الأحد 16/10/1444 هـ الموافق 07/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الصوت والصدى في ديوان 'مطر بن الوردية' حمدي مخلف الحديثي.....رائد الحواري

 

 الشعر احدى الوسائل التي تخرجنا من قتامة الواقع، فيه ومن خلاله وبه يمكننا أن نتحرر مما يحاصرنا، مما يثقل كاهلنا، فنكون أكثر سوية وأقرب إلى الحالة الطبيعية، الشاعر "حمدي الحديثي"  لا يقدم الواقع كما هو، بل يضفي عليه لمسة جمالية أدبية،  فيجعله ينساب إلى النفس والعقل، مستمتعين بما نقرأه أو نسمعه ـ رغم حالة الألم والقسوة ـ  كل هذا يجعل  الشعراء هم القادرون على امتاعنا وفي ذات الوقت تقديم  صورة عما تعيشه.

واقع العراق بعد الاحتلال الاميركي أصبح في غاية الصعوبة،  فأصبح  القتل بالمجان منتشرا، حتى أننا بتنا نسمع عن مقتل واصابة العشرات في اليوم الواحد، فقد تفشت ظاهرة الموت،  وأهلنا في العراق يشاهدونه  يوميا، في كل مكان وفي أي وقت، يصور لنا الشاعر هذا الموت:

"صوت 2

الأهل يموتون بلا أكفان

تسلب في الليل الأكفان

صدى 2

دفنوا المغدورين بأكفان دموع الأمهات

 لا أحد يشتري القماش الأبيض

لا كافور

الكل .. في الليل بلا أكفان" ص18،

نص مطلق الاسواد تنسجم فيه الفكرة مع الألفاظ، لتأكيد فكرة الموت، فإذا ما استثنينا لفظ "أبيض" الذي سبقه  حرف النفي، نجد بقية الألفاظ  والمضمون تعطي صورة سوداء لما يمر به العراقي، وإذا ما قارنا الصوت الذي جاء بكلمات أقل وبمقطعين فقط، بالصدى الذي جاء بكلمات أكثر وبأربعة مقاطع، يتأكد لنا أن الموت/الأكفان/الليل تتوالد وتتكاثر ولا تتوقف عند حد "الموت" بل أن هذا الموت هو سبب في موت آخر جديد، لموت ثاني وثالث.

 يمكننا أن نضع الصوت والصدى بهذا الترتيب:

 الصوت: " الأهل يموتون بلا أكفان"

 الصدى: " دفنوا المغدورين بأكفان دموع الأمهات

 لا أحد يشتري القماش الأبيض

لا كافور"

فرغم أن الصوت محدود إلا أن رد الصدى كان متواليا ومتتابعا، بحيث جاء الموت بأكثر من صوت/صورة، فهناك "دفن/ والأموات أصبحوا مغدورين، وجاءت دموع الأمهات لتكون بديلا عن الأكفان، ونجد توضيح: أن القماش الأبيض لا يشتريه أحد.

الصوت: " تسلب في الليل الأكفان"

الصدى: "الكل .. في الليل بلا أكفان" الفرق واضح بين الصوت المحدود الذي يتحدث عن سلب الأكفان في الليل، بينما جاء الصدى ليؤكد على شمولية  الحدث من خلال "الكل".

كل هذا يعطي دلالية إلى الواقع  القاسي الذي يعيشه الشاعر.  

 

المرأة أهم عنصر يخفف من وطأة الواقع، فدائما  يتجه إليها الشاعر لتكون وسيلته للخلاص مما علق به ألم، لكن المرأة في الحالة العراقية  جزء من المأساة، يقدمها لنا الشاعر بهذه الصورة:

" صوت

هذه آخر العربات .. القطار توقف

والنسوة المثقلات بزينتهن الرديئة ..

يجمعن أمتعة السفر المتناثرة

من قصيدة تفاصيل في صورة السيدة.

صدى

توقف قطار العمر ... عند محطة الخيانة

تتزين النسوة برماد الاجساد المحروقة

والسفر إلى المقابر بمركبات وقودها الدمع

متعب..

أي والله..

هو أرخص الوقود" ص33و34،

 الفرق بين الصوت والصدى، القطار يتوقف بصورة عادية في الصوت، لكن الصدى جاء توقف قطار العمر/الحياة، قدوم الموت، والسبب غير عادي، فهناك خيانة.

وفي الصوت نجد النسوة يقمن بالتزين بصورة عادية/مقبولة، لكن في الصدى نجد زينتهن برماد الأجساد المحروقة،  وهذه صورة في غاية القسوة والبشاعة، كما نجد في لصوت تجميع امتعة السفر بشكل عادي، فهي متناثرة هنا وهناك، لكن في الصدى نجد السفر إلى المقابر، ودموعهن هو زادهن، وعندما أخبرنا الشاعر عن مشاعره:

"متعب ..

