الأربعاء 12/10/1444 هـ الموافق 03/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مائة عام على ميلاد جمال عبد الناصر رجل اتسعت همته لآمال امته ...تميم منصور

  الحديث عن عبد الناصر بقدر ما فيه سهولة وسيولة ، بقدر ما فيه صعوبة أكثر ، فمن حيث السهولة ، أعماله وانجازاته زاخرة كالبحر ، نستطيع أن نغرف منها قدر ما نشاء ، ولكن الصعوبة بالحديث عنه ، كيف يمكن اختصار هذا البحر من الأعمال وحصرها في عبوة صغيرة وضيقة تتجسد في مقال أو بضع كلمات .

قليلة هي الشعوب التي ينعم عليها القدر ويخلدها التاريخ والزعماء أمثال " جمال عبد الناصر " إن مثل هذه الشعوب تقدس وتخلد وتمجد قادتها العظام ، لأنهم ساهموا في تغيير مجرى حياتها نحو الأفضل ، فالشعب الروسي لا يزال يخلد كبار قادة الماركسية والشيوعية لأنهم ساهموا باقامة روسيا جديدة قوية ، كذلك الشعب الصيني من حقه تقديس " ماوتسي تونغ " لأنه وضع الصين في المسار الصحيح ، كذلك الشعب الهندي وغاندي الذي ساهم بتحرير الهند من الاستعمار البريطاني ، والأمثلة كثيرة .

ان عبد الناصر لا يختلف عن هؤلاء،فقد عرف بشجاعته واتساع افقه وتواضعه ، واقترابه من نبض شعبه ، فهو قائد وزعيم ومفكر في آن واحد ، لم يكن زعيماً أو رئيساً عابراً ، له مواقف ساهمت في تقرير مسار تاريخ المنطقة ، ولا نبالغ اذا قلنا انها غيرت جوانب هامة من التاريخ العالمي في فترة ما ،مثل دوره في اقامة كتلة دول عدم الانحياز وكتلة الدول الآسيوية والافريقية ، ووقوفه الى جانب الدول التي ناضلت من اجل استقلالها ، العربية وغير العربية ، فقد وقف الى جانب الشعب الكوبي والجزائري والانغولي والفلسطيني وغيرها من الشعوب .

الفرق بين الثورة التي قادها عبد الناصر وبقية الانقلابات العسكرية التي وقعت في الاقطار العربية ودولاً كثيرة في آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية ، هو أن عبد الناصر والى جانبه الضباط الاحرار . وضعوا نهج واهداف وبرامج اصلاحية واخرى تحررية ، وبدأوا بتحقيقها بالتدريج ، كانت اولى هذه الأهداف وهذه الخطوات التخلص من رموز النظام الملكي الذي هو امتداد لإسرة محمد علي باشا ، وهو رأس الفساد والفوضى السياسية في مصر ، كانت هذه الخطوة مفترق طرق في تاريخ مصر ، حظيت بدعم شعبي واسع ، الخطوة لا تقل أهمية عن عزل رموز النظام ، تحرير مصر من وجود القوات البريطانية ، بعد أن مضى على وجودها في مصر من سنة 1882 لغاية 1956 ، كان الاحتلال البريطاني علة سياسية واجتماعية أعاق تقدم مصر وافقدها ارادتها السياسية ، سارع عبد الناصر أيضاً الى تخليص مصر من الامتيازات التي حرمت الشعب المصري من خيرات بلاده ، وسيطرت على الاقتصاد ومنعت تطوره ، لم يتأخر عبد الناصر بتوجيه ضربة حاسمة ساهمت بتحرير الفلاح المصري من استعباد الاقطاع والاقطاعيين .

عبد الناصر يختلف عن بقية الزعماء الذين سبقوه في مصر والذين جاءوا بعده ، انه يختلف عن سعد زغلول رغم عظمة الأخير ودوره التاريخي في ثورة 1919 ، لكن سعد زغلول كان يتطلع الى الفرعونية اكثر من تطلعه للعرب والعروبة ، كما انه تساهل مع الانجليز في المفاوضات التي ادت الى اتفاق سنة 1922 .

