الأربعاء 12/10/1444 هـ الموافق 03/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
راهيم الحساوي.. المرعب! / هاني نديم

 

إن أراد أن يمدحك شتمك، إن أراد أن يشتمك، مدحك!

إن دعست على طرف إصبع الحقيقة في مكان ما، دهس على رأس العالم من كل صوب، إن آذيته يضحك ضحكاً مجنوناً ويعانقك ثم يمضي لآخر مرة لا تراه بعدها...نزق، غضوب، يتشاجر وكأنه يأكل أصابع العروس ويكتب وكأن لا قارئ له غيره، متعالٍ بانكسار هائل، منكسر بشموخ لا يوصف.

راهيم الحساوي ذلك الذي لا يجرؤ أحد بالاقتراب منه والكتابة عنه لسكينه "السبع طقّات" التي يخفيها في جيب أحرفه الجارحة الخادشة،الجارحة نعم، إنما جرح من يخرج رصاصة قاتلة من جسدٍ عفن.

لا يشبهني في شيء، أرفض خطابه المتشفّي والمتعالي ولا أطيقه في كثير من المرات، ولا أكمل نصوصه لآخرها ربما مخافة أن أواجه نفسي التي أخفيها داخلي،  إلا أنني أحب ما يفعل وما يكتب وكيف يوظف كل جراحاته ونزقه ليكون كاتباً حقيقياً لا يأتيه الزيف لا عن يمينه ولا عن شماله!.

سألته: هل أنت مجنون بالمعنى الشائع؟ هل تستثمر جنونك إن كان حقا هنالك جنون؟ فيجيب باهتمام: "لا أستطيع أنْ أقول إني مجنون بقدر ما أستطيع أنْ أقول إني أنظر للعالم نظرة مجنونة، والذي يخفف حدة الجنون عندي هو أني لا أريد أنْ أفقد عقلي وأكتفي بنظرتي المجنونة للعالم دون أنْ أتورط و أصبح جزءاً منه، و هنا يأتي دور الإدراك بأعلى حالاته، ويمتزج الجنون والإدراك معاً ليشكلا حالة الحياة، وإنْ طغى الإدراك المُتزن على الجنون تكون الكفة لصالح الحياة كهيئة قائمة بطبيعة الحال، وإنْ طغى الجنون على الإدراك تكون الكفة لصالح الجحيم والألم، فالجنون ساخن ومتحرك والعالم بارد وثابت ومن هنا تأتي آلام الجنون".

يضيف راهيم: "لا أستثمر هذه النظرة المجنونة كحالة إبداعية كما ينظر إليها البعض أو كما يتعامل بها البعض الآخر، أعيشها فقط، وانتهزها كعامل مساعد على قسوة الحياة والطبيعة البشرية ومصير الإنسان النهائي وغير النهائي، فثمة جنون مغمور في النفس لا يشعر به إلّا صاحبه، ولا يمكن لأي أحد أنْ يلاحظه، فهو عميق ويقبع في قاع الذات الكامنة. قد أعبر عنه أحياناً ولا أستثمره بالمعنى الحرفي لشدة صعوبته".

راهيم الذي لا يهدأ، قدم للمكتبة العربية عدة إصدارات بين الرواية والمسرح، يهدي روايته المدهشة "الشاهدات رأساً على عقب" إلى "الذين لا أعرفهم ولا يعرفوني"، ويبدأ أول صفحة فيها بتشريح فلسفة التبّول!، إنه ذئب من ذئاب الكتابة اليوم، يلاحق قطيع الكلام العادي فيشبعه قتلاً وذبحا..

سألته: من أي مكان في داخلك تنطلق إلى كتابتك الإبداعية؟ فيجيب: "أنطلق من الهوامش المرمية في داخلي، تلك الأشياء التي لم تنضج، ولم يكن لها أنْ تنمو، لذلك هي أشياء خام أكثر من غيرها في حياتنا، تلك التفاصيل التي لا تشكل هوية وتبحث عن هوية لها في حياتنا وفي ذواتنا".

