الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
رواية " الطلياني " لشكري المبخوت بين الثرثرة السياسويّة وأفلام الجنس ..../ بقلم فوزي الديماسي


عمل ضخم ( 342 ص) يراوح مكانه بين فنّ الرواية ، وفنّ السيرة الذاتية / الجماعية في الجزء الأوّل من كتاب ، أو في الصفحات المائة الأولى تحديدا . "الطلياني " لشكري المبخوت رواية تسجيليّة في أغلب دروبها ، أو هكذا توهم المتقبّل بتوسّلها بأسماء أماكن معلومة ( كليّة الآداب بمنوبة ، كلية 9 أفريل ، مقبرة الزّلاج ، باردو ) ، وتوسّلها كذلك بتواريخ وطنية عاشتها البلاد زمن بورقيبة ( ثورة الخبز ، أحداث الإتحاد العام التونسي للشغل ، 7 نوفمبر 1987) . إنّها لحظة سردية تختفي وراء فنّ الإيهام بواقعيّة الأحداث المبثوثة في النصّ أو هكذا يذهب بنا الظنّ لحظة معاشرتنا له .
تقوم الرّواية على شخصيتين ( عبد الناصر / زينة ) ، وتحمل ملامح الشخصيتين رؤية الكاتب للعالم ، إذ البنوّة ( عبد الناصر ) عنوان صراع طبقيّ حضاري ، عمل على إبرازه الراوي على امتداد الفصول الأولى من العمل ، ومن خلال الروابط الدموية ( عبد الناصر / الأب / الشقيق الأكبر ) كشف الرّاوي عن مساحات التقاطع بين الرؤى ، وطرق التّموقع الفكري ، ولعلّ مفتاح دخول النصّ تختزله جملتان / مفتاحان " لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لم تصرّف عبد الناصر بذلك الشكّل العنيف ... لا أحد من الجمع الغفير المتحلّق حول القبر فهم لم علا صراخ الإمام " ص(5/7) ، والأخرى " أحسّت ليلتها أو فجرها أو قبيل الفجر بسكّين من لحم يخترقها من الخلف متّجها نحو الدّبر مرّة والقبل مرّة أخرى ... يد على فمها تكتم أنفاسها " ... وبين الجبّانة ، وغرفة الاغتصاب تحرّكت الشخصيتان على درب كشف مغالق فكريهما ، وآيات نضاليهما ، وسكاكين المجتمع بمواضعاتها التي دمّرت سكينة الحياة في نفسيهما ( كلامهما تعرّض للاغتصاب بداية حياته ) ، وقد عمل "الرمز " على اختزال مواقف الشخصيتين ورؤاهما ، وتكثيف دور القراءة لشعاب العمل ونتوءاته . فانتهاك عبد الناصر لرمزيّة الموت وقدسيّته ( بداية النصّ) بضرب الإمام لحظة نزوله إلى القبر لدفن جثّة الحاج محمود / والد عبد النّاصر ، وتعرّض زينة للاغتصاب (ولا أحد في الغرفة إلاّ الأب وشقيقها )، إنّها نصوص /مفاتيح تحيل على عوالم من التأويل للخطوط الخلفيّة للرواية ، كما تحيل على ضرورة فكّ شيفرات الرموز وعدم القناعة بسطحيّ السرد في ذكره للحادثتين . هما حدثان مفصليّان في الوقوف على عوالم الرواية برمّتها . ولكن أحيانا يسقط النصّ في حفرة التناول الفجّ للأحداث / بأسلوب تقريريّ هالك لجمالية الصّياغة ، وإرهاقه بتداعيات لا تخدمه ، تداعيات تاريخيّة تقطع حبل التواصل على المتقبّل في اقتفائه لملامح الشخصيتين ، كما لا تساهم في بناء عوالم السّرد ، لقد أثقلت فقرات كثيرة في كثير من الأحيان مساحات العمل وتشويه جماليته ونسق الحكي . كما أرهق الوصف غير الوظيفيّ الرواية في عديد المواطن ، كقول الراوي في (ص 52 ) واصفا شقّا إيديولوجيا " وضرورة النّضال ضدّ الإسلاميين الذين يزحفون على المجالس العلميّة ويفتكّون أهمّ المعاقل التاريخيّة لليسار الطلاّبي أي الكليّات الكبرى خصوصا منذ مارس 1986بعد عقد ما سمّاه الإسلاميّون مؤتمر الحسم ، وتأسيس الإتحاد العام التونسي للطلبة باعتباره ذراعا طلاّبيّة للإتجاه الإسلاميّ ".... أو ما ورد كذلك على لسان الرّاوي في ( ص223) لحظة وصفه لنجلاء وهي تستعدّ لمضاجعة عبد الناصر " انبهر عبد النّاصر بما رآه .كانت تلبس قميص نوم يكشف ركبتها وجزءا من فخذيها . قميص نوم من السّاتان بدون أكمام ، مقوّر الصدر والظّهر ، أطرافه العليا والسفلى موشّاة بالدانتيلا ، وفي موضع أعلى الصّدر فتحة في شكل نصف معيّن موجّه إلى الأسفل يكشف عمّا بين النهدين .... " .