يختلف عبد الناصر عن القائد والزعيم أحمد عرابي ، الذي قاد ثورة 1882 ، فقد كانت ثورة عرابي ضرورية ومميزة ، لكنه اعتذر للانجليز وللخديوي بعد عودته من المنفى .

يختلف عبد الناصر عن الزعيم مصطفى كامل الذي دعا للاصلاح ، لكنه طالب ببقاء مصر ضمن الدولة العثمانية ونظامها الفاسد ، عبد الناصر لم يطالب الاصلاح الداخلي لخدمة الشعب المصري ، بل عمل على ايقاظ الشعور القومي والوطني داخل مصر وشعبها ، أرغم الشعب المصري على الارتباط والعودة الى انتمائه القومي العربي .

قبل ثورة يوليو المجيدة لم يعرف غالبية المصريين ماهية الخطر الصهيوني على فلسطين ، كانت هناك صحف مصرية تدافع عن الصهيونية ولا تشكك باخطارها ، ولا تعتبرها حركة استعمارية عنصرية ، وقد حصلت هذه الصحف على تمويل من الحركة الصهيونية ن ومن رموز للصهيونية في مصر ، كانت المؤامرة على عبد الناصر وفكره الثوري الوطني كبيرة ،من قبل اعدائه داخل مصر ومن خارجها ، كالرجعية العربية والصهيونية والامبريالية . كما ساهم بهذه المؤامرة الاخوان المسلمين في مصر وخارجها ، وجدت هذه القوى بالسادات والاداة القادرة على وضع حواجز واسوار بين الفكر التقدمي الناصري وبين الشعب المصري ، قاموا بتجنيد اقلام العديد من المرتزقة لتشويه صورة عبد الناصر في عيون الشعب المصري والغرب والعالم ، اتهم بالفساد ، واغرقت مصر بمقالات في الصحف الصفراء وتطاولت على عبد الناصر ، وقد طال هذا التطاول عبد الناصر في العديد من الكتب اصدرها أدباء السخرة أمثال أنيس منصور وتوفيق الحكيم وعلي أمين وحسين فوزي ، جميعهم نادوا بالتطبيع مع اسرائيل وتحولوا الى اعداء لثورة يوليو ، كان السادات الغطاء السياسي لهذا التحول والتفكير لانجازات عبد الناصر . بعد رحيل عبد الناصر اختفت انجازاته المحلية والعربية والعالمية من مناهج التعليم المصرية ، فنشأت اجيالاً غريبة عن الفكر وانجازات الثورة ، ولا تعرف عبد الناصر ، استمرت هذه السياسة زمن السادات ومن تم زمن المخلوع مبارك ، ولا تزال حتى اليوم ، غابت كلمة الاستعمار والصهيونية عن افواه الكثير من الاعلاميين المصريين ، وعن الكثير من اقلام العديد من الكتاب والادباء من اعوان السادات والمرتدين عن فكر الثورة . كل من زار تركيا لا بد الا وشاهد تقدير الشعب التركي للزعيم اتاتورك فالنصب التذكارية التي تجسد وجوده منتشرة في كل مكان ، مناهج التعليم التركية توليه كل الاهمية والتقدير ، واذا قارنا بينه وبين عبد الناصر ، وهناك تشابه كبير بينهما في الاعمال والانجازات ، رغم ان عبد الناصر كان دائماً مهدداً من قبل القوى الامبريالية ، في حين فان تركيا كانت حليفة للدول الغربية ، فلم يقف احداً في وجه مشاريعها التنموية ، الفرق بين الشعبين المصري والتركي ، الشعب المصري سريع النسيان ، لأنه محكوم لقوى ظلامية يقودها الاخوان المسلمين ، وأيضاً الذين حكموا مصر بعده عانوا وما زالوا يعانون من عقدة التبعية والارتماء في الأحضان الامريكية التي هي ذاتها حاولت اغتيال عبد الناصر وعملت المستحيل كي يركع أمامها ، فوجدت في الزعماء الذين أتو بعد عبد الناصر الفرص السانحة للانتقام من مصر ومن تاريخ عبد الناصر .

2018-01-14