الأربعاء 12/10/1444 هـ الموافق 03/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
القصة القصيرة جداً في الاردن 'خيانات مشروعة' لعمّار الجنيدي نموذجًا.. الدكتور عمر العامري

خيانات مشروعة"، هو عنوان المجموعة القصصية الثانية لعمار الجنيدي، بعد إصداره المجموعة الأولى "الموناليزا ترتدي الحجاب"، التي تلتها هذه المجموعة، ثم مجموعتة "أرواح مستباحة". والمجموعة، مدار الدرس، صادرة عن دار أزمنة، بدعم من وزارة الثقافة، عام 2003م، وتقع في اثنتين وثمانين صفحة من القطع المتوسط.

عتبات النص

إذا أردنا أن نلج في أي نص أدبي فلا بد من الولوج فيه من بوابته الكبرى، التي يشرعها المبدع ويتركها ـ في أحايين كثيرة ـ مواربة، لكن هذه المواربة تجعلنا، أحياناً، أكثر اندهاشاً وتشوقاً لاكتشاف ما وراءها. وأول ما يلحظ على هذا العنوان، "خيانات مشروعة"، الحذف النحوي والمضموني فيه، بحيث يمكن قراءته وتأويل المحذوف بقولنا: هذه خيانات مشروعة؛ فتكون "خيانات" خبراً لمبتدئ محذوف تقديره اسم الإشارة: هذه، وقد تكون كلمة خيانات مبتدأ، فثمة مسوغ للابتداء بالنكرة، هنا، وهو أنها جاءت موصوفة بقولنا "مشروعة"، وعلى هذا يمكن تقدير الخبر إما شبه جملة، أو جملة فعلية، كأن نقول خيانات مشروعة في مجتمعنا، أو خيانات مشروعة حدثت.

 

ويعمد الجنيدي، من خلال، هذه العتبة إلى إحالتنا على مفارقة وانزياح لغوي دلالي يستمران معنا، ربما، في القصص كلها، كيف لا وهما (المفارقة والانزياح) من أهم الميزات اللصيقة بالقصة القصيرة جداً، إلى جانب ملامح أخرى سنأتي إلى ذكرها. فهو يجمع، في هذا التركيب الإسنادي للعنوان، من خلال معطياته الظاهرة والمحذوفة، بين أعناق المتنافرات، فيؤلف بين الخيانة، بوصفها أحد المعطيات الاجتماعية الممقوتة والمرفوضة، ويعطيها شرعية الوجود والحدوث الذي لم نألفه من قبل، فمتى كانت الخيانات مشروعة تحدث أمام مرأى المجتمع وسمعه، فيتآلف معها، وتصبح خبزاً يومياً لا يمكن الاستغناء عنه؟

 

وقد نوجه هذا الانزياح توجيهاً آخر، إذا ما عددنا "الخيانة"، هنا، خيانة فنية لا خيانة اجتماعية؛ بمعنى أن المبدع، دائماً، يحس بأن اللغة تخونه، فهي لا تقول، تماماً، ما يريد قوله، أو إنها ليست ناقلاً أميناً لما يختلج في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، ولما يدور فيها من رؤى واستشرافات، تفقد كثيراً من قيمتها الإيحائية والشعورية أثناء رحلتها، من عالم النفس العميق، إلى عالم الحس المتمثل باللغة والكتابة. من هنا جاءت محاولة الإنسان المبدع في مراوغة اللغة وتخصيبها، من خلال الانزياحات الدلالية، وانتهاك علاقاتها القارة، لتتفوق على نفسها، وتقول ما لم تألف قوله من قبل. وبهذا تكون خيانة اللغة هي خيانة مشروعة، ويكون المعنى المراد هو المعنى الطافي على السطح لا المعنى الغائر في ما وراء النص.

