الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قضية أخلاقية ضد التطبيع مع إسرائيل بقلم: د. ستيفن سلايطة ...ترجمة: محمد عودة الله

        عندما كان والدي طالبا للبكالوريوس في الجامعة بداية الستينيات عمل في مخزن (Proctor & Gamble) وهو محل لسائقي الشاحنات، كان قد هاجر من أرياف الأردن إلى ولاية تكساس، وفي ذلك المخزن وجد مكان أوحد للدراما العرقية والإقتصاديةوالأيديولوجية في مسكنه الجديد.

        مع قليل من الويسكي وجمهور مستمعين من واحد أو إثنين من أبناءه، كان يمكن إقناعه أن يستذكر ايامه كأحد رجال هوفا (Hoffa) (وهو قائد لنقابات سائقي الشاحنات في الستينيات في أمريكا وقد إختفى).

        أحب والدي أن يسرد القصص في الصيف تماما قبل توجهي للدراسات العليا، وقد حصلت على عمل مؤقت في مخزن مصنع صغير للملفات والكراريس وبعض المستهلكات للسوق التعليمي.

        كان الطلب عالياً في الصيف في أوج موسم إفتتاح المدارس مما كان يضاعف القوة البشرية العاملة في حزيران، لم يكن الموظفون المنتظمون أعضاء في النقابة، وكل يوم جمعة كانت سيدة تظهر وتوزع الشيكات على العمال المؤقتين للصيف.

        لقد كان والدي يعتقد انني اتلقى هناك صفقة مجحفة، لماذا؟ لأنه في الجيل السابق، تلذذ والدي، كان بإمكان طالب الجامعة الأجنبي الحصول على عمل ومن خلال النقابة دون وجود وسيط يقتطع عمولة من أجر العامل، وقد حضني والدي كثيراَ على تأسيس إتحاد عمال، إلا أنني كنت متأكدا أن الوكالة المؤقتة للعمال (ليس بها أي مزايا للعامل) تتجهم في وجه مثل هذه الأنشطة.

        وفي ذلك الزمن كنت منشغلا أقل بالثورة من إنشغالي بالدخل الكافي لبقائي مستقلاً وأعيش وحدي، وأعتقد أن طفلي لن يتمكن من إستئجار مكان معتمداً على راتب من وكالة مؤقتة مهما كانت معاييره متدنية، ولذا وفي يوم من الأيام سأزعجه بقصص عن كيف أنني عشت مرة بمفردي معتمداً على الحد الأدنى من الأجور، لقد إحتاجت عائلتي من المهاجرين إلى جيلين حتى تخفق في أكثر المبادىء العزيزة من الحلم الأمريكي.

        مفجوعاً بالملل في مكان عملي، حاول والدي أن يروح عني بذكريات الأيام المثيرة الماضية في تكساس، الإضرابات كانت أفضل القصص، إستفزت الإضرابات مواجهات مباشرة بين العمال والإدارة بينما أطلقت العنان للمشاحنات التكتيكية والتوترات العرقية.

        ومع ذلك توحد الجميع في كرههم للعمال البدلاء للمضربين، "يا رجل، لقد تلقوا الكثير من الضرب"، كانت خاتمة أبي المعيارية كلما تذكر العمال البدلاء سيئي الحظ والذين أحضرتهم الإدارة: "ما زلت أتذكر وجوههم يغطيها الدم".

        لم أسئل والدي يوماً عما إذا كان موافقاً على المعاملة التي تلقاها البدلاء، ذلك أنه نوع من المعتقد يمكن إستخلاصه من رواية القصة، وهو نوع من الأمور لا يحب رجال مثل والدي الإعتراف بها حتى من منطلق شعور طري بالإستقامة، وفي كل الأحوال كان الدرس واضحاً: لا تخترق صفوف الإضراب أبداً.

        هذه النصيحة يمكن إعتبارها بسهولة أكثر القواعد شهرة في العالم، وتحتوي على طبقات من المعنى، إنها أولاً وقبل كل شيء إستراتيجية لأن البدلاء يضعفون موقف العمال المضربين ويقوون الإدارة، ولكن علينا أن لا ننسى مغزاها الأخلاقي أيضاً.

