اليوم في خطاب أبي مازن الأخير، قبل يومين، جديداً جاداً ومفاجئاً، لا سيما وإنه بعد أن ظل يمسك عن الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية وميثاق روما، مخالفاً في ذلك الرأي الشعبي والفتحاوي والفصائلي، بالإضافة إلى التوجه العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد سمعناه وهو يقول بلغة لفها الحزم وطفح فيها العزم: "سنلاحق كل مرتكبي الجرائم ضد أبناء شعبنا... دون أن تمر هذه الجرائم من دون محاسبة أو عقاب"! أما آخر الكلام، فلأن أبا مازن قال في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قولاً لم يؤيده ولم يترجمه بفعله، بل انحرف عنه فحاد عن الجادة بعده، ثم زاد ابتعاده عنه حتى إلى ما قبل اليوم والأمس بقليل قليل، ولأن الصوت الفلسطيني المزمجر اليوم هو صوت المقاومة الذي لا يعلو عليه صوت، فإن أغلب الظن عندي أن أبا مازن الذي رأى- وما يزال يرى- مقاومة فلسطينية إبداعية لم تكن يوماً عبثية، حيث لا عبثية في صواريخها التي طالت قلب دولة الاحتلال وكل أنحائها طاوية في اختراقها 160 كيلومتراً من عمقها، كما لا عبثية في إبداعها طائرة "أبابيل" في نسخها الثلاث، الاستطلاعية، والهجومية القاذفة، والهجومية الانتحارية، سيُتبع هذه المرة- بكل تأكيد- فعله قوله، وإلا فإن قول الله تعالى في سورة الصف "يا أيها الدين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، سيكون عليه عبئاً سينوء بحمله، فيما سيكون المقت والعذاب جزاؤه من عند ربه.

2014-07-26