 

أما العتبات الداخلية ـ وعددها ثلاث وثلاثون ـ فجلّها يتكون من جمل اسمية حذف مبتدؤها، من تلك العناوين: الرهان، الأنيق، أسماء، الفاتنة، إغراء، المهمة، المهر، التريكس، المتمرد، الحفلة، الحزام الأسود، اللعنة، الكابوس، النورس، الفاشل، الجلاد، خوف، السجين، وجوه، الجلادون، اللوحة. وقليل من هذه العتبات جاءت جملاً فعلية يخرج على معنى التقريرية التي تفيدها الجمل الإسمية، وتنتقل إلى التركيز على الحدث والحركة والتنامي. فيما جاء عنوانان مصدّران بأسماء استفهام هما: لماذا بكى المعلم، و لماذا انتحر سلامة. وهذان العنوانان وأمثالهما، من العناوين، تخلق دافعية كبيرة لدى المتلقي، وتبقيه في حالة من التيقظ والتشوق والتوتر للعثور على الإجابة أو ما يحيل عليها.

 

ومما يلفت النظر، في عنونة القصص الواردة في هذه المجموعة، أن القاص ترك إحدى قصصه من دون عنوان، وترك للمتلقي حرّية اختيار هذه الثريا التي تضيء مساحات النص، كما يتفق مع الحالة النفسية والشعورية والانفعالية التي يتلقى بها النص، وحسب المنظور الفلسفي والإيدولوجي لهذا المتلقي. فالجنيدي، بهذا، يورّط المتلقي ليسهم في بناء النص القصصي، ليصبح النص نتاجاً مشتركاً، تشتبك فيه انفعلات متلقيه بالبنية الكبرى التي يقدمها الناص نفسه. والجنيدي يعمد إلى مثل هذا في كثير من متون قصصه، من خلال البياضات والفراغات التي يدعها مفتوحة على التأويل، فيورط القارئ ويقحمه في تداعيات الأحداث وظلالها، وبالتالي يشعر هذا الأخير بأنه جزء لا يتجزأ من النص وبنيته، يسهم في تنامي الأحداث وتطورها، ومن ثم ينشأ ذلك التماهي، وتلك الحميمية بين أطراف الثالوث المشكل للدائرة الإبداعية: النص، والناص، والمتلقي، الذي يرى انعكاس صورته في إحدى شخصيات القصة، أو يسقط ما يحدث في القصة على حكاية واقعية سمعها، أو متخيلة أسهم هو في إنتاجها.

 

من ملامح القصة القصيرة جدا

 

تعود البذور الأولى للقصة القصيرة جدا، كما يرى بعض الدارسين، إلى فن الخبر في تراثنا الأدبي، خاصة تلك الأخبار القائمة على ثنائية السّخرية والمفارقة، كبعض الأخبار التي وردت في كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف"، للأبشيهي. ومن هذه القصص، مثلاً، قول الأصمعي: رأيت بدويّةً من أحسنِ الناسِ وجهاً، ولها زوْجٌ قبيح، فقلت: يا هذه! أترضينَ أن تكوني تحتَ هذا؟ فقالتْ: يا هذا! لعلَّهُ أحسنَ إلى اللهِ في ما بينه وبيْنَ ربِّه، فجعلني ثوَابَه، وأسأتُ في ما بيني وبين ربِّي فجعله عذابي، أفلا أرضى بما رضي اللهُ به؟ (المستطرف في كل فن مستظرف، الأبشيهي، تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، ج2:ص57)

 

ويكاد يجمع الدارسون للفنون السردية المختلفة على أنه من الصعوبة أن نفصل فصلاً حاداً بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، فثمة تعالق وتداخل بين هذين النوعين الأدبيين، إلا أن ثمة ملامحَ وسماتٍ هي أكثر التصاقاً ووضوحاً، في القصة القصيرة جداً، من غيرها، أهمها: المفارقة، والانزياح، والترميز، والسخرية، والطرافة، والإدهاش، والجرأة، والتكثيف، وقد استطاع الجنيدي أن يحقق من هذه الملامح جلَّها، ولكن بدرجات متفاوتة.

