الأربعاء 15/10/1445 هـ الموافق 24/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
القدس بطعم رمضان ...نادية حرحش

يطل هلال رمضان في كل عام ليتجلى على القدس ببريق يصاحب به أضواء الزينة التي تكسو المدينة ، وكأنها عروس تتزين في يوم فرحها . تصبح القدس عروسا جديدة. عروس فلسطين ببهجة لا يستطيع منعها حاقد أو طامع ضاغن. يلتف الجميع حولها ، وكأنها الوحيدة التي تستحق الفرح . كأن عروسا قبلها لم تزف . كأنها بالرغم من كربها الدائم تستحق الغبطة رغم كل مصابها . تتزين سماء المدينة بلوحة بهية يزهوها شذا بوهج سحري فاتن يكاد يكون قدسي . وكأن الله والملائكة يشهدوا زفتها . مشهد تشعر به باقتراب السماء من قباب المدينة تتوسطها الصخرة وانعكاس لونها الذهبي في صفاء سماء رمضان..وكأنها تلامسها . تتكلل النجوم حولها مصطفة تلون السماء وتعكس أضواءا تحتفل فيها على نغمات المآذن والباعة وإطلاق مدفع الإفطار . القدس المدينة الحزينة دائما . تلك الجميلة التي يغشى عليها الاحتلال كالمغتصب ليلا ونهارا طيلة العام . تزهو بنفسها في رمضان وتبدأ عنوة بتطهير نفسها من مدنسي حجارتها وأروقتها من جنود وأذناب الغاشمين من الاحتلال ..فجأة يختفون ويصبحوا مجرد ظلال على الاروقة كالخناس في ليال يمحق فيها البدر سواد السماء . تعود القدس الى نفسها ، الى اصلها ،الى حقيقتها رغم أنف الواقع المرير. ترجع القدس في زفة رمضانية عربية أصيلة ..تذوب الاحياء وتصبح كلها حارات وأزقة عربية ..قد يقطنها المسلمون واليهود والمسيحيون ، ولكن طابعها يهلله تاريخ المدينة التي عاشت فخر الاسلام منذ بزوغه لتتوج دائما عصور عز الاسلام، سماحة لا يزال التاريخ المتمدن كما نعرفه اليوم يشهد ببيعة عمر بن الخطاب للمسيحيين وحفظه للقيامة ، ومفتاح الكنيسة التي يحرس عليه ابناء عائلة نسيبة المقدسية منذ ذلك التاريخ .ذلك التاريخ الذي كتب تسليم القدس الى عمر رضي الله عنه في شروطه المعلقة على حائط الجامع العمري: "هذا ما اعطى عبد الله عمر امير المؤمنين اهل الياء من الامان . اعطاهم امانا لانفسهم واموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وسائر ملتها ، لاتسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من اموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار احد منهم ." يصبح في القدس المسيحي مسحراتي في هذه الأيام وتقف النساء من مسيحيات ومسلمات، آبناء وبنات كنعان وعامور ويابوس ..أبناء فلسطين على الموائد لإطعام الفقراء من المارين بالمدينة . ذلك التاريخ الذي فرض على المدينة ليخلق منها حارة لليهود واخرى للمسلمين والنصارى والارمن في تقسيم يعطي اليهود ما ليس لهم في مؤامرة تشهد القدس في رمضان باطلها... نفس التاريخ الذي يتم تزويره في كل يوم ... مئات الالاف من أهل فلسطين تصبح القدس يوميا مسراهم، احتفاءا بمدينتهم في شهر إسراء رسولهم اليها ومعراجه الى السماء من أقصاها . تزهو القدس بجدرانها التي تحضن أهلها . كالام التي يتسع قلبها حب العالم في ابنائها . تحكي وأزقتها أمجاد قصة شعب صامد من أجل حمايتها . تعج بأهلها من كل صوب . مشهد يستمر بالتكرار على مدار الشهر الفضيل . أبوابها تستقبل احبابها بالرغم من حارسها الغاشم . يخط كل فلسطيني برجله واقع يتحدى به كل الصعاب التي تحيطه. تصبح القدس مرة أخرى هي المركز والعنوان . فالتسوق من باعتها المرتصون على قوارع الزقاق من باب العامود الى خنقاتها وحواريها وأزقتها، الفواكه والخضراوات بأيدي الفلاحات بنكهة فلسطين . الحلويات النابلسية والقطايف تفوح برائحتها عبق الصيام والتلذذ القادم لإفطار على عتبات الاقصى . كعك القدس وبرازق رمضان تنتظر جولات المصلون بعد صلاة التراويح. آصوات الباعة واجراس الكنائس وتكبيرات المساجد ، مرحبين ، مستقبلين ، محتفلين بعرس مدينتهم منتظرين ليلة القدر . ليلة الوعد . ليلة نزول القرآن.. فالقدس ليست حجيجا لأضحية إبراهيم عليه السلام...