هذا الوجودي المرعب لا يفكر بالوصول إلى شيء أو مكان!، يقول: "لا أفكر بالوصول لشيء، ولا أطمح بشيء، كل طموح في داخلي أقتله على عجل كي لا يشكل خطراً على حريتي التي أعيش عليها وأتنفس منها بكل معنى الكلمة، وبدلاً من أنْ أفكر بالوصول لشيء ما أفكر بالإنطلاق الذي أنطلق منه وهذا كل ما يهمني، لحظة الإنطلاق أكثر نشوة ومتعة من لحظة الوصول والتفكير بالوصول، فالوصول ذروة الواقع ، بينما الإنطلاق ذروة الخيال و كثافته . فالتفكير برصاصة البدء التي يطلقها رجل سباق المسافات القصيرة أكثر ملامسة للدماغ والأحاسيس من ملامسة الصدر للشريط الحريري في نهاية السباق لحظة اللهاث والنهاية، فالنهاية مؤلمة كيفما كانت، وفي أفضل أحوالها مثل الشيخوخة".

الرقة الجارحة

قلت لراهيم: أنت مستفز، هجومي، حاد، يقاطعني بقوله: "نعم نعم صحيح، وكل هذا حدث لأني في منتهى الرقة، وللدقة أنا مزيج من كل شيء ولكن تحت رعاية ووصاية رقة تفيض بخيال لا أستطيع ضبطه إلّا في حالات الحزن والكآبة. فالاستفزاز والحدة والهجوم هي أشياء تغلي بداخلي لقتل كل شيء وبأسرع وقت ممكن، كي أحظى بالرقة والهدوء الذي أنا عليه والذي يلامس قلبي أكثر من أي شيء آخر، هكذا مثل النعاس والتثاؤب".

من شجرة العدم والتخلي، من سلالة اللامتسلسلين جاء الحساوي!، يقول: "لا يوجد لدي آباء في الإبداع بالمعنى الدقيق، فالآباء الروحيون نحن، ولكن قد يأتي أحد ما ليحرك الكامن في داخلنا فنظنه أباً روحياً لنا، وهذه حقيقة ما يُسمى بالأب الروحي أو العراب، أنا من سلالة المتطرفين في الحياة! متطرف بالألم ومتطرف بالفرح، فأحاسيسي أكبر من قدرة احتمالي، حتى الحب يؤلمني بقدر ما يؤلمني الكره، فالفرح إرهاق أيضاً، و كل ما يتعلق بالأحاسيس إرهاق حقيقي. لذلك الموت بغتة هو أجمل ما يحدث للإنسان!".

في محاولتي لأفهم تكوينه الكتابي سألته عما قرأ ولمن، فأجاب: "قرأت ما تيسّر لي من كتب الفلسفة والمسرح والرواية والشعر الجاهلي ومشاهدة السينما فهي أيضاً بمثابة القراءة، إلا أن أهم مصدر معرفي بالنسبة إلي هو التأمل والملاحظة والتفكير في حقيقة الأشياء سواء كانت سلوكية أو معرفية، فمثلاً أتأمل أصل الضحك عند الإنسان، كيف جاء؟ ولماذا؟ وهل هيئة وشكل الضحك على الوجه طبيعي أم أنه مُكتسب، وهل يمكن لنا أنْ نعبر عن الضحك بطريقة غير طريقة الضحك بالوجه! كأنْ نضرب قدمنا بالأرض بهدوء، أو نميل برأسنا على الكتف ونغمض أعيننا مثلاً".

