الثلاثاء 7/10/1445 هـ الموافق 16/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مكتبة أبو رضوان....مجد مالك خضر

 

 أبو رضوان هكذا عُرِفَ في الحي الّذي يسكنه منذ أكثر من عشر سنوات، لا أحد يعرف عنه الكثير من المعلومات، عاش في مكتبته، لا يمتلك شقة أو منزلًا يأويه، بل اختار أن يعيش في المكتبة التي استأجرها بالمال المتبقي معه، يفتح أبوابها في السادسة صباحًا ويغلقها في الثامنة مساءً كل يوم حتّى بأيام العطل، لم يأتِ أحد لزيارته من أقاربه منذ أن سكن في الحي، فأصبحت قصة أنه مقطوع من شجرة هي الأكثر انتشارًا بين النّاس، وكان يقول دائمًا بأن الطلاب الذين يزورون مكتبته هم أبناؤه.

 
كان كريم (عبد الكريم) الوحيد الذي يساعد أبو رضوان في المكتبة بعد عودته من المدرسة، ويظلّ معه حتّى السادسة مساءً ينظّف ويرتب، وينسخ الأوراق، ويساعد الطلاب في إعداد أبحاثهم على جهاز الحاسوب الذي لا يتقنُ أبو رضوان استخدامه، كما يشتري لأبي رضوان الطعام وأي أشياء أخرى يطلبها منه.
- بإمكانك العودة إلى المنزل خلال الأسبوع القادم باكرًا، لتدرس على امتحاناتك جيّدًا (قال أبو رضوان لكريم).
- لا مشكلة، معي وقت طويل بإمكاني دراسة امتحاناتي.
- بل أرى أن الاجتهاد والجدّ بحاجةٍ إلى الكثير من الوقت.
- أشكرك يا أبا رضوان أنت مثل والدي الذي توفي منذ سنوات، لو كان عندك ابن من المؤكد أنك ستهتم به مثلما تهتم بي.
- (زارت الدموع عيون أبي رضوان) بل كان عندي ابن بمثل عمرك تمامًا، ولكنه مات منذ عشر سنوات.
- آسف لأني جعلتك تتذكره، ولكنك لم تقل عنه أي شيء بالماضي.
- لأنه مات وأصبح ذكرى كم أتمنى أن أراه مرّة أخرى (أجاب أبو رضوان).
 
انتهى اليوم ثقيلًا على أبي رضوان، بعد أن تذكّرَ ابنه رضا الذي لم يمت، ولكن كذب على كريم، وندم لإخباره بحقيقة وجود ابن له.
 
***
منزل أبو رضا (أبو رضوان لاحقًا) في قريته قبل عشر سنوات، كان المطر ينهمر بغزارة، وصوت الرعد لا يتوقف عن الدوي، والصراخ يتصاعد من مخزن أبو رضوان الموجود بجانب منزله؛ بسبب جداله مع أخيه معتز بحضور زوجته وابنه رضا الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عامًا في ذلك الوقت.
 
- أخبرتك ونبهتك كثيرًا أن تتوقف عن السرقة من محصول القمح لتبيعه إلى التّجار (قال أبو رضوان لمعتز).
- لم أسرق شيئًا بل الكمية التي آخذها من المحصول هي جزء من تعبي في الحصاد.
- بل هي سرقة؛ لأنك لم تطلبها بل تأخذها دون استئذان، وتعبك ستحصل عليه عند تقسيم المحصول على الجميع بالتساوي.
- لو كان حقي يصلني بالعدل لانتظرتُ تقسيم المحصول، ولكنك تأخذ الحصة الأكبر بحجّة أنك متزوج وأب لأسرة، ولم تفكّر لحظة واحدة في منحي كامل حقي، إلا بعد أن تأخذ حقك قبلي.
- توقف عن هذا الكلام الفارغ، واترك الجدال لوقت لاحق.
- بل يجب أن تحترمني وتقدّر وجودي.
- معتز للمرّة الثّانية أقول لكَ أصمت وارحل من هنا، سنتحدث غدًا.
- لن أرحل، بل حديثنا سينتهي اليوم أمام زوجتك وابنك، وعليهم معرفة أنك تقلل من شأني دائمًا.
- دعهما وشأنهما وإلا ستنال ما لا يرضيك.
- هات ما عندك هيا (قالها معتز بسخرية واستهزاء).
- معتز أغرب عن وجهي.
 
