الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
سِر النعش المتروك !! ...بقلم : أمير شفيق حسانين

كثيراً ما يقوم أهل القاهرة،بالصلاة على موتاهم، بكبرى مساجد القاهرة بمصر، مثل مسجد السيدة نفيسة أو عمر مكرم أو السيدة عائشة أو مصطفى محمود أو عمرو بن العاص.. وغيرها، ولعل السبب هو سعة رقعة تلك المساجد العريقة، واستيعابها أكبر عدد من المصلين، علاوة على وقوعها في وسط القاهرة،وشهرتها وسهولة وسائل المواصلاتإليها.

ولو أنك ذهبت للصلاة على ميت في مسجد السيدة نفيسة مثلاً، ستجد عدد الموتي المتراصين داخل نعوشهم جنباً إلى جنب، ربما يفوق العشرة موتى،حيث يتم الصلاة عليهم جميعاً في ميقات واحد.

وذات مرة، كان أحد مساجد القاهرة، يمتلئ عن آخره بالمصلين، وقد حضروا فرادى وجماعات للصلاة على جثامين موتاهم، وعندما أمر إمام المسجد ببدء الاستعداد لصلاة الجنازة، إذا بمجموعة من الأشخاص، يصنعون ضجيجاً ويُصدرون أصواتاً عالية داخل المسجد، ويَظهرون على حالة من الغضب المتأجج، ويؤكدون أنه لن يتم الصلاة على فلان ابن فلان –وأشاروا إلي نعش أحد الموتى–بزعم أنه كان مديوناً لهم بمبلغ من المال!!

ارتفعت الأصوات داخل المسجد، وكثُر الجَدل والمناقشات بين الحاضرين، وحاول البعض تهدئة الموقف، الذي لم يستوجب إلا العظة والعبرة من مصيبة الموت،ثمظهر مجموعة أُخرىمن المصلين،مُدَعين أنهم أهل الفقيد،الذي عليه الدَيْن،واستعطفوا المُطالبينبديْنهمأن يسامحوا ميتهم،لأنه قد صار بلا حيلة ولا مقدرة على سداد دَيْنه بنفسه،وأما هُمْأنفسهمفأكدوا أنهم لا يملكون المبلغالمطلوب لسداد دَيْن فقيدهم.

ومع توسُل أهل الفقيد لهؤلاء الغاضبين،لكي يُسامحوا فقيدهم ، صمد المطالبون بالدَيْن على موقفهم،وصمموا أن يمنعوا صلاة الجنازة على صاحب الدَيْن،ولو استخدموا القوة والعنف،حتى يحصلوا على أموالهم بأي سبيل كان.. وهنا تدخل أهل الحكمة،من الموجودين بالمسجد،واقترحوا أن يتم جمع المبلغ المديون بهالمتوفىمن جميع الحاضرين بالمسجد، لأجل فك دَيْن الميت،الذي هو مرهون به،ولكيتنتهي أزمة منع الصلاة عليه.

 وبالفعل تطوع بعض الموجودين،وقاموا بالمرور على باقي الحاضرين،لجمع المبلغ المطلوب ، حيث دفع كل واحد منهم،قدر استطاعته المادية.. فهناك من دفع عشرة جنيهات.. والآخر دفع خمسين جنيهاً، والثالث مائة جنية .. وغيرهم ربما دفع مالاً أكثر، حتى تم جمع كبير من المبلغ المُراد ، وتسليمه للمطالبين به، وحينها هدئ المحتجون، ثم تمت الصلاة على جميع الموتى بالمسجد ، بما فيهم صاحب الدينْ .

وبعدما انتهت صلاة الجنازة، تقدم أهالي المتوفين، ليحملوا نعوش موتاهم،كي يُشيعوها إلى المقابر، ما عدا نعش واحد، لم يجد مَنْ يحمله، وهذا النعش كان لصاحب الدَيْن، الذي حدثت بسببه أزمة صلاة الجنازة.

اندهش باقي الموجودين بالمسجد،لإختفاء أهل الميت، وتعجبوا من سِر تركهم لميتهم، دون أن يكرموه بحمله ودفنه، مثلما فعل أهالي الموتى الآخرين،وربما أن أصحاب ذلك الميت قد خرجوا من المسجد، في تستُرْ وخفاء، وسط زحام جموع المصلين دون أن يُشعِروا بهم أحد!! ووقتها دخل الموجودون في حالة جدل واسعة،واستمروا ينظرون لبعضهم البعض ، وهم عاجزون عن تفسير لذلك الموقف العجيب!!

وبعد جدل وحيرة،اقترب بعض الحاضرين بالمسجد من النعش المتروك،وكشفوا غطاءه لرؤية وجه الميت،لعلَ أحدهم يعرفه،فوجدوا النعش فارغاً من أي جثمان!! مما أصاب الموجودون بصدمة كبيرة،حتي أدركوا أنما حدث منذ قليل، لم يكن إلا خديعة كبرى،ومؤامرة كاذبة،نفذها أصحاب عقول مُجرمة،تلك العقول التي لم تراعِ قُدسية المسجد،ولم توقِر شأن المتعبدين تحت قُبته ، بل لم يتعظ هؤلاء المحتالون من الجثامين النائمة في نعوشها بلا حراك داخل المسجد ، وقد أخرسها الموت،ولعلها لو نطقت لنصحت بالندم من يحرصون علي جمع المال من حَرامِه، ولكنهم موتي لا ينطقون!!

ولعل هؤلاء اللصوص قد أدُوا صلاتهم بحركات زائفة ، وإصطنعوا الخشوع أمام رب الناس وجموع الناس ، حتي لا يُشعروا مَنْ حولهم أنهم مُنافين.. ولو أنهم تحلُوا بشعيرة واحدةمن شعائر التقوى أو الخوف من الجليل، لما نفذوا جريمتهم داخل بيت يُنادى فوق مآذنه "حي على الفلاح"، وكيف لهؤلاء أن يفلحوا، وما جاءوا لصلاة أو لذكر لله، وإنما أتوا ليستهينوا بكرامة الأحياء، ويسخروا من حُرمة الأموات .. ماعاذ الله !!

إن هذه الحادثة الفريدة،كفيلة لأن تُغضب مشاعر المصريين،المعروفعنهم طيبتهم وبساطتهم وتَدَيُنهم بالفطرةمنذ قديم الزمان،وإن مصرلا يعرف أهلها الغدر ولا الجُور ولا الخِسَه ، فشعْبُها شعبأصيل فضيل ، أصوله طيبة ، وأخلاقه مِنْ ذهب.. ولكنها النوايا الحسنة،كثيراً ما تزُجب أصحابها للوقوع فيشِباك أهل الخديعة والشر، وإنهم لقلَة،مالهم من مِلَه!!

[email protected]

2017-08-21