 

أما الإدهاش فقد حرص الجنيدي على إرجائه إلى نهايات القصص، فهو يضع القارئ في حالة من التوتر المتنامي، الذي يأخذ شكل المنحنى الذي لا يعود إلى انفراج العقدة بصورة تدريجية، وإنما يستخدم الصدمة التي تترك المتلقي في حالة من الدهشة والانشداه، كاسراً أفق توقعاته، وتاركاً إياه يجول في دائرة من الخيبات الجميلة، كخيبة التوقع، التي حرص عمار على التزامها سمة لازبة لا يكاد يفارقها في نهايات قصصه كلها. والأمثلة على ذلك كثيرة، أذكر منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قصة "الرهان": حيث يحتدم الغضب والحنق في نفس الفتاة التي أخفقت في استدراج الشاب الجالس في المقهى ليتبعها، فتعود إليه وقد عقدت النية على شتمه، وتوبيخه، لكنها تصعق، وينتابها رغبة في البكاء، حين تقترب منه وتدرك أن هذا الشاب الوسيم الجالس على الكنبة كان بلا قدمين.

 

إن هذه النهاية الصادمة، نجحت على مستويين: الأول هو الحفاظ على الخيط مشدوداً بين تداعيات القصة والمتلقي، وهي ثيمة تلازم الأدب الأصيل بمختلف أشكاله وأجناسه، فينبغي على المبدع أن يحافظ على المتلقي في منطقة المابين، دائراً على بؤرة التوتر التي تنفرج أو تنفجر في لحظة معينة، مشكّلة صدمة تعمل على هز المتلقي من الداخل، وتركه يعيش المشهد والفكرة، لتبقى أصوات اللغة وتداعيات الحدث دائرةً في سمعه وبصره ووجدانه.

 

أما المستوى الثاني الذي حققته هذه النهاية فهو مقدرتها ـ فنياً ـ على تعرية شخصية المرأة أمام نفسها، وهذه التعرية جعلتها تلتفت إلى ذاتها، وتتصالح مع الجانب الخفي من شخصيتها، والالتفات إلى ما أنعم الله عليها من صحة وجمال، راحت تستخدمه في إغواء الشباب والاستعراض أمام أترابها من الفتيات اللواتي كانت في صحبتهن. إن هذه الصدمة كانت بمثابة اليد التي هزت وجدانها من الداخل لتتنبه وتلتفت إلى ذاتها المتعالية، فتعود لها إنسانيتها، وتتماثل للبكاء، ملمحاً إنسانياً يحيل على الندم والأسف والتطهير والالتفات إلى إنسانية الإنسان، وبذرة الخير التي أودعها الله فيه.

 

أما التكثيف فقد تبدى في قصة "المَهَمّة"، وهي قصة لم يتجاوز عدد كلماتها بضعاً وخمسين كلمة. ورغم ذلك استطاع القاص، من خلال الاقتصاد اللغوي والاستغناء عن عنصر الزمان، أن يقدم مشهداً إيحائياً غنياً بالدلالات، ومفتوحاً على التأويل الممتد أمام مخيال المتلقي، وهنا تكمن الفنية والمقدرة على مراوغة اللغة، وتكثيف الرؤى، واعتقال اللحظة المشهدية العابرة قبل انقضائها وتلاشيها. إن تأطير اللحظات العابرة واقتناصها هو ما يميز القاص الماهر، ذا العين الذكية، والبصيرة النافذة، ليعود ويتأمل هذه اللحظات كاشفاً عن كثافتها الشعورية والإيحائية، فيأخذ في محاورتها، وتخصيبها بمعطيات الذات الشعرية والشعورية، وتلوينها بألوان النفس، لتخرج متشحة بألوان الداخل والخارج، مزيجاً من جوانية القاص المتأزمة، وبرّانيته المغتربة وغير المتوائمة مع معطيات الحياة ومنجزاتها.

 