كان ذلك كافيًا ليجمع معتز قبضة يده ويوجّه لكمة لوجه أبو رضوان، الذي دفع معتز بكلّ قوّته ليتفادى اللكمة الثّانية، ولكن سقط رأسه مباشرة على المعول فمات مباشرةً، وفقد أبو رضوان القدرة على الكلام، أمام دهشة زوجته وابنه رضا، ثم سقط باكيًا على الأرض، وهو يقول "أعذرني يا معتز لم أقصد ذلك".
 
- سوف ندفن معتز غدًا، وبعدها سأسلم نفسي لقسم الشرطة (قال أبو رضوان).
- لن تسلّم نفسك لأحد، موت معتز لم يكن إلا قضاء وقدر (قالت أم رضا بحزن وعصبية والدموع تنهمر من عينيها).
- بل أنا من قتله، ويجب أن أعاقب، لولا الجدال الذي دار بيننا لما كنا وصلنا إلى هذه النتيجة.
- خُذ المال الموجود في الخزانة سوف يكفي للعيش في مكانٍ بعيد، وسأخبر النّاس أن معتز وقع على المعول؛ بسبب بلل حذائه بماء المطر، أمّا عنك سأخبرهم أنك سافرت منذ مساء الأمس.
- هل جُننتِ تريدين أن تلصقي بي التهمة.
- لا أحد يعلم بخلافاتك مع معتز؛ لذلك لن يشكّ أي شخص بك.
- كلامكِ هذا كلام مجانين ولا حكمة أو منطق فيه.
- إن لم تنفّذ كلامي الآن سوف أقتل نفسي، وستتهم بجريمتي قتل. (كانت أم رضا قد وضعت مقص الشجر على عنقها).
 
حاول أبو رضوان منعها، ولكن قرّبت المقص من عنقها أكثر، فأمرت رضا أن يجلب المال لوالده، ثم طلبت من أبي رضوان أن يغادر المنزل فورًا... تقطعت السبل أمام أبو رضوان الذي لم يجد مكانًا ليسكن فيه، وتوقع أن الأمور ستهدأ بعد بضعة أيام، فنام تحت شجرة في بستان، وعندما أدركه الصباح قرر أن يذهب إلى المدينة ليعيش في فندق خلال الفترة التي سيغيب فيها... بعد مرور أسبوعين على وجوده في الفندق أراد أن يعودَ لمنزله، وفي طريق عودته قابل أحد رجال القرية الذي نظر له بغضب.
- ما عهدناك قاتلًا يا أبا رضا (قال الرجل).
- ولكني لم أقتل أحدًا، كيف تتهمني بتهمة كاذبة؟!
- بل إن قصة قتلك لأخيك معتز انتشرت بين النَّاس، والجميع يسعى لتسليمك إلى قسم الشرطة.
- توقف عن هذا الهُراء، فأنا لم أقتل أخي معتز، وابتعد عن طريقي.
 
هجم الرجل على أبي رضوان، وحاول تقييد حركته، ولكن استطاع أن يفلتَ من قبضته، ودفعه على الطريق، وركض عائدًا من حيث آتى، وصعد لحافلة متجهة نحو المدينة... سكن أبو رضوان الفندق مرّة أخرى، وظلَّ فيه شهرًا كاملًا، وبعد اكتشافه أن المال الذي بحوزته قد بدأ ينفد غادر الفندق، واستقرت فيه الحال بمكتبة استأجرها، وتحوّلت إلى منزله وعمله الجديد، وأصبح يُعرف (بأبي رضوان)، وتوقع أن يعيش على هذه الحالة مدة عام أو عامين، ولكن مرّت الأيام مسرعة وظلّ عشر سنوات لا يعرف شيئًا عن زوجته وابنه وقريته.
 