أي والله.." أعطانا صورة ما يعانيه  كشاعر حساس/ مرهف المشاعر، وفي نهاية الصدى فسر لنا سبب ألمه ووجعه:

"هو أرخص الوقود" كإشارة إلى كثرة الدموع، كثر عدد الأموات، كثرة عدد الأمهات اللواتي يبكين أولادهن.

الفرق بين ما عاشه العراقي في الماضي الجميل والواقع البائس الآن يمثل حالة عذاب إضافية:

"صوت  2

أوصد الباب ..

ثم مضى في الطريق إلى مدن لم يجدها

فأقام على صفحة من نشيد المياه..

بلادا..

صدى 2

كان بابه مفتوحا للأحبة

أوصدته .. عاصفة هوجاء" ص57،

الآن حالة العراقي بائس، لهذا نجده يوصد الباب، ويبحث عن مدن أخرى، لعله يجد فيها راحته، لكن هيهات، فالهجرة بحد ذاتها رحلة ألم، والدافع/الصورة التي كانت تقابل هذه الهجرة هي الاستقرار وانتظار الاحبة، فكانت الأبواب مفتوحة ومشرعة، قبل أن تصدها "عاصفة هوجاء" وهنا يذكرنا الشاعر "بعاصفة الصحراء" التي  شنتها التحالف الامبريالي الرجعي العربي على العراق، وكان ما كان.

إذن بدأ لشاعر في الخروج قليلا من حالة القتامة التي هو فيها،  الشاعر يقدمنا  أكثر من حالة البياض من خلال:

"صوت 4

من أي باب أنت داخله.. سأدخل..

لا خيار وليس غيرك من خيار

من قصيدة سمكة الليل والنهار

صدى 4 

كدخولك من الباب

كدخول الحب في القصيدة

راح يقرأ العشق

قصائد ... لا تمحوها عاصفة الكذب الآن" ص59.

 نجد البياض في غالبية الألفاظ  المستخدمة والتي تخلوا من  الألفاظ السوداء إذا ما استثنينا "لا، تمحوها، عاصفة،  الكذب" وهذا يشير إلى أن الشاعر في عقله الباطن يتجه نحو البياض، لهذا استطاع أن يتحرر بشكل جزئي من واقعه ويقدمنا نص شبه ابيض، وهذا ما نجده في أدواته كشاعر: "القصيدة، يقرأ، العشق".

للمكان أهمية استثنائية عند الشعراء خاصة عندما يتعرض الوطن للاحتلال، هذا ما نجده في الشعر الفلسطيني  وشعراء جنوب لبنان، الشاعر "حمدي الحديثي" الذي عاش احتلال العراق من قبل الاحتلال الامبريالي الاميركي يتقدم من الجغرافيا/ من المكان ليؤكد على العلاقة الحميمة التي تجمعهما:

"صوت 6

طيور مشاكسة .. وطيور وديعة

قصائد رائعة .. وقصائد

المدفعية وشم على صفحة الصمت

والبصرة وشم على لغتي

من قصيدة صباح بصري

 

صدى 6     

وديعة .. هي الطيور التي تحط على شرفات منزلك

الغربان مشاكسة ... تتعلم الانتحار

البصرة وشم على لغتك

كذلك القدس وبغداد" ص51.

إذا ما عدنا إلى التراث الثقافي العراقي سنجده زاخرا بحالة الصراع، هناك صراع بين الإله "تموزي" والشياطين الذي سحبوه إلى العالم السفلي، وهناك الربة "عشتار" التي يقابلها "أرشكيجال" ربة العالم السفلي، والعراقي القديم راقب الطبيعة وفسرها على أنها بطبيعتها تتصارع، فهناك الصيف والشتاء، الربيع والخريف، الليل والنهار، البدر والمحاق، الشروق والغروب، كل هذا جعل العراقي يتعاطى مع الصراع كحالة طبيعية/عادية.

من هنا نجد طيور وديعة وغربان مشاكسة، ونجد قصائد شعرية ومدفعية، لكن كل هذا العناصر مكانها هي الأرض/الجغرافيا، فالمكان هو الحاضن لكل ما يجري، وإذا ما توقفنا عند الصوت والصدى المتعلق بالمكان، نجده في الصوت اقتصر على البصرة، لكن الصدى ردد "البصرة والقدس وبغداد" وهذا ما يشير إلى أن الشاعر  يهتم بالواقع ويتحدث بالهم الوطني العراقي كما يهتم بالهم القومي العربي، لهذا نجده يذكرنا بالقدس، المدينة المقدسة، المدينة التي ما زالت محتلة.

الديوان من منشورات دار دجلة، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2014.  

2018-08-02