الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
سد النهضة بداية النهاية لأخر نهر لدى العرب...المهندس فضل كعوش

قال  الله تعالى "وَجَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ" هذه ألآية الكريمة تعكس حقيقة الوجود بأكمله ، فلا حياة ولا بقاء لأي كائن حي فوق هذا الكوكب بدون وجود المياه، وقد يكون الماء هو اغلى ما يملكه البشر من الثروات الطبيعية التي وهبها الله سبحانه وتعالى لهم ليحيوا بها ولكي يدركوا قيمة ومعنى هذه الهبة كما جاء في الآية الكريمة .

 وتعظم وتزداد اهمية الماء في المناطق التي تعاني حالات الشح والندرة بالمياه وهي المناطق الشبه جافة والجافة ، ومن ضمنها المنطقة العربية التي تعتبر من افقر المناطق للموارد المائية في العالم ،وأكثر البلدان التي تعاني من ازمات حادة ومتفاقمة في نقص موارد المياه العذبة ، مما دفع العديد من الدول العربية المقتدرة اقتصاديا للجوء الى ما يعرف ببدائل المياه غير التقليدية وأهمها تحلية مياه البحر لتغطية احتياجاتها من الماء لكافة انواع ألأستخدامات المنزلية والصناعية وبشكل جزئي للأغراض الزراعية،حيث بلغ الأعتماد على تلك المصادر غير التقليدية من المياه المحلاة نسبة تزيد على 85% من حجم استهلاك المياه في معظم دول الخليج العربي.


تواجه غالبية الدول العربية مخاطر  نقص متزايد في الموارد المائية الطبيعية العذبة ، تزداد حدة واتساعا سنة بعد سنة ، وقد اصبحت تشكل تهديدا حقيقيقا لحاضر ومستقبل الأمن المائي العربي في تلك الدول ، وقد تكون تلك التهديدات بطبيعتها وابعادها تتصدر قائمة التحديات الكبرى التي تواجه غالبية دول المنطقة العربية وتحد من قدراتها في تحقيق التطور والتنموية المنشودة .

تقع معظم الدول العربية تحت خط الفقر المائي، وتعتبر حصة الفرد من المياه اقل المعدلات في العالم، ففى عام 1960 كانت حصة الفرد فى المنطقة العربية من المياه العذبة المتجددة والمتاحة للأستخدامات المختلفة تزيد على معدل 4000 متر مكعب سنوياً، أما اليوم فحصة الفرد لا تتجاوز 350 متراً مكعباً فى السنة، وهى أدنى كمية متاحة للفرد عالميا ويخشى أن تصل هذه النسبة إلى اقل من 200 مترا مكعبا فى بداية العام 2020 ، بمعنى أن معظم الدول العربية وربما جميعها  اصبحت تحت خط الفقر المائي وهذا يعنى أن هناك أزمة مياه عميقة وشديدة الخطورة  اصبحت تواجه غالبية دول المنطقة العربية قد ينجم عنها كوارث بيئية واجتماعية حتى العام 2025 في ابعد تقدير .

معظم الدول العربية تعانى من نقص شديد في الموارد المائية العذبة كما اسلفنا، وهناك عدة دول عربية تعتمد بألأساس على الموارد المائية من خارج حدودها بنسب كبيرة تصل في بعضها الى اكثر من 70%، وتصنف 19 دولة عربية بدول تحت خط الفقر المائي ، علما بأن معدل الفقر المائي الذي احددته الأمم المتحدة هو 1000متر مكعب للفرد في السنة، ويقدر عدد السكان العرب المحرومين من خدمات مياه الشرب العذبة والنقية حاليا بنحو 88 مليون نسمة اي ما يقارب نسبة 23% من اجمالي عدد السكان العرب المقدر بحوالي 388 مليون نسمة .
 
الطلب على المياه في تزايد كبير نتيجة للنمو السكاني وإتساع المناطق الحضرية والتطور الصناعي وما شابه ذلك ، ويقدر حجم ألأحتياجات المائية الحالية لكافة الدول العربية بحوالي 360 مليار متر مكعب ، بينما يقدر حجم الموارد المائية المتاحة للأستخدام كمصادر مياه تقليدية عذبة (مياه طبيعية) حوالي 280 مليار متر مكعب، وغير تقليدية (مياه محلاة او مياه مجاري معالجة ومعادة للأستعمال وما شابه ذلك)  حوالي 42 مليار متر مكعب ، اي ان العجز القائم في الموارد المائية في الدول العربية قد يتجاوز حاليا معدل 40 مليار متر مكعب ، وإذا أخذنا بعين ألأعتبار مخاطر إتساع الملوحة العالية للمياه الجوفية بسبب عمليات الضخ الزائد وتقدم مياه البحر والتلوث الزراعي والصناعي مما أصبح يشكل تهديدا حقيقيا لمصادر المياه الجوفية العذبة وخزاناتها الصخرية الجوفية ، وطبيعة الصراعات القائمة على مصادر المياه المشتركة مع دول واطراف الجوار، ندرك من خلال ذلك طبيعة وحجم المحاطر التي اصبحت تواجه المنطقة العربية وشعوبها وتشكل خطرا حقيقيا في حدوث الكارثة الكبرى بتحول معظم المناطق العربية الى مناطق صحراوية قاحلة ، ستكون كافة  مصادرها المائية فيها مالحة او ملوثة  ... عندها ستكون  الحياة فيها صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة فلا حياة في أرض لا ماء فيها ....