*** 
استيقظ أبو رضوان فزعًا على الكابوس الذي لا يفرقه في أغلب الأيام، ويرى فيه "أن معتز يحاول خنقه، وزوجته قتلت نفسها بالمقص، ورضا يبكي بصوت مسموع، والنّار تشتعل من حوله لا يملك القدرة على إطفائها".
 
***
في صباح اليوم التالي، وضع أبو رضوان كرسيه على باب المكتبة، ليجلس عليه ويحتسي الشاي، لمح رجلًا يقتربُ منه ويبتسم.
- صباح الخير، هل يمكنني الجلوس؟ (قال الرجل).
- تفضل أهلًا ومرحبًا بكَ.
- لن أطيل الكلام كثيرًا، اسمي جواد رجل أعمال وأعرف عنك الكثير من المعلومات يا أبا رضوان، وأريد أن أعقد معك صفقة مربحة.
- ما هي؟ (سأل أبو رضوان).
- أريد شراء المكتبة من مالكها، وسوف أعوّضك عن أي خسارة قد تلحق بكَ، فمثلما تعلم جيّدًا موقعها مناسب جدًا، وأريد توسيعها لتصبح مكتبة شاملة.
- ولكن هي منزلي ومكان عملي، أين سأذهب وماذا سأعمل؟
- قلتُ لكَ سأعوّضك عن أي خسارة، لتبدأ عملًا جديدًا بمكان آخر.
- كلامك ليس إلا هراء، كيف تطلب مني ترك عملي ومنزلي؟!
- أرجو ألا تحوّل نقاشنا إلى جدال حاد، لن تخسر إذا تركت الحي، وبحثت عن عملٍ جديد في مكان جديد.
- كيف تريد أن أرحلَ عن الحي والنَّاس والمكتبة؟!
- فكّر بكلامي جيّدًا سأعود بعد يومين للحصول على ردك.
 
غادر الرجل مثلما آتى هادئًا ومبتسمًا، وكان الغضب قد غزى وجه أبي رضوان، وعندما آتى كريم أخبره بالقصة، فكان رأيه طرد الرّجل من الحي إذا عاد مرّة أخرى.
 
***
بعد يومين عاد جواد، ولكن لم يكن وحيدًا بل رافقه رجال مسلحون، فتراجع أهل الحي عن التدخل، والتف الجميع حول باب المكتبة بانتظار خروج أبو رضوان لهم.
- هل فكرت بالعرض الذي قدمته لكَ؟ (قال جواد لأبي رضوان).
- لا لم أفكر، ولا تعتقد أني سأفكر.
- لقد أدركتُ أنك عنيد منذ المرّة الماضية، ولكن خذ هذا الشيك قد يجعلك تفكّر جيّدًا.
 
أخذ أبو رضوان الشيك، ولاحظ أن المبلغ المكتوب فيه ضخم جدًا ولكن مزّقه، وقال لجواد أغرب عن وجهي؛ ممّا دفع أحد الرجال المسلحين للهجوم على أبي رضوان، ومنعه جواد من فعل أي شيء، وقال لأبي رضوان سوف نتواجه قريبًا، وغادر مع رجاله.
 
***
- هذا الرجل عنيد جدًا، وسوف يعيق حصولنا على الذهب المدفون تحت المكتبة (قال جلال أحد الرّجال المرافقين لجواد).
- إذًا لم يبقَ أمامنا إلا تخويفه أو قتله (قال جواد).
- دع هذا الأمر لي خلال يومين سينتهي كلّ شيء (أجاب جلال).
 
***
- إني أشعر بالخطر يحيط بي يا كريم (قال أبو رضوان لكريم).
- لا تخف يا عمي أبو رضوان، هذا الرّجل لن يستطيع أن يفعلَ شيئًا، كما أن أبا صالح صاحب المكتبة لن يوافق على بيعها له (أجاب كريم).
- للأسف يا كريم بل أبو صالح سوف يبيعها إذا رأى المبلغ الضخم الذي قدّمه جواد لي.
- هل يعقلُ أن يبيعها أبو صالح؟! (تساءل كريم).
- المال يغيّر النفوس يا بني.
 
