الجمعة 21/10/1444 هـ الموافق 12/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
كوردستان والعراق إلى أين؟ ...كفاح محمود كريم

          الخوض في بواطن التاريخ بقدر ما يطلعنا على بعض الحقائق لكنه أيضا صورة قاتمة لما حصل على الأقل خلال قرن من الزمان، ومن هنا أريد أن استعرض وبسرعة لكي لا أثقل على القارئ بصفحات مؤذية من تاريخ هذه المنطقة، التي ما زالت تغلي وتندفع حممها من براكين وضعت أسسها عبر التاريخ، لتحرق الأخضر واليابس لأقوام سكنت هذه المنطقة الموبوءة بالعقائد والإيديولوجيات والقبلية والعنصرية والطائفية المقيتة، حمم تحولت إلى حروب ومآسي وكوارث كما وصفها احد الدبلوماسيين الأمريكيين أبان توقيع اتفاقية لوزان وراح ضحيتها ملايين البشر من مختلف الأقوام والأعراق والأديان والمذاهب، ولعل ما حصل للأرمن والكورد نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين بداية لتلك الكوارث والمآسي، وما يؤكد إصرار العنصريين بكل أشكالهم القومية والدينية والمذهبية على الشمولية المقيتة هو تلك الحمم التي تندفع بضراوة وما تزال حرائقها مستعرة، وها هي داعش وردود أفعالها الطائفية تمثل آخر مبتكرات المآسي في العراق وسوريا.

 

     وفي العراق وكوردستان العراق ومنذ أكثر من مائة عام عمل الكوردستانيون على إنشاء دولة مدنية متحضرة ديمقراطية مع شركائهم العرب وغيرهم من شعوب هذه المنطقة من العالم، دولة تعتمد أسس المواطنة في بنائها الاجتماعي والسياسي، وكانت الخطوة الأولى بعد اتفاقية سايكس بيكو سيئة الصيت، أن منحوا ولاية الموصل العثمانية هويتها العراقية في استفتاء عصبة الأمم بالربع الأول من القرن الماضي، أملا في أن يحقق الشركاء الآخرين في المملكة العراقية ( ولاية بغداد وولاية البصرة ) وعودهم في تنفيذ مطالب شعب كوردستان في شكل الدولة وأساسياتها وحيثياتها بما يضمن حقوقهم الإنسانية والثقافية والسياسية، وطيلة ما يقرب من ثمانين عاما لم يتلق الكورد من وعود الحكومات المتعاقبة في بغداد وعلى مختلف مشاربها وتوجهاتها، إلا الحروب المدمرة التي استخدمت فيها أبشع أنواع الأسلحة، بما في ذلك المحرمة دوليا كالأسلحة الكيماوية والعنقودية والنابالم، ناهيك عن عمليات الأرض المحروقة، التي أتت على أكثر من ثلث كوردستان في عمليات الأنفال سيئة الصيت ( ثمانينيات القرن العشرين )، والتي ذهب ضحيتها ما يقرب من ربع مليون إنسان، وتدمير خمسة آلاف قرية بما فيها من بساتين وينابيع ومنشآت، إضافة إلى قتل أكثر من ثمانية آلاف بارزاني وتغييب مئات الآلاف من الكورد الفيليين في وسط العراق، وإسقاط جنسياتهم العراقية وتهجير عوائلهم إلى إيران ( سبعينيات القرن العشرين )، وأتباع سياسة الصهر القومي والتغيير الديموغرافي لسكان المدن الكوردستانية المتاخمة لحدود العراق العربي مثل كركوك وسنجار وزمار ومندلي وسهل نينوى ومخمور والشيخان وعقرة وغيرها طيلة نصف قرن ( 1958- 2014 )، وأخيرا تسهيل احتلال أجزاء من كوردستان العراق من قبل منظمة داعش الإرهابية واقتراف واحدة من أبشع جرائم التاريخ بحق الايزيديين والمسيحيين في كل من سنجار وسهل نينوى ( حزيران وآب 2014 ).

 

     ورغم تلك الكوارث والمآسي بقي الكورد يعملون ويناضلون من اجل تأسيس دولة مواطنة متحضرة ديمقراطية، تحفظ العراق موحدا بشراكة حقيقية وتوجه مخلص لمعالجة جروح الماضي وتعويض السكان عما أصابهم من ويلات، وبهذه الروح ذهبوا إلى بغداد في آذار 1970 حينما تصوروا إن القائمين الجدد على الحكم ينوون التعامل مع القضية الكوردية بجدية، وفعلوها قبل ذلك في الستينيات مع عبد الرحمن البزاز، لكن الحقيقة كانت غير ذلك لدى الطرف الثاني، حيث سياسة فرق تسد التي اتبعتها كل الأنظمة مع شعب كوردستان وقياداته، وفرض مشاريع هزيلة كما فعلوا في تجربتهم البائسة فيما سمي بعد 1975 بقانون الحكم الذاتي الحكومي، الذي انهار وبدأت سلسلة جديدة من الكوارث والمآسي والحروب التي راح ضحيتها خيرة أبناء كوردستان وبناتها، وخيرة شباب العراق ممن تورطوا في تلك الحروب القذرة مجبورين غير مخيرين، دونما أن تنتج تلك الصراعات إلا الدمار والتقهقر والتخلف للبلاد، حتى اسقط التحالف الدولي مطلع الألفية الثالثة نظام صدام حسين وحزبه الذي تسبب في معظم مآسي العراق وسوريا.