ولعل ما يترافق من مشاكل تسهم فى تعميق الازمة هو عدد السكان المتزايد بنسب نمو عالية تزيد عن باقى الامم الأخرى ، فعدد السكان فى العالم العربى حوالى 388  مليون نسمة ونسبة النمو اكثر من 3% ومن غير المتوقع ان تحافظ هذه النسبة على مستواها بل ستزيد ، مما سيترتب عليه الزيادة المضطردة في عدد السكان الى حوالى 500 مليون نسمة عام 2025. ولا يجب ان ننسى ان نسبة الوفيات منخفضة وان معدل متوسط العمر ارتفع الى حوالى 66 سنة بعد ان كان 48 فى عام 1960 مما سيسهم فى مضاعفة عدد السكان فى العالم العربى الذى يعتبر من الامم الناشئة لان نسبة جيل الشباب عالية جداً. وبالتالى فان زيادة السكان تعنى زيادة الطلب على الماء ومن المعروف ان الموارد المائية محدودة جداً وهى فى طريقها الى النضوب.


 لهذا فأن ألأوضاع المائية في المنطقة العربية باتت تشكل هاجسا كبيرا ، فالتحديات التي تواجه الدول العربية بشأن ضمان ألأمن المائي للحاضر والمستقبل هي بطبيعتها تحديات صعبة وكبيرة جدا ، اهمها زيادة الطلب على المياه نتيجة لزيادة عدد السكان واتساع المناطق الحضرية ومخاطر وابعاد التغيرات المناخية والأزمات الأقتصادية بألأضافة الى الصراعات السياسية على مصادر المياه المشتركة التي باتت تشكل اكبر واهم التحديات والمخاوف المتزايدة في فقدان العرب القدرة في الحفاظ  على حقوقهم المائية في مجاري احواض المياه الدولية المشتركة ، حيث اصبحت قضية الحقوق المائية العربية محل صراعات قائمة ومستمرة بين دول المصب العربية ودول الجوار غير العربية وباتت طبيعة تلك الصراعات تشكل تهديدا حقيقيا للحقوق العربية في مجاري الأحواض المائية الدولية المشتركة، النهرية منها والجوفية، وذلك نتيجة للأجراءات الفردية التي اتخذت من قبل تلك الدول في مناطق اعالي الأحواض من انتهاكات خطيرة مخالفة للقانون الدولي ومرجعياته تجاه حقوق ألأخرين .

 فقد اكدت اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية ( وتشمل احواض الأنهار والبحيرات وألأحواض الجوفية) في ألأغراض غير الملاحية على مباديء عدة استقرت عليها ألأتفاقيات الدولية وألأعراف، وهي تتجلى بمبدأ ألأستخدام المنصف والمعقول للموارد المائية المشتركة المرتبط بمبدأ ألألتزام الكامل بالتعاون بين دول الحوض المشترك، حيث إن ألأنتفاع العادل والمنصف يلزم الدول المشاركة في مجرى مائي دولي بأستخدامه وتطويره وحمايته بطريقة عادلة ومعقولة ، وان تفعل ذلك بروح التعاون ، لأن العنصر ألأساسي لمفهوم المشاركة هو تعاون دول المجرى المائي بالمشاركة على اساس منصف،بقياس ألأعمال والنشاطات الهادفة للوصول للأستخدام ألأمثل لمياه المجرى ، وبالتالي إن مبدأ المشاركة المنصفة ينجم ويتعلق بقاعدة ألأستخدام المنصف . وهو عمل مشترك بين دول المجرى للوصول الى اكبر قدر من الفائدة المشتركة ، كما ان المشاركة المنصفة لا تتضمن حقوقا فقط ، بل واجبات والتزام بالتعاون الحقيقي .

