الجمعة 14/10/1444 هـ الموافق 05/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
التعليم في فلسطين زمن الانتداب (1) ....تميم منصور

  يذكر المؤرخ " جورج كيرك " مؤلف كتابي " الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية " و كتاب " الشرق الأوسط بين عامي 1945- 1950 " ، بأن مستوى التعليم وتدني نسبة الأمية في فلسطين في عهد الاحتلال البريطاني الذي امتد ما بين عامي 1918 – 1948 ، كان افضل بكثير من غيره ، قياساً لما كان عليه الأمر في العديد من المستعمرات البريطانية ، ويذكر من هذه المستعمرات ، العراق ، شرق الأردن ، الهند ، وجميع المستعمرات البريطانية في القارة الافريقية .

ومن الناحية الموضوعية ، من الصعب الأخذ بذلك ، قبل اجراء دراسة ومعرفة الجوهر ، وحالة مستوى التعليم في الأقطار المذكورة ، يوجد بين يدي شاهد واحد على الأقل أقواله تتطابق مع ما يذكره المؤرخ كيرك ، هذا الشاهد أحد ضباط الجيش العراقي الذي ارسل الى فلسطين عام 1948 ، لمنع تطبيق قرار التقسيم ، هذا الضابط يدعى العقيد " رفعت الحاج سري " وكان احد الضباط البارزين في منطقة المثلث الواقعة بين طولكرم ومنطقة رأس العين وكفر قاسم .

في المشهد الذي يتحدث عنه في كتابه " رفعت الحاج سري ونشاطه العسكري والسياسي " يقول بأن جميع الرتب والضباط في الجيش العراقي الذين تواجد على أرض فلسطين ، ذهلوا من نسبة حالات الأمية المتدنية بين الرجال في فلسطين نسبة الى العراق ، وقد اكتشف ذلك من خلال احتكاكه بالشبان الفلسطينيين الذين تطوعوا في صفوف القوات العراقية ، كي يشاركوا في القتال ، وقدر عددهم في منطقة طولكرم بالمئات ، أضاف انه في اليوم الأول للتدريب كان الأمر يتطلب فرز العناصر التي تتقن القراءة والكتابة داخل صفوف المتطوعين .

لقد تم ذلك في طابور الصباح في معسكر " نور شمس " بالقرب من طولكرم ، فقد اصطف حوالي 400 عنصر ، نصفهم من الفلسطينيين ، والنصف الآخر جنود عراقيون، وأثناء الاصطفاف ، طلب القائد من جميع عناصر الطابور الذين يحسنون القراءة والكتابة الخروج من الطابور والوقوف جانباً . يقول رفعت الحاج سري ، جميعنا دهشنا عندما لم نجد عنصراً فلسطينياً واحداً لا يحسن القراءة والكتابة ، ودهشنا أكثر عندما وجدنا أن غالبية المجندون العراقيون أميون ، حرموا من التعليم ، ولكي تتأكد من صدق الفلسطينيين تم فحصهم عن طريق القراءة في إحدى الصحف التي وفرناها ، ويعترف رفعت الحاج سري في كتابه انهم كلفوا العديد من المجندين الفلسطينيين بتعليم زملائهم العراقيين القراءة والكتابة ، داخل خيام خاصة أعدت لهم .

ان تدني نسبة الأمية بين الرجال في فلسطين قياساً للمستعمرات الأخرى ليس بفضل بريطانيا المحتلة ، بل يعود الفضل في ذلك الى طبيعة الشعب الفلسطيني ، الذي يقدس التعليم والعلم ، لأن هدف بريطانيا كان دائماً عدم تطوير الشعب الفلسطيني وبقائه فقيراً جاهلاً كي يسلم بالغزو الصهيوني عن طريق الهجرة للبلاد . كان الفلسطينيون زمن الانتداب ولا زالوا يرون بالتعليم واجباً وطنياً وتحدياً من التحديات للحفاظ على هويتهم وانتمائهم ، ولمواجهة الاحتلال البريطاني بصورة خاصة ، وللتصدي للغزو الصهيوني ، لذلك كانت هناك منافسة شديدة بين العرب واليهود في فلسطين في مواكبة العلم والتعليم ،مع العلم ان الامكانيات المادية والبشرية التي كانت لدى اليهود متوفرة اضعاف ما كانت عليه عند العرب ، فهناك عشرات الآلاف من الاكاديميين اليهود الذين تسللوا الى فلسطين خلال ما عرف بالهجرات المتلاحقة ، هذا اضافة الى اقامة الجامعة العبرية تحت غطاء الاحتلال البريطاني منذ عام 1920 م .