        عندما يضحي ويعاني الرفاق، فإن مضاعفة صعوباتهم من أجل مصلحتك الشخصية هو عمل دنيء، هذا الإقتراح الأخلاقي ينطبق على جميع أوجه الصراع، إذا من المفيد التذكير وبشكل دوري على الأخلاقيات الجمعية للإضراب في مقابل حساسيات النشطاء، هذه الأخلاقيات قوية بشكل خاص في التضامن الفلسطيني.

        إن الخلط بين حركة قومية وبين صراع في مكان عمل هو مبالغة ولكن هناك متسع من المقارنة المنتجة، إذ يتمحور النشاط حول سؤال مركزي: ما هي مسؤوليتنا تجاه الرفاق؟ في كلتا الحالتين فإن الجواب شبه متماثل.

        إن الصراع لتحرير فلسطين يمكن أن يكون خطراً، وأخطر بكثير من النقص الكامن في نفوس الجنود والمستوطنين، هؤلاء في فلسطين ومحيطها يواجهون ظروف كريهة، ويبحرون في خطر الإصابة أو الإعتقال أو الإغتيال.

        إن الإحتلال كلي الشمول والإنتشار، ويتحمل الأطفال الإعتداءات الإسرائيلية، وهؤلاء هم دم فلسطين الحي، هشون ولا يهدأ لهم بال، ومحبوبون لشجاعتهم المبكرة، ويقعون ضحايا لحسابات إسرائيل الديموغرافية باردة الدم.

        إن العنف في فلسطين ينزف في أماكن بعيدة من استراليا إلى كندا، حيث يتعرض نشطاء التضامن إلى التلطيخ بالعار والاضطهاد والطردوالإعتقال وإلى حصار السفر والنفي وتهديد قوتهم ورزقهم وإلى تشويه سمعتهم.

        فلسطين لا تعني المشاكل اوتوماتيكياً، إذ أن النشطاء الذين يواجهون العقوبة في أمريكا الشمالية يرفضون أن يقزموا الحركة الوطنية الفلسطينية في سبيل أن يصبحوا أكثر قبولاً لدى الجمهور الغربي.

        إنهم بإختصار يرفضون أن يتصالحوا مع قلق الصهيونية الليبرالية (مثل أن يرفضوا حق العودة، أو أن يسخروا من حركة المقاطعة، أو أن يرفعوا من شأن الرأي العام اليهودي الأمريكي كأكثر الممكن).

        إن هذه القضايا تصطدم رأساً بالتطبيع مع إسرائيل، وهي قضية قديمة تزداد أهمية حيث تتعاون قطاعات من النخب العربية مع "عدو الأمس" الصهيونية.

        إن التطبيع يشمل العلاقات الدبلوماسية والثقافية والإقتصادية مع إسرائيل، ونشطاء التضامن يعارضونه لأسباب سياسية وفلسفية، إن هجران إسرائيل هو قوتنا الوحيدة الفاعلة ضد الصهيونية، والتنازل عن هذا السلاح يرضي رغبات إسرائيل، بينما ممارسة المقاطعة يبعث الحياة في فكرة فلسطين.

        وبينما نجد سلوك الملوك والطغاة خارج سيطرتنا، لا يوجد احد مجبر أن يقبل بما يناسب الطبقة الحاكمة أو أن يرضي أدوات أهلية أو دينية تمارس التطبيع (مثل مبادرة القيادة الإسلامية سيئة الصيت).

        إن جهود التطبيع والتي سقط فيها بعض العرب والمسلمين تخلق نقاشاً لاذع أحياناً ينتج عنه دائما رواية أن العناد الفلسطيني هو عدو التقدم والحاجز الأعظم أمام الحل السلمي.

        وبمعنى ما فإن هذه التهمة صحيحة بقدر ما هو "التقدم" محمل الإصطلاحاتالإستعماريةالإستيطانية وبقدر ما "الحل السلمي" هو إستعارة عن إستمرار إسرائيل في التدمير، وهذان الناتجان ليسا مرغوبان لأي شخص جدي في موضوع تحرير فلسطين.