كذلك فأن مبدأي عدم الحاق الضرر وواجب ألأخطار يعتبران من المباديء المستقرة في مجال ألأنهار الدولية ، وهما مبدآن مرتبطان ، حيث يتوجب على جميع الدول المشاطئة الا تلحق ضررا بألأخرين ، كما انه يتوجب عليها إخطار ألأخرين في حال قيامها بأجراءات و مشاريع مستقيلية ايا كان الهدف منها ، من الممكن ان تلحق ضررا بالدول ألأخرى   

فتركيا التي نفذت اضخم مشروع مائي على حوضي دجلة والفرات بشكل فردي مخالف للقانون الدولي تجاه حقوق جيرانها سوري والعراق كدول المصب كما اشرنا اعلاه، ويشمل هذا المشروع المعروف بأسم مشروع "الغاب" اكثر من 22 سدا اضخمهم سد اتاتورك على نهر الفرات بسعة تخزينية تفوق ثلاثة اضعاف معدل التصريف السنوي لنهر الفرات والمقدر بحوالي  33 بليون متر مكعب ، وبهذا المشروع العملاق تكون تركيا قد ضمنت سيطرتها الكاملة والدائمة على كامل منابع نهري دجلة والفرات دون ادنى اعتبار لحقوق جيرانها العرب ، حيث ترفض تركيا اساسا ألأعتراف بتلك الحقوق وتعتبر ان كامل مياه النهرين الدوليين دجلة والفرات هي مياه تركية وبالتالي فهي من حق تركيا وحدها بأعتبارها صاحبة المنابع لمعظم التصريف السنوي للنهرين دجلة والفرات ، وبأن ما تقوم  الحكومة التركية بتخصيص جزء يسير نسبيا من تلك المياه لجيرانها سوريا والعراق، ليس إلا مكرمة وحسن جوار ، بمعنى ان إحتمالات وقف تقديم تلك المكرمة وارد في كل وقت ، وبالتالي يمكن الجزم بأن العرب قد فقدوا القدرة على استعادة حقوقهم المائية في هذين النهرين الدوليين والتي باتت منابعهما تحت سيطرة ألأتراك والى ألأبد. مع التنزويه هنا الى ان المفاوضات التي جرت على مدى اكثر من اربعة عقود بين الأتراك والسوريين والعراقيين لم تصل الى اية نتيجة بأستثناء المكرمة التركية المحدودة والمشروطة التي اشرنا اليها اعلاه .

واسرائيل التي خاضت حرب عام 1967 بهدف احكام السيطرة الكاملة على منابع نهر ألأردن وروافده ومجراه الرئيسي وباتت صاحبة ألأمر والشأن في كامل الحوض ، تنهب وتستغل اكثر من 80% من مياه النهر ، وقامت بعملية نقل وضخ معظم مياه الحوض الى اواسط السهل الساحلي وحتى شمال النقب بشكل فردي يتعارض كليا مع مباديء وقواعد القانون الدولي التي اشرنا اليها اعلاه ، رغم ان نهر ألأردن هو نهر دولي يتشاطيء في حوضه خمسة اطراف هي سوريا، لبنان ، الأردن ، فلسطين واسرائيل ، الا ان اسرائيل ضربت بعرض الحائط كل ذلك وقامت بأنتهاكات خطيرة تجاه حقوق الأطراف العربية المشاطئة ، وحولت بكل وقاحة هذا النهر العربي المقدس الى نهر اسرائيلي من خلال احكام سيطرتها الكاملة على مجمل منابع الحوض كما اسلفنا ، وأوقفت تدفق المياه عبر الجزء الجنوبي للنهر بأتجاه مصبه في البحر الميت الذي اصبح يتهدده خطر الزوال ، مما الحق الضرر الكبير في الجزء الجنوبي للنهر ادى الى جفافه والى تدمير بيئته بالمخلفات السائلة التي تم تحويلها الى هذا الجزء من مناطق طبريا وبيسان وجوارهما ، لتحرم الفلسطينيين من حق ألأنتفاع بمياه الحوض ، وبالتالي لم يعد من الممكن اعادة ألأمور الى سابقها في كامل مجرى النهر وخاصة في جزئه الجنوبي الذي حولته اسرائيل الى جدول صغير ملوث ومدمر بيئيا بشكل كامل .