يذكر الكاتب " عدنان أبو غزالة " في كتابه " الثقافة القومية في فلسطين في عهد الانتداب ، أنه يتوفر ثلاثة اتجاهات أو مؤسسات تعليمية أتاحت للفلسطينيين التعليم فيها . أولى هذه الوسائل ، المدارس التي أنشأتها حكومة الانتداب البريطاني ، الوسيلة الثانية المدارس الأهلية ، وكانت تُسمى عادة المدارس الوطنية ، تمييزاً عن المدارس الاجنبية ، والوسيلة الثانية ، التجمعات التطوعية ، مثل النوادي والجمعيات والمنظمات الثقافية ، كان الأساس الذي بنيت عليه هذه المعاهد التعليمية لا يستجيب لرغبات وطموح الفلسطينيين ، فحتى سنة 1908 م كانت الحكومة العثمانية قد أهملت الخدمات التعليمية في فلسطين ، خاصة في سنجق القدس الذي كان شبه مستقلاً ، فقد ترك معظم النشاط في هذا الميدان للاجتهادات الشخصية ، وكانت وسائل التعليم في القرى حتى هذه الفترة غير متوفرة ونادرة في المدن . بعد ثورة حركة تركيا الفتاة عام 1908 ، فرضت السلطات التركية ضريبة خاصة على المواطنين داخل الأقطار العربية ، بهدف فتح المدارس من ريع الضرائب ، وكانت الغاية من ذلك كسب ود المواطنين العرب ، ورغم سياسة التتريك التي حاول الحكام الجدد اتباعها ، ضمن ما عرف بمشروع الطورانية داخل الولايات العربية ، الا أن أهالي فلسطين خاصة أصروا على استعمال اللغة العربية ، كلغة أساسية الى جانب اللغة التركية .

لم تشدد السلطات العثمانية في هذه الفترة بمنع استعمال اللغة العربية في فلسطين لأنها اعتقدت ان هذا يخدم مصالحها ، وأوهمت الفلسطينيين بأنها تنوي أن تسمح لهم بتطوير ثقافتهم الخاصة ، مع أن المحللين يذكرون بأن هدف العثمانيين من هذه الخطوة ، ضرب ومنع تأثير الجمعيات الوطنية السرية ، التي كثفت نشاطها داخل الولايات العربية ، خاصة جمعية العهد والقحطانية والعربية الفتاة .

لكن سحر العثمانيين انقلب عليهم ، فقد استفادت هذه المنظمات من المدارس التي اقيمت بأموال الضرائب التي فرضت على المواطنين ، حيث استغلت لتقوية الوعي القومي العربي ، وعندما شعرت السلطات العثمانية بذلك تراجعت عن تنفيذ خطتها ، بعد أن أدركت خطأها ، وطبقاً للإحصائيات التي قام بها أحمد سامح الخالدي ، مدير الكلية العربية في القدس عام 1911 ، فإن عدد الطلاب الذين كانوا في سن التعليم في فلسطين حوالي 38000 ولداً و35000 بنتاً ، التحق من بينهم 6000 ولداً في المدارس ، كما التحق في مدارس خصصت للبنات 2500 بنتاً ، أي ان النسبة الكلية لعدد هؤلاء تقارب 21% من عدد من كانوا في سن التعليم . في عهد الانتداب حصل تطور بطىء في حقل التعليم داخل المدن والقرى العربية ، لكن معاملة سلطات الانتداب لليهود اختلفت عن معاملتها للعرب سكان البلاد الأصليين ، فقد سمح لليهود الموجودين في فلسطين بإدارة مدارسهم على اسس عرقية ، فأقاموا المدارس الخاصة لهم ، وكان لهم جهازاً خاصاً للتعليم ، عمل كل ما باستطاعته لتطوير وإحياء اللغة العبرية ، كما تم تأسيس أول جامعة لليهود في فلسطين في مدينة القدس ، وأيضاً تم تطوير معهد التخنيون الذي أقامه مجموعة من اليهود الألمان في مدينة حيفا .

يتبع

2018-02-26