   

     لقد تخلى الكوردستانيون عن استقلالهم الذاتي الذي فرضته انتفاضة الربيع 1991 وأقرته قرارات مجلس الأمن الدولي ( قرار 688 )، وتسارعوا إلى بغداد حفاظا على وحدة العراق وبناء دولة المواطنة والشراكة الحقيقية تحت خيمة ديمقراطية حقيقية ونظام مدني متحضر، والمساهمة في تأسيس دستور دائم يحفظ للبلاد وشعوبها كل الحقوق والامتيازات ويحترم خياراتها وتطلعاتها في دولة اتحادية اختيارية ( من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية، ولا عقدة مناطقية، ولا تمييز، ولا إقصاء ) و ( إن الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعبا وأرضا وسيادة.*

 

     وبعد أكثر من عشر سنوات ( بعد تشريع الدستور الدائم ) من وضع هذه الوثيقة الجامعة وشروطها في الالتزام، ماذا حصل وماذا جنينا غير تحول النظام تدريجيا إلى نظام ديني طائفي بحت، بعد أن اتفقنا على أن يكون بلدا ديمقراطيا مدنيا، فاذ به يتحول إلى بلد للميليشيات التي منحت نفسها تفويضا ربانيا بمصير البلاد والعباد، فأصبح العراق من أفسد وأفشل دول العالم، حيث استخدمت القوات المسلحة في حل النزاعات بين الأقاليم والمحافظات وبين الحكومة الاتحادية، كما حصل مؤخرا في اجتياح المناطق المتنازع عليها والخاضعة للمادة 140، في خرق خطير للدستور الذي يحرم ذلك إطلاقا، ذلك الاجتياح الذي استقدمت من اجله قوات أجنبية وتسبب في إحداث شرخ كبير بين العرب والكورد والتركمان وفي تهجير أكثر من 180 ألف مواطن من تلك المناطق، ناهيك عن عمليات النهب والسلب والحرق التي تعرض لها المواطنين في كركوك وطوزخورماتو على خلفية عرقية أو مذهبية على أيدي القوات المسلحة والميليشيات.

 

     وقائمة الخروقات طويلة ومليئة، وأخطرها محاصرة الإقليم اقتصاديا بحرمانه من حصته في الموازنة العامة لأربعة سنوات ( 2014 – 2017 ) والبالغة أكثر من خمسين مليار دولار، مع قطع كافة رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، والعمل على تحجيم وإلغاء الفيدرالية من الدستور وذلك بغلق كافة مكاتب تمثيل إقليم كوردستان في السفارات العراقية وتعطيل وإيقاف تطبيق معظم المواد المتعلقة بتأسيس الأقاليم، بل ومحاربتهم كما حصل مع مطالب شعب البصرة والانبار وصلاح الدين ونينوى، وكذلك تعطيل قانون النفط والغاز وتطبيقاته والمادة 140 وعدم إجراء تعداد عام للسكان، والقائمة تكبر لتمتد على كل مساحة العراق ومكوناته، حتى أصبح اليوم واحدا من افشل دول العالم وأكثرها بؤسا ورعبا وفسادا، ناهيك عن إن سيادته في الأصل مثلومة باختراقات دول الجوار وما بعد الجوار تحت مختلف التسميات والعناوين، حتى غدت عاصمته تحكم من قبل عصابات ومافيات مسلحة تستمد شرعيتها من الرب والدين والمذهب وفي كل حي وشارع، حيث الميليشيات وحكم قراقوش والصراع الطائفي المقيت، لهذه الأسباب ولأن شعب كوردستان يختلف كليا عن شعب العراق عرقيا وقوميا وثقافيا وتاريخيا وحضاريا وجغرافيا، فإنه بعد أن فشل خلال قرن من الزمان في بناء دولة مواطنة، وأن يكون شريكا حقيقيا في كيان مختلق غصبا عن الشعبين، قال كلمته بشكل سلمي متحضر، وطلب أن يكون الشعبين شجرتين مثمرتين باسقتين، لا شجرة واحدة معلولة بثمار مشوهة، لكي يسود السلام بعيدا عن الصراعات الدموية والسياسات العنصرية والطائفية، وحينما قرر الاستفتاء على مصيره انبرت العنصرية والشوفينية والمصالح لقمع توجهاته، فضرب الحصار عليه أرضا وجوا لإذلاله وكسر إرادة شعبه وإبقائه تابعا منتقص الارداة والحرية!

 

     ترى بعد كل ذلك كوردستان والعراق إلى أين!؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نص من ديباجة الدستور الدائم

 

[email protected]

أوائل كانون ثاني 2018م

 

2018-01-22