وما يجري الأن في حوض نهر النيل من قبل اثيوبيا التي تعمل حاليا في بناء ما بات يعرف بسد النهضة يعتبر كما يبدو بداية لمؤامرة خبيثة بدايتها هذا السد ونهايتها غير واضحة ، ويخشى ان يكون ألأمر اكبر بكثير من اهداف سد النهضة 
فقد باشرت اثيوبيا العمل في بناء سد النهضة خلال منتصف العام 2011 دون ألألتزام بتبليغ مصر كدولة مصب وبدون تنسيق مسبق وفق ما تفرضه الأتفاقيات الموقعة ومباديء القانون الدولي ومرجعياته بهذا الشأن ، وبررت اثيوبيا اجراءها هذا من خلال تصريحات اعلامية جاءت على لسان كبار مسؤوليها ، حيث ادعى المسؤولين الأثيوبيين بأن السد لن يلحق اي ضرر ذات شأن بمصر او بغيرها من دول الحوض ، وبأن الهدف من بناء السد هو لتوليد الطاقة الكهربائية فقط وبأن سعته التخزينية مصممة لهذا الغرض فقط ، الا ان اثيوبيا عادت بعد ذلك واجرت تعديلات جوهرية على التصاميم الهندسية للسد بهدف مضاعفة  السعة التخزينية لتصبح نحو 74 مليار متر مكعب، بعد ان كانت حكومة اثيوبيا تتحدث سابقا عن 11تخزين  مليار متر مكعب ، وبهذا التعديل الذي اجري اصبح بأمكان ألأثيوبيين حجز وتخزين ما يوازي إجمالي تدفق مياه النيل لمدة عام. وعليه فإن ملىء خزان السد ولاسيما في سنوات الجفاف سوف يؤثر بشكل سلبي وكبير على تدفق المياه إلى مصر ويضع الأمن القومي المصري في خطر كبير ، علما بأن السعة التخزينية المطلوب توفرها خلف السد لغرض توليد الطاقة الكهربائية لا تتطلب اكثر من 12 مليار متر مكعب كما كان مخطط لذلك بألأساس من قبل الشركة الهندسية المصممة للمشروع ، ووفق ألأصول الهندسية لمعايير الطاقة المطلوبة ، الا ان قرار الحكومة الأثيوبية بشأن تعديل التصاميم بهدف زيادة الطاقة التخزينية لبحيرة السد بحجم التصريف السنوي للنهر يعتبر ذات مقصد واهداف خفية وخطيرة .

 ابتدأت حقيقة النوايا ألأثيوبية تجاه مصر وتحديدا تجاه حصة مصر الحالية من مياه النيل ، تظهر وتتكشف اكثر فأكثر من خلال التصريحات المتتالية للمسؤولين ألأثيوبيين ومن خلال ما يجري على ارض الواقع من ترجمة عملية لتلك التصريحات ، فما اعلن عنه من خطط علنية حتى ألأن حول المشاريع الأثيوبية المزمع اقامتها على مجرى النيل ألأزرق اكبر واهم رافد لحوض النيل الرئيسي ويقدر معدل تصريفه 84% من تصريف الحوض الرئيسي، ستشمل تلك المشاريع بناء خمسة سدود من ضمنها سد النهضة تشكل مع بعضها البعض نظاما موحدا اذا ماتم تنفيذ تلك السدود مع سد النهضة فأن ذلك سيلحق الضرر الكبير بالمصالح المصرية ولا شك أن ما تخطط له اثيوبيا ضمن هذا الأطار يعتبر تهديدا بالغ الخطورة على مصر وحصتها من مياه النيل التي ترفض إثيوبيا دوما الاعتراف بها وهذا ما قد يدخل مصر في مرحلة ما بعد سد النهضة في مرحلة الفقر المائي ، نذكر هنا اهم وأخطر الأضرار التي قد يتسببها سد النهضة على مصر :

-  انخفاض حصة مصر في مياه النيل بمعدل 12 مليار متر مكعب من اصل 55 مليار تحصل عليها مصر حاليا مما سيؤدي الى جفاف

حوالي 2 مليون فدان من ألأراضي الزراعية وتشريد اكثر من 4.5 مليون اسرة مصرية.

-  في حالة نشوء خلافات سياسية  بين مصر واثيوبيا سيكون بأستطاعة حكومة اثيوبيا تهديد مصر بحجز قسم كبير

من تصريف النيل الأزرق قد يصل معدله الى اكثر من 40 مليار متر مكعب  وهي نصف قدرة تخزين بحيرة السد ،

-  خسارة للقطاع الزراعي المصري بنسبة  24% من الأنتاج الزراعي.

-  دخول مصر في قائمة دول االفقر المائي.

-  تأثير سد النهضة على انتاج الكهرباء من السد العالي بنسبة قد تصل الى 30% .

-  في حالة تعرض سد النهضة للأنهيار لأسباب مختلفة ستكون النتائج خطيرة جدا على السد العالي.

 

لقد بات واضحا بأن هناك نوايا سيئة تخفيها اثيوبيا ومن خلفها من يدفعها بهذا ألأتجاه للتحكم بمياه اعالي النيل ولوضع مصر في وضع صعب تستخدم مياه النيل كورقة ضغط لتحقيق مآرب سياسية اخرى .

2016-01-02