إن سألتني من هو راهيم الحساوي، سأقول لك هو خضير ميري سوريا، سأقول أنه كاتب من الغرابة بمكان أن يهرب منه النقاد والكتاب والحياة برمتها، سألته هو: من هو راهيم حساوي؟ فأجاب كما أجابني خضير ميري تماماً: راهيم حساوي هو راهيم حساوي، الذي لا يمكن للآخر أنْ يعرفه، ولا أتحدث عن الأدب، فأسوأ ما أقصده هو الأدب، بل أتحدث عن الذات المُغرقة بعالم أشبه بكومة شعر في سلة مهملات في صالون الحلاقة، والتي جاء ذكرها في روايتي الأولى "الشاهدات رأساً على عقب" في المشهد الأول من الرواية. وهذا الكلام لا ينطبق علي فحسب، بل على معظم الناس، و من الخطأ أنْ أقول على جميع الناس، أنت مثلاً يا هاني، لا أعرف عنك سوى شعرك، و هل الشعر والأدب أهم من ذواتنا! لذلك أقول: أسوأ ما أقصده هو الأدب".

ابن العدم

يحاور راهيم نفيه أمامي، يقول: "أنا حصيلة العدم الذي يتكاثف فجأةً بين الحين والآخر رغم وجوده الدائم بداخلي، العدم الذي يصل إلى ذروته حين يصبح العالم في ناظريك مثل كابوس، ولقد عبرتُ عن هذا في نص مسرحي من فصل واحد"الرخام"، حيث ينتهي النص بمشهد يتعلق بقصاصة الأظافر حين يجلسون و يقصون أظافرهم بهدوء، وقص الأظافر أفضل شيء يفعله الإنسان حين يريد أنْ يرحل بنفسه بعيداً عن كل فوضى الحياة وأرقها ، يجلس عند النافذة و يقص أظافره و كأنه يقلّم عقله من كل شيء".

سألته: كيف تقرأ كل ما يجري من حولنا: ثورات، تكتلات، مفخخات..فيجيب: "أنا مع الثورات، الناجحة منها وحتى الفاشلة، ولكني حزين ومتألم على كل ثورة تم المتاجرة بها على حساب من دفعوا الثمن غالياً. لقد أصبح العالم أقذر مما هو عليه، أصبحت لغة الدم والمفخخات أسهل لغة يمكن للبعض تعلمها خلال ثلاثة أيام ودون معلم، وهذا ما يريده العالم الذي يدعي الحضارة و ينادي بها، إنهم يفعلون هذا عمداً، وهذا ما لا نريده، هم يتاجرون سياسياً بتهمة الإرهاب لنا والتي يستطيعون اجتثاثها بين ليلة وضحاها، وكل هذا التطرف ما هو إلّا صناعة عالمية نحن أبرياء منها، نحن أبسط من أنْ نقتل عصفوراً لو أنهم يريدون لنا نجاري الحضارة بالقليل من الرعاية التي سبقونا إليها، ومع ذلك نحن أبسط من أنْ نقتل العصافير، فليترجموا قصائد الشعراء وليعرفوا هذا".

العالم الغارق بالحنان

أخيراً، ما أود قوله في نهاية هذا الحوار ولا بد منه؛ هو أننا نبحث عن أقل أنواع الخسائر في حياتنا، حتى الصداقة والتي يبالغ بها البعض، ما هي إلّا علاقات لأقل أنواع الخسائر، والعلاقة بين رجل وامرأة، والأهم من هذا كله هو الكتابة والأدب والفنون، لا أرى منه سوى أنه أقل أنواع الخسائر، وليس فيه ذاك القدر الكبير من السعادة كما يزعمها البعض، ربما هم يقصدون الشهرة وما ينتج عن الشهرة، وهذا الغش بعينه، لذلك أحب أنْ أسمي الأشياء بكيانها التي هي عليه، وليس بما سينتج عن هذه الأشياء. ومع هذا كله، ما فائدة الشهرة بين الناس ما لم يكن الوجود شهيراً بداخله.

بمثابة خاتمة وخروج من هذا الحوار، أود أنا أيضاً أن أقول، ولا بد أن أقول: يكرس الإعلام اليوم أسماءً لا يجب تكريسها ظالماً أسماءً في منتهى الجمال والاختلاف. ها نحن نحاول أن نشتق من "الإعلام" كنهه ومعناه، ونعلم من لا يعلم فنقول: راهيم الحساوي، مرعبٌ ببساطة!. 




2016-09-21