لقد استطاع الجنيدي أن يحمّل نصه هذا (المَهمة) الفكرة والحدث، من خلال تثبيت الومضة وتأطيرها، ومن خلال الحدث والشخوص والمكان والعقدة الدرامية والإبهار والدهشة والجمل الواصفة.. كل ذلك في كلمات قليلة ومكثفة ومترابطة تشكل ـ على قلتها ـ كوناً قصصياً متكاملاً، طرح من خلاله ملمحاً اجتماعياً، انتهى بنهاية غير نمطية، ذات علاقة وطيدة بسياق الاتجاه الدلالي للحكاية، تحتمل متابعة ضمنية من قبل المتلقي الذي تتداعى في ذهنه أحداث استكمالية مفتوحة على التأويل، ومنسجمة مع الحالة النفسية التي يعيشها المتلقي لحظة تلقيه الحكاية. واستطاع أن يقدم، كذلك، فكرة انتصار الملمح "الإيروتيكي" وانتحاء كل من الرجل والمرأة إلى بعضهما بعضاً، على الملمح الإنساني المتمثل في الالتفات إلى المريض وتقديم المساعدة له. فالطبيب ـ في هذه القصة ـ منهمك في مغازلة الممرضة التي تشعره بدخول المريض الذي تعرض للسعة عقرب، لكن الطريف في الأمر أن الطبيب يقوم بإجراء روتيني لا علاقة له بحالة المريض، إذ يطلب منه أن يفتح فمه ويمد لسانه، ليأتيَ التشخيص السريع من الطبيب قائلاً: "ليس بك أيُّ خلاف، ومع ذلك فإنني أنصحك بالامتناع عن التدخين"، ثم يستأنف الطبيب، ويعود إلى الممرضة لإتمام المَهمة.

 

هنا تكمن أهمية القصة القصيرة جداً في مقدرتها الكاشفة عن حقول دلالية متعددة، وتساعد المتلقي على إعادة إنتاج الرمز وقراءته قراءات مختلفة، كونه يَقرأ نصاً قصيراً، من السهل متابعته وإتمامه في بضع دقائق، فيتمثلُ الحكايةَ ويتعايش معها بصورتها الكاملة، ويعايش انفعالاتها وتداعياتها جرعة واحدة، لا كمن يقرأ نصاً روائياً طويلاً، يبتعد فيه عن الاستواء النفسي في جاهزية التلقي، ومدى التحفز الذهني، الذي يختلف باختلاف الظروف المحيطة بالقارئ، إذ تتم القراءة على فترات ربما متباعدة ومتقطعة، تعمل على نكث النسيج البنائي للقراءة، وربما تعذر حبكته مرة أخرى بالصورة التي ينبغي أن تكون عليه.

 

ومن الملامح التي استطاع الجنيدي أن يحققها، أيضاً، هو الترميز؛ ولعل قصة "إغراء" تمثل ذلك. فهي قصة تحكي حكاية امرأة عجوز لكنها ثرية، يعاكسها شاب فتنصاع لرغباتها الهاجعة، وتخرج معه في سيارته الفارهة.

 

إن الفكرة المرمَّزة ـ في تقديري ـ تكمن في السطر الأخير من القصة: "ضحكت في سرها، وابتسمت له. أعطته العكاز، ثم دخلت إلى السيارة..." إن الضحك المكبوت هو دلالة الرغبة الجامحة التي طالما حلَمت بها هذه العجوز، حيث لامس هذا الشاب مساحة هاجعة من عمرها ونفسها: لم يوقظها ولم يلامسها أحد منذ زمن بعيد؛ هذه الملامسة التي من خلالها شعرت بكل هذا الفرح العارم، والسرور العميم الذي جعلها تضحك، ولكن في سرها، والضحك في السر، هنا، يبدو مبرراً من قبل المرأة العجوز التي تريد أن تحافظ على هيبتها وحضورها، ولتبدي له عدم انكبابها وتهالكها عليه. أما ابتسامها له فهو علامة القبول والتواصل والرغبة التي اشعلها هذا الشاب الشقي بهذه الدعوة المستهجنة لهذه العجوز الثرية، وليس شيء غير ثرائها ما دعاه إلى هذه الفعلة.

 