ولكنها أولى القبلتين... القدس ليست مزارا لتاريخ مر عنه فقط خطوات أنبياء.... ولكنها بقيت وطنا قام منه المسيح عليه السلام ودربه كان بين طريق آلامها وآلامه.... فيها نجا الله تعالى رسله إبراهيم ولوط عليهما السلام وهاجروا إليها.هي مدينة داوود عليه السلام والارض التي سخرها الله تعالى لسليمان عليه السلام بقوله:" ولسليمان الريح العاصف تجري بأمره الى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين" .. آرض كنعان وسليمان واليابوسيون. هي ميلاد يعقوب واسحاق واسماعيل ويوسف عليهم السلام. القدس ليست ايوان الملوك والسلاطين .... ولكنها شهدت بيعة الخلفاء وخلاصها كان انتصار التاريخ لصلاح الدين . القدس لم تلد الديانات ولكن حضنها الكبير وسعها ، فكانت هي مهدها وموطنها ومهبط الملائكة ومبعث الأنبياء. القدس ليست تاريخ شهدت فيه الحضارات نقشها... هي يبوس وايليا كابيتولينا واور سالم وبيت المقدس...القدس هي زهرة المدائن .هي الأرض المقدسة، التي بارك الله تعالى فيها وما حولها . هي التي قال تعالى فيها : " سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير. فللأًقصى تشد الرحال ... فهي القبلة التي ولى الرسول الكريم وجهته اليها بصلاته وخصها بفضل الصلاة اليها . فالصلاة بالمسجد الاقصى بخمس مئة صلاة . والصخرة المشرفة تكمن قدسيتها وصعود الملائكة منها الى السماء . هي المكان الذي عرج اليه الرسول الى السماء ... هي المكان الذي ينادي المنادي يوم الحشر منها . فالله يأمر بفصل القضاء من هناك على حسب أجماع الفقهاء من علماء الاسلام.. فالقدس ترادف اليها الصحابة الكرام ، عمر بن الخطاب ، وعبيدة عامر بن الجراح ، معاذ بن جبل ،عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهم ... فالقدس كانت حلمهم الذي رآه رسولهم الكريم.. بليلة الاسراء والمعراج .. فهي أرض المنشر والمحشر . هي ارض السعي الى الحرية ... عنوان حراك الأحرار للانتصار على الظلم والطغيان .. وها هو رمضان وقد زين الهلال سماءه وأضفى الضوء عليه بدرا في شهر تزينه الملائكة وتحوم على باحات أقصاه ..يقترب من ليلة القدر .. من ليلة نزول القرآن .. تلك الليلة التي تنزل الروح والملائكة فيها .. تلك الليلة التي توج الله العالم بزينة الإسلام .في تلك البقعة التي رفع بلال الاذان فيها فيما بعد مهللا بفتح القدس ...بأشهد ان لا اله الا الله ..اشهد ان محمدا رسول الله ... هي هذه اللحظة التي لا تزال تصل الارض بالسماء ... هي نفسها اللحظة التي التقى فيها الانبياء وارتقوا بخاتم الانبياء صلى الله عليه وسلم الى السماء وظللت ولا تزال بنورها الآقصى بباحاتها وساحاتها . . فمن القدس سلام لرسولنا الكريم ولعل ببركات الشهر الفضيل وحضور ليلة القدر بسط الله الملائكة بآجنحتها على الشام من محلقة من باحات المدينة المقدسة بسلم وامن يسلم ويأمن بلاد الاسلام من شر الحروب القاتمة والفتنة المتفشية المتغلغلة بين أبناء الشعوب. ..

2015-07-09