الثلاثاء 11/10/1444 هـ الموافق 02/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
ما أكبــر فلسطيــن… وما أصغر إسرائيل/د. مصطفى البرغوثي

دخلت إسرائيل الحرب، وشنت عدوانها الإجرامي على قطاع غزة، وفي ذهنها أربعة أهداف، أخفت معظمها.
الهدف الاول الذي تورط يوفال شتاينتس وزير الاستخبارات والشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي بإعلانه، كان إعادة احتلال غزة بالكامل واقتلاع وتدمير المقاومة فيها، والبقاء فيها حتى يتسنى لهم إيجاد بديل لإدارتها.
وهذا الهدف فشل بالكامل وبشكل مهين بسبب بطولة وبسالة ووعي وحسن أداء وتخطيط المقاومة الباسلة، وأدرك نتنياهو وحكومته أن الثمن الباهظ الذي ينتظرهم من الخسائر البشرية المدنية ومن جيشهم أكثر مما يستطيعون احتماله.
الهدف الثاني، كان محاولة كسر إرادة الشعب الفلسطيني السياسية، بهدف تمرير مشروعات تصفية القضية الفلسطينية، فأصبحت الإرادة السياسية الفلسطينية أقوى وأشد صلابة وعزما، وانتقلت الضفة الغربية بما فيها القدس الى حالة انتفاضة شعبية شاملة مبددة كل التخريب والتدجين والتضليل الذي سعى اليه المحتلون والدول التي تدعمهم تحت شعارات كاذبة مثل السلام الاقتصادي وتحسين أحوال المعيشة، فانضوى جيل جديد بكامله في ساحة النضال الوطني، مستعيدا قيم النضال والكفاح والانتفاضة الشعبية الأولى.
وحققت حركة مقاطعة البضائع الإسرائيلية الشاملة في الضفة الغربية ذروة لم يتصورها أحد، حارمة إسرائيل من أرباح مليارات الدولارات.
وكان الهدف الثالث، المعلن تحطيم ما تحقق من مصالحة وطنية، فأصبحت وحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته أصلب من أي وقت مضى، فتوحدت القوى الفلسطينية في وفد موحد، ممزقة مخططات إسرائيل، لدق إسفين يعزز الانقسام الداخلي.
وقد صنعت غزة وشعبها وبسالتها وصمودها ومقاومتها معجزة أعادت توحيد مكونات الشعب الفلسطيني الذي استعاد الهدف الوطني الجامع المشترك، بعد أن كان قد تبدد بعد اتفاق أوسلو ونتائجه.
فظهرت معالم وحدة الفلسطينيين من أراضي 1948 والضفة بما فيها القدس والشتات في هبّة نصرة وإسناد غير مسبوقة لغزة ومقاومتها الباسلة.
أما الهدف الرابع، فكان محاولة فك العزلة الدولية عن سياسة حكومة إسرائيل، وبرغم نجاح إسرائيل في تضليل الإعلام العالمي في الأسبوعين الأولين وبرغم المواقف المخزية لاوباما وميركل وبان كي مون بأن من حق إسرائيل الدفاع عن النفس من دون ذكر حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وهو تحت الاحتلال والقمع، فقد انقلب السحر على الساحر، وغدت إسرائيل اليوم الدولة المكروهة الأولى في العالم، وتصاعدت حركة التضامن مع فلسطين ومقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها، وشهدت عواصم العالم مظاهرات تأييد غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية.
الشيء الوحيد الذي نجحت فيه إسرائيل هو البطش بالمدنيين والممتلكات، فسقط أكثر من "1900″ شهيد وشهيدة معظمهم مدنيين بينهم "450″ طفلا وسقط عشرة ألاف جريح وجريحة، وارتكبت إسرائيل أبشع جرائم الحرب ضد الإنسانية، فدمرت مدنا وأحياء بكاملها كالشجاعية وخزاعة وأحياء في رفح وخانيونس والشوكة وغيرها، فهجرت أكثر من "500 ألف" مواطن من منازلهم ودمرت جزئيا أو كليا "عشرين ألف" بيت ومسجد وعيادة ومؤسسة.
لا توجد صورة ولا كاميرا ولا وسيلة إعلام قادرة على التقاط ما تلتقطه العين البشرية من دمار في الشجاعية وخزاعة وبيت حانون.