ثم تأتي العبارة التي شكلت بؤرة الفكرة، وهي: "أعطته العكاز"؛ فالعكاز هو الرمز الذي يسند قامة العجوز ويمكنها من المشي، وهو ـ في الوقت نفسه ـ قرين الكِبَر والعجز والتقدم في السن. ولكن العجوز، في تلك اللحظة التي تتلقى فيها الدعوة من الشاب، تتخلى عنه وتناوله إياه، إنها ببساطة تخلت عن أهم ملازمات التقدم في العمر، وكأنها تتحايل على الزمن وتسند نفسها بنفسها، فالحالة النفسية تستدعي منها أن تعيش المشهد بكل تجلياته، مجترة أحلامها القابعة في كهوف النفس وأعماقها المعتمة، لتنقلها، شيئاً فشيئاً، إلى منطقة مبقعة بالضوء والغبش، ضمن مشهد مرآوي يحيل على لذاذات الشباب وفورة الحب وبهجة اللقاء. كذلك فإن وجود الشاب إلى جانبها جعلها تحس بأن ثمة شيئاً يسندها أهم من العكاز، لكن العجوز لم تتخل، تماماً، عنه، بدليل أنها ناولته للشاب، ما يوحي بنيّتها استعادته منه، لاحقاً، حال تخليه عنها، وكأنها تدرك ـ في قرارة نفسها ـ أنها، فقط، تتحايل على الزمن: إنها نقلة جعلت المرأة العجوز تعيش في المابين، بحيث تطل على الماضي والحاضر بعين مواربة، وبمشهدية ضبابية.

 

أما الطرافة فتشيع في معظم قصص المجموعة، ولعل قصة "حدث في شارع السينما" تمثل هذه الثيمة خير تمثيل: فالقصة تحكي حكاية رجل يتعرض للنشل من خلال رجل موّه عليه بأنه يعرفه، فيعانقه ثم يعتذر منه بعد أن يكون قد نشل محفظته من دون أن يشعر، ولم يكتشف الرجل المنشول الأمر إلا عندما أراد أن يدفع ثمن "جاكيت" أراد شراءه، عندها يسرع إلى أحد الزبائن الواقفين في المحل ويعانقه. وتنتهي القصة عند هذا المشهد، تاركة للقارئ إكمال تداعيات النهاية التي فهمت ضمنياً، بأن هذا الرجل الذي نُشلت محفظته مارس الأسلوب نفسه مع الزبون ونشل محفظته.

 

إن مضمون هذه القصة يحاول أن يعالج مشكلة اجتماعية خطيرة، تتجاوز مسألة النشل أو السرقة، وتتعداها إلى توجيه نقد شامل لنمط حياة بأكلمه، يضحك الناس فيه بعضهم على بعض، ويستخدمون الأساليب نفسها في الإيقاع ببعضهم بعضاً. يتضح ذلك بصورة أكبر إذا أرخينا العِنان لمخيلتنا مجترحين أحداثاً استكمالية للقصة، كأن نترك الصورة تناسخ مرآوياً، بحيث يقوم هذا المنشول بنشل شخص آخر، ويقوم هذاالآخر بنشل شخص غيره، وهكذا كلما أكتشف أحدهما أنه منشول يعمد إلى الفعل نفسه مع شخص آخر حتى تتناسخ الفكرة تناسخاً انشطاريا لا يمكن إيقافه.

 

وبعد، فقد استطاع عمار الجنيدي أن يقدم، من خلال هذه المجموعة، تجربة قصصية ناجحة، تنم على امتلاكه أدوات السرد وفنياته المشفوعة برؤى عميقة، واستشرافات بعيدة، وحساسية عالية لما يدور حوله ويدور فيه. ومجموعته هذه غنية بالملامح الفنية والمضمونية، التي يمكن طرحها ومناقشتها، كتناوله المسكوت عنه، وجرأته في الطرح، وتكرر ثيمة الموت بمختلف أشكاله وتجلياته، ولغته الواصفة التي تنتحي إلى الشعرية في بعض الأحيان، وتعدد الأنماط السردية وتوزعها بين استخدامه ضمير الغائب، حيث السارد العليم الذي يعرف كل شيء عن الأحداث وتناميها وتداعياتها، وضمير المتكلم، وفي أحيان قليلة ضمير المخاطب، حيث السارد المشارك الذي لا يعرف عن الأحداث في القصة إلا بقدر ما يعرفه القارئ. ناهيك من مقدرة الجنيدي على تناول اليومي والهامشي، والارتقاء به من المألوف إلى الداهش، ومن المحدود إلى المتعدد المتناسل من خلال امتلاكه أدواته السردية، وانتمائه إلى الواقعية، وابتعاده عن التجريد، إضافة إلى مقدرتة على الكشف عن النوازع النفسية واستجاباتها تجاه الواقع المعيش.

 

البوم صور
2015-09-03