الثلاثاء 14/10/1445 هـ الموافق 23/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
البعد السيكو-ثقافي للأزمة التركية-الروسية...د. حميد لشهب

كان أول تعليق رسمي لبوتين على إسقاط المقاتلة الروسية من طرف الأتراك في الأيام الأخيرة، كاف لوحده لإعادة إيقاظ جبل من الأحكام المسبقة المتبادلة بين شعبي البلدين، تمظهرت في روسيا في مظاهرات في شوارع مدن عديدة وبالخصوص أمام السفارة التركية بروسيا. ومن أهم الرموز التي التجأ إليها بعض المتظاهرين هو إحراق العالم التركي في الشارع العمومي، معبرين بذلك على إعادة إشعال ركام من المشاعر السلبية الدفينة للروس اتجاه الأتراك. هناك بعد نفسي-ثقافي عميق في تصريح بوتين: " [ ...] ما حدث اليوم هو طعنة بالخنجر في ظهر روسيا، قام به المتواطئون مع الإرهابيين. لا يمكنني وصف هذا الأمر بطريقة أخرى ...". بهذه العبارة نفض بوتين إذن الغبار على الصورة الحقيقية للأتراك في اللاوعي الجمعي الروسي، وهي صورة سلبية تكونت إثر الحروب التي دارت رحاها بين روسيا والإمبراطورية العثمانية ابتداء من القرن السادس عشر. فقد اندلعت الحروب بينهما للسيطرة على جزيرة كريم Krim والقوقاز والبلقان. وتتلخص الصورة النمطية للتركي العالقة في المخيلة الروسية في كونه متعطش للدماء، خائن، غادر، يطعن في الظهر ولا يمكن الثقة فيه وبه.

 

هناك بعض تمثلات العدو تستقر في نفوس الجماهير أكثر من غيرها، لأنها تتوارث جيلا بعد جيل، بل تصبح جزء من ثقافة الجماهير، وبالخصوص إذا ما غذيت من طرف النخبة المثقة لبلد معين. فإذا أخذنا مثلا سر نجاح وشهرة القصيدة الشعرية للشاعر الروسي كورناي تشوكوفسكي Kornej Tschukowskij، المكتوبة عام 1916 خصيصا للأطفال: "التمساح"، وهي سارية المفعول إلى يومنا هذا، يحفظها الأطفال على ظهر قلب في الروض، فإننا نفهم أحد الميكانيزمات السيكو-ثقافية التي تتغدى منها وعليها صورة نمطية سلبية ما عن ثقافة أو شعب ما. وهي أكثر من قصيدة، بل حكاية مقفاة، يقول مطلعها: "كان هناك في القديم/تمساح/يمشي في الشارع،/مدخنا سجارة البابيروسي [سجارة روسية تفتل باليد]/ ويتكلم التركية/تمساح، تمساح، تمساحوفيتش".

 

تسرد قصة القصيدة كيف كان الصغار والكبار من الروس يستهزؤون من أنف وفم "التمساحوفيتش"، عندما عضه كلب في أنفه وكيف ابتلع "التمساحوفيتش" هذا الكلب بسرعة. ثم صادف شرطي هذا التمساح، مخاطبا إياه: "كيف تتجرأ على المشي هنا والتحدث بالتركية؟". وكان مصير الشرطي هو ابتلاع التمساح له ببذلته. بعدها صعد التمساح "الطرامواي"، زارعا الرعب في صفوف المسافرين، إلى أن التقى بطفلة تسمى فانيا فاسيلفتيكوف Wanja Wassiltschikow، هددته بسيف من خشب، وقفل راجعا خائفا هاربا بجلده. هذه البطلة الصغيرة في القصة حية إلى حد الآن في المخيلة الثقافية الشعبية الروسية. ولعل بوتين، في غمرة الأزمة الروسية التركية الحالية، يجسد بالنسبة للروس تلك البطلة، التي هزمت "التمساحوفيتش"، الذي لربما يحلم عن وعي أو دون وعي بإعادة إحياء قصة تجوله في شوارع روسيا، بسجارة في يده، قاضيا على كل من التقى به، بما في ذلك الشرطي.

 

بعد انحلال الإتحاد السوفياتي القديم، واستقلال الكثير من الجمهوريات، نامت هذه الصورة النمطية في لاشعور الروس، بل قد تكون عوضت بصورة لربما إيجابية وبداية علاقات تجارية مع هذه الجمهوريات، بل وكذا مع روسيا الحالية ذاتها. هاجر الكثير من الأتراك نحو روسيا قصد الدراسة والعمل، ومارسوا التجارة، وبالخصوص ما يخص الغذائية منها بفتح مطاعم ومحلات لبيع الخضر والفواكه القادمة من تركيا. وفتحت تركيا فنادقها لاستقبال ملايين السياح الروس. بل فتحت مدارس تركية في روسيا وكثر الزواج بين الأتراك والروسيات، وتركت قصيدة "التمساحوفيتش" المكان لأشعار شاعر روسي آخر سيرجاي يسينين Sergej Jessenin في حفلات القران التركي-الروسي: "لم أكن أبدا في البوسفور،/لا تسأليني عنه./رأيت في عينيك/بحرا أبيضا متقدا" (1924)

 

أكثر من هذا، عند افتتاح مسجد موسكو في شهر شتنبر الماضي (مسجد من ستة طوابق ضخمة وسبعة مصاعد كهربائية"، قال أردوغان متعجبا ومبهورا: "لا نتوفر بعد على مثل هذا المسجد في تركيا".

 

بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية، يتضح بأن الجانب الإيجابي الحديث العهد للعلاقة الروسية التركية كان ظاهريا فقط، لم يستطع القضاء النهائي على الجذور النفس-ثقافية المتوغلة في المخيلة الروسية وعلى تمثل التركي بخنجر يغرسه في ظهر الروسي.

2015-11-30