يشقّ الرّواية زمنان : زمن فيزيائيّ /توثيقي ، وآخر نفسيّ / مهزوم.... لست معنيّا بالموضوع وبمناقشته من زاوية فكرية ،أو تاريخيّة ، أو حضاريّة ، أو أخلاقويّة فتلك لا تهمّ مفهوم هذا الجنس ( الرواية ) في شيء ، كما أنّ الأفكار موجودة على قارعة الطريق ، وهي في متناول الناس جميعا ، وإنّما يعنيني طرق تصريف هذا الفنّ ( الرواية / كما جاء على لسان الكاتب على غلاف العمل وهو العقد الرابط بين الباثّ والمتقبّل ) ...
لم يوفّق الكاتب في مواضع عديدة في الخروج علينا بعمل روائيّ يلتزم بحدّ هذا الجنس وحدوده في الصفحات الأولى المتحدّثة عن عبد الناصر / الطالب . وإنّما رواح مكانه بين صياغة عمل روائيّ ، وكتابة لحظات تاريخيّة تؤرّخ لمرحلة مّا ولفصيل فكريّ مّا ، فجاء العمل ممزّقا في مساحات كثيرة بين صياغتين أو فنيّن ( الرواية / المذّكرات ) علاوة على طمس الصياغة المشحونة بالمباشرتية لجمال النصّ ، وحلاوة الرمز فيه ، حديث سياسوي فجّ ، ونقل لأحداث ( عرفها الواقع / المرجع ) نقلا لا يضيف لسير الحبكة ، ولا يساهم في تقدّمها ، بل يصيب النصّ بالترهّل والانتفاخ كقول الراوي في ( ص229) : " فقد كان مصدر مهمّا ..... ومتابعات دقيقة لما كان يجري في الأرياف من صراع شرس بين قائمات التجمّع الدستوري الديمقراطي........ وبين القائمات المستقلّة اسما ، والتابعة فعلا لحزب حركة النّهضة وريث الاتجاه الإسلاميّ الذي لم تعترف به سلطة بن علي حتى بعد بعد تغيير إسمه سنة 1988"
وقد حثّ فيّ عبد الناصر في نصّ " الطلياني " لشكري المبخوت ذاكرتي القرائية ، فخرج عليّ عمر الحمزاوي شخصيّة رواية " الشحاذ " لنجيب محفوظ ، كما وقف أمامي أبو هريرة المسعدي بتجاربه في " حدّث أبو هريرة قال " ، فالنص ّ كان مزدحما بتجارب الحسّ ، والتركيز في كلّ عمليّة مضاجعة على أدقّ لحظات الدعة ، واللذة فيها ( نجلاء ، زينة ، للّا جنينة ، ريم ....) ، لم أقصد هنا باب التفاعل الأخلاقويّ مع المسألة ، ولكن تكرارها مرات عديدة على امتداد النصّ أرهق العمل بالتكرار فتاهت "رموز النصّ " في غابات الشبق المجانيّ وصفا وذكرا . ولو اكتفى الرّاوي بذكر محطّات جنسيّة بعينها كلحظة اغتصاب زينة أو اغتصاب عبد النّاصر من قبل الشيخ علاّلة صغيرا ، أو لحظة عجزه عن ركوب ريم " آخر عابرة سرير " في آخر الرواية لكان العمل مساحات شاسعة لتعدّد القراءات والتّأويل ، إذ إنّ إقحام بعض التجارب الجنسيّة المجانيّة في متن النصّ وإصدار المواقف القيميّة الجانبيّة شوّهت جمال النصّ وتماسك بنبته التخيليّة ليصاب بذلك بداء الثرثرة .
هي تجربة اضطربت على سرير الأجناس ( الرواية / المذكّرات / المقال ) وعلى سرير الأنواع ( الرواية الواقعية الاشتراكية / التجريبية / الذهنيّة ) ، ولوعمل الكاتب على إزالة الشوائب والزيادات والإطناب والتداعيات لكان النصّ فتحا جديدا آخر في دنيا الرواية التونسية

2014-10-16