***
- لكَ عندي مهمّة يا عنكبوت (قال جلال لأحد رجاله).
- أنا مستعد لها.
- توجد مكتبة نريد أن نحصل عليها بأي ثمن، ولكن يستأجرها رجل عنيد جدًا، ورأسه قاسٍ وبحاجة إلى تكسير.
- اعتبر رأسه كُسّر، ولم تبقَ فيه عظمة سليمة.
- لا نريد قتله، بل أضربه وخوفه، بالمناسبة الرّجل ينام في المكتبة، فهي منزله أيضًا.
 
***
أغلق أبو رضوان المكتبة باكرًا، وكان ما زال يفكّر جديًا بالخطر الذي سيلحق فيه، ثمّ اتّخذ قرارًا بأن يرحل غدًا عائدًا إلى قريته، ودون اهتمام لأي شيء سيحدث له؛ حتّى لو اقتاده النّاس إلى قسم الشرطة، وحُكم عليه بالإعدام، لقد أصبح من الضروري أن يعود لعائلته وبيته.
 
أثناء الليل تسلل العنكبوت إلى المكتبة، وكان كلّ شيء فيها هادئًا، تلفت حوله ولم يجد أحدًا، ولاحظ وجود درج يتجه نحو العلية، فصعد بهدوء وكان أبو رضوان نائمًا، لم يرَ العنكبوت ملامح وجهه؛ بسبب الضوء الخافت، ولكنه اتّخذ قرارًا بقتله، والمغادرة بهدوء.
 
أخرج العنكبوت حبلًا من جيبه، وتوجّه بهدوء إلى أبي رضوان النائم، وما هي إلا لحظات قليلة، والتف الحبل حول رقبته، حاول أن يتخلص منه، ولكن كان العنكبوت يشده بإحكام، والتفت أبو رضوان ليرى وجه قاتله، وزارت الصدمة وجهه، الحلم يتحوّل إلى حقيقة. 
- رضا بني توقف، أنا أبوك (قال أبو رضوان).
أرخى العنكبوت شدّ الحبل على رقبة أبو رضوان، كانت هذه المرّة الأولى التي يسمع فيها اسمه منذ سنوات طويلة، فبعد أن أصبح هذا الاسم من الماضي، عاد وسمعه بصوت والده الذي اختفى من حياته.
- لا يمكن أن تكون أبي (قال العنكبوت).
- أنا أبوك يا رضا.
- لو كُنتَ أبي لما تركتني كلّ هذه الفترة؟ لماذا لم تسلم نفسك؟ عشت خائفًا وهاربًا.
- أرجوك يا بني افهم أنا لم أهرب أو أخاف، ولكن الظروف كانت أقوى مني.
 
شد العنكبوت الحبل مجددًا حول رقبة أبو رضوان، وحاول أن يقاومه ولكن دون جدوى، وتوقف العنكبوت فجأةً ودفع أبو رضوان نحو الأرض، وتراجع بهدوء، كانت أنفاس أبو رضوان بطيئة جدًا، وأثناء تقهقر العنكبوت اصطدم بضوء الكاز، وتدحرج الضوء على الدرج وصولًا إلى المكتبة، وخلال ثوانٍ قليلة اندلعت النيران، هرب العنكبوت قبل أن تحاصره النّار من جميع الجهات، ولكنه عاد ليخرج أبو رضوان فحمله بين ذراعيه وتأكّد من نبضه الذي كان ضعيفًا جدًا، واستطاع في وقتٍ قصير أن يخرجه من المكتبة. جثا العنكبوت على ركبتيه أمام والده الممدد على الأرض، وقال أبو رضوان "سامحني يا بني"، وفارق الحياة، بكى العنكبوت وصرخ أبيييييي.
 
 
مجد مالك خضر
2018-05-02