        بعيدا عن الحيل اللفظية، علينا أن نتفحص لماذا جرت العادة الخطابية على دفع الفلسطينيين إلى تبرير شغفهم بالحرية أو الإجابة على تهم عدم التحضر، إن التطبيع ليس إستسلام سياسي فحسب، ولكنه يؤكد صحة الصورة الذاتية المتمنطقة للصهيونية، مما يضمن أن القومية الفلسطينية ستوصم في النقاش العام بأنها مولعة بالقتال أو غير منطقية.

        إن الخيارات تؤخذ بوساطة أي الأفكار ستصل إلى السياق، ولكن من الأفضل أن نأخذ بعين الإعتبار أن تفاوت القوة والسلطة سيؤثر على الطرح، هذا الخيار يتم شحذه إلى حقيقة دامغة في صفوف المضربين، دائما قف مع زملائك أماإختيار الإدارة فيستحق الإزدراء، إن الوعي السياسي وحده لا يكفي، وتعاضد الرفاق يجب أن يكون حافزاً، ومع أن الإدارة لم تواجه أبدا مشكلة في العثور على متعاونين ويمكنها ضرب الإضراب، ولكنهم لا يمكنهم أبدا ضرب صمود المبدأ.

        هذا المبدأ نفسه ينطبق على حركة التضامن مع فلسطين، إن حركة المقاطعة بنت صفوف الإضراب معتمدة على سنوات من التعاطف في العالم العربي، وهؤلاء من يحافظون عليه يستندون إلى رؤيا من العمل الجماعي المرتكز على الخيار الفردي، صفوف المضربين لن تصمد دون نهي واضح وهو أن إختراق هذا الصف ليس خيانة لإخوان الوطن فحسب بل خيانة لكل شخص مضطهد من مواقع السلطة.

        يمكننا أن نسرد لأيام غباء التطبيع، ولكن في النهاية حسابات بسيطة تبقى ثابتة: إن من يعلن دعم تحرير فلسطين يضع على عاتقه مسؤولية البشر الذين يعانون العنف الإسرائيلي، مع كامل الفهم أنه بهذا الفعل سوف يصد المتخصصين الذين يتحكمون بالوصول إلى المكافآت المتاحة للتيار الدارج.

        إن الكتاب الطامحون والمثقفين الذين تم تلميعهم واعين عن أي مصالح يدافعون ويمثلون، ويفضلون أن يصموا هذه الأخلاق بأنها زائدة الحدة أو غير واقعية، ويصمون أي نقد للأسماء الكبرى المدافعة عن إستسلام فلسطين بأنه هجوم وأنه حدة غير منطقية، مما يستحضر الروايات الإستشراقية عن فشل العرب الدستوري في تبني الحداثة.

        هذه الكلمات والتي تعبر بمهارة عن الحرص على الذات لأولئك الذين يتخيلون أنهم حققوا البلوغ السياسي، تهدف إلى تشويه الإدراك بعيدا عن الصدق والتحليل المناسب.

        ولكن يبقى هناك طريق أخرى لوصف ممانعة الحط من الفلسطينيين لضمان مباركة مضطهديهم: معاداة الصهيونية المبدأية، وهذه لا يمكن ممارستها إلا على الجانب الصحيح من المضربين.

ملاحظة للمترجم: المقال موجه لعموم العرب والمسلمين وليس للفلسطينيين على وجه الخصوص، وأولى بنا كفلسطينيين أن نكون في أول صفوف المقاطعة لأننا على خط المواجهة، ليس لدي الكثير لأضيفه عن التطبيع سوى أنه يتم على أرضية التفوق اليهودي ويتوقع منا الإعتراف بذلك، والتطبيع يسعى إلى معالجة مشاكل إسرائيل كأولوية، ومن خلال ممارسة القوة، تصبح مشاكل إسرائيل هي مشكلة البلهاء منا، نحن نحلم كفلسطينيين ليس فقط بالحرية من أتون الصهيونية ولكن بالعدالة الإجتماعيةوالإشتراكية، ومن يتورط في التطبيع لا يمكن له أن يدافع عن هذا الحلم أمام شعبنا، يمكنه طبعا أن يدافع عن قفصه الذهبي.

2017-09-07