ولم ير العالم حتى في الحرب العالمية الثانية هذا الدمار الذي حل في بقعة صغيرة محددة كقطاع غزة، وللمقارنة فقط نذكر أنه لو كان عدد سكان غزة مماثلا لعدد سكان الولايات المتحدة لكنا نتحدث عن أكثر من "300,000″ قتيل ومليون ونصف المليون جريح.
في أحداث 11 سبتمبر فقدت الولايات المتحدة أربعة آلاف قتيل، وشنت نتيجة ذلك عددا لا يحصى من الحروب، فماذا كانت ستفعل لو سقط منها 300,000 قتيل في شهر واحد ؟؟!!
ومع ذلك لا يجد الرئيس الأمريكي وأعضاء الكونجرس القدرة على إخفاء انحيازهم السافر لإسرائيل المعتدية فيحرمّون على الشعب الفلسطيني حق الدفاع عن النفس ولو بوسائل تعتبر بدائية المقارنة مع آلة الحرب الإسرائيلية.
ومن حق كل فلسطيني أن يفخر بانجازين حققتهما المقاومة الباسلة، أولا؛ انتصار العقل الفلسطيني بالعلم والتخطيط والإستراتيجية برغم ضعف الإمكانات ولذلك لم تكن مصادفة أن تشن طائرات إسرائيل غارات انتقامية على الجامعات والمدارس، وثانيا؛ أخلاقية المقاومة التي امتنعت عن المس بالمدنيين، فكانت المفارقة صارخة بين حقيقة أن "65″ من القتلى الإسرائيليين السبعة والستين كانوا جنودا وضباطا قتلوا في غزة أثناء اعتدائهم عليها ودخلوهم أراضيها معتدين، وبيّن حقيقة أن 80 % من الشهداء الفلسطينيين كانوا مدنيين، أطفالا ونساء، تعمدت إسرائيل وجيشها قتلهم والتنكيل بهم مع سبق الإصرار والترصد.
لا توجد كلمات توصف معاناة الشعب الفلسطيني، على مدار 65 عاما من النكبة، كما لا أملك الكلمات التي تستطيع وصف ما رأيناه من ظلم ومعاناة إنسانية، أثناء تجوالي في أحياء وشوارع ومدن قطاع غزة ومشافيه.
بماذا أصف حالة المرأة التي قابلتها وعمرها ثمانون عاما وهي تحتضن حفيدتها البالغة ثلاثة عشر عاما عندما قالت لي: لقد كان عمري من عمر حفيدتي عندما أجبرونا على الهجرة من بئر السبع الى غزة عام 1948، واليوم يهجروننا مرة أخرى من بيت هجرتنا؟
وبماذا أصف حالة ذلك الشيخ المسن البالغ 82 عاما قضاها في بناء بيت من أربعة طبقات، وعائلة من 28 فردا من أبناء وبنات وأحفاد، لتدمر طائرات إسرائيل في دقيقتين بيته فتقتل زوجته وكل أبنائه وبناته وأحفاده وحفيداته الثمانية والعشرين؟
وبماذا أصف حالة الأختين "لينا" ابنة الأربعة أشهر وأميرة ابنة السنتين اللتين ترقدان في المستشفى مصابتين بالكسور والحروق بعد أن فقدتا والدهما ووالدتهما وأقربائهما؟!! وكيف أشرح عمق صلابة وصمود الفلسطينيين والفلسطينيات اللواتي بادرت ثلاثة منهن بالإجابة على تساؤلي: من سيرعى هاتين الأختين؟ بالقول: كلنا أهلهما، وكل واحدة من الثلاث نساء كانت مع ابن أو ابنة جريحة مصابة في المستشفى وإحداهن فقدت ابنتها في قصف إسرائيلي؟؟!
كيف يمكن لنتنياهو وزبانيته المجرمين أن يفهموا سر عظمة وقوة وإصرار الفلسطيني العنيد على الحرية والكرامة والتضامن والتكاتف والإنسانية ؟؟
لن يفهموا، فهم غرباء على قيم الإنسانية ولا تحكمهم إلا النزعات العدوانية والشر والعنصرية البغيضة العاجزة عن رؤية الفلسطيني كانسان متساو مع كل البشر في الحقوق والواجبات.
لذلك، يجب أن يساقوا إلى محكمة الجنايات الدولية ويجب ان يحاكموا على جرائمهم ضد الإنسانية ويجب أن تزال عنهم مرة والى الأبد تلك الحصانة اللئيمة التي تجعلهم مجرمين فوق القانون الدولي.
ستكبر لينا وأميرة وكل أبناء وبنات الشهداء وسيعيدون بناء ما فقده شيخنا الجليل ابن الثمانين عاما.
ومن حقنا… أن نفتخر بأننا ننتمي لفلسطين

*الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية ورئيس جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية

2014-08-12