الثلاثاء 18/10/1444 هـ الموافق 09/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
هجرة الشوام الى مصر - 2 - والأخيرة .....تميم منصور

  ذكرنا سابقاً أن محمد علي باشا شجع هجرة الشوام الى مصر للاستفادة من قدراتهم ، خاصة اتقانهم للغات الأجنبية ، مثلاً كان أساتذة مدرسة الطب التي أنشأت عام 1827 من الفرنسيين والايطاليين ، وقد أدى هذا إلى الصعوبة في العمل ، لأن كل فريق كان يجهل لغة الآخر ، لهذا السبب لجأ محمد علي باشا الى الشوام ليكونوا همزة وصل بين الفريقين ، وللعمل معهم أيضاً في مهنة الطب .

الى جانب الاستعانة بهم باللغات الأجنبية ، تم الاعتماد عليهم في مجالات أخرى ، مثل أعمال الجمارك والترجمة ، وزراعة التوت ، وصناعة الحرير والتجارة وكان من أشهر التجار السوريين سليم بك شديد الذي امتلك 33 الف فدان ، وحبيب باشا لطف الله . استمرت التسهيلات امام المهاجرين من بلاد الشام الى مصر ، فسمح لهم بتملك الاراضي وإقامة المصانع والمشروعات التجارية والمالية ، إلا أن هذه التسهيلات تحولت فيما بعد الى عقبة أمام حركة المجتمع المصري وسعيه الى التخلص من الامتيازات الأجنبية .

ويشير المؤرخون بأن الشوام لعبوا دوراً مزدوجاً ، فقد كان الأجانب بحاجة اليهم كصلة وصل مع المجتمع المصري ، فقد كان هناك دوراً موكولاً اليهم في المشاريع التي وضعتها الحكومات المتعاقبة . تضاعفت هجرة الشوام الى مصر عند افتتاح قناة السويس سنة 1869 ، في فترة حكم الخديوي إسماعيل 1854- 1875 ، عندها أتيحت لهم فرصاً واسعة للعمل ، كما تدفقوا على مصر في الفترة التي سبقت مباشرة الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 ، عقب فشل الثورة العربية . وتعتبر هذه الفترة العصر الذهبي ، من حيث العدد والنفوذ والتوزيع الجغرافي للمهاجرين ، وبروزهم في كل المجالات وعلى كل المستويات . هناك مردود سلبي لمواقفهم السياسية التي كانت تنطلق حفاظاً على مصالحهم الاقتصادية ، مثلاً عندما وقفت الصحافة الوطنية المصرية ضد الاحتلال البريطاني ، وقفت جماعة " صحيفة المقطم " وهما فارس نمر و يعقوب صروف الى جانب سلطات الاحتلال البريطاني .

كانت الشركات الخاصة تزدحم بالشوام ، خاصة شركة قناة السويس البنك العقاري والبنك العثماني والبند البلجيكي وشركة السكر وشركة مصر الجديدة وشركة الترام وشكرة المياه وشركة الغاز وغيرها . كان رؤساء هذه الشركات من الأوروبيين ، أما غالبية موظفيها فكانوا من الشوام ، أن الغنى الفاحش الذي وصل اليه العديد من أبناء الشوام قد منحهم القاباً على النمط الأوروبي ، كالكونت دي صعب ، والكونت دي شديد ، والقاباً أخرى تركية ، مثل باشا وبك ، ومنهم من حصل على القاب عربية كالأمراء من اسرة لطف الله .

كثيراً ما أثارت هذه الالقاب حفيظة الرأي العام ، مع ذلك لا يمكن انكار ما قدمه الشوام من خدمات جليلة لمصر ، وخاصة في ميدان الثقافة والفنون والمسرح والصحافة ، وهذا لا يمنع من القول أن بعض عناصر هذه الهجرة لعبت دوراً ضد الحركة الوطنية المصرية ، فكما وجدت العناصر الوطنية أمثال : محي الدين الخطيب ، محمد رشيد رضا ، خليل مطران ، داود بركات ، أنطوان الجميل ، وجدت أيضاً عناصر مثل المهاجر الذي وضع نصب عينيه هدف الغنى السريع ، مما يجعله أداة طيعة وعوناً للسلطة القائمة ، تنفذ رغباتها ، ويتزلف لها ضماناً لمصالحه وثروته ، وكما عاش البعض اسير مجتمعه الخاص ، انخرط البعض في الحياة السياسية ، ووصل بعضهم الى عضوية مجلس الشيوخ ، كأنطوان الجميل ، وخليل ثابت ، ودخل البعض الآخر السجون ، وهم يعملون في صفوف أحزاب وطنية.

وقد اجمع الكثير من المجتهدين ان العديد من الشوام المصريين قد شاركوا بالتمهيد للثورة العرابية مثل أديب إسحاق أحد تلامذة جمال الدين الافغاني ، الذي أصدر جريدة مصر سنة 1877 ، ثم انتقل الى الإسكندرية واشترك مع سليم نقاش في اصدار جريدة التجارة سنة 1878 ، وعندما تعطلت ، أصدر جريدة مصر القاهرة عام 1870 .

ويظهر جلياً أثر الشوام في الإسكندرية من نشأة الصحافة ، فقد أسس سليم الحموي صحيفة " كوكب الشرق " بالإسكندرية عام 1873 ، وأسس سليم وبشارة تقلا جريدة " الاهرام " عام 1875 ، وانتقلت بعد ذلك الى القاهرة ، ومازالت حتى اليوم تتصدر الصحف المصرية . وصدرت جريدة الإسكندرية بمساهمة سليم نقاش عام 1878 ، وقد أجمع الكثير من المؤرخين أن عدد الصحف التي أصدرها الشوام في مصر من سنة 1866 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حوالي 220 صحيفة ، وبرزت عدة أسماء شكلت مدارس للصحافة آنذاك منها : فاطمة اليوسف التي عُرفت باسم " روز اليوسف " وبشارة تقلا ، أنطوان الجميل ،جورجي زيدان وكريم ثابت .

أما ما قدمه الشوام في مصر في مجال الفنون ، بعد عام 1860 ، حيث كانت هناك عدة أحداث دفعت العديد من اللبنانيين والسوريين للهجرة الى مصر، أبرزها المذابح التي وقعت عام 1860 في لبنان ، وتراجع تجارة الحرير ، وفرض الأحكام العرفية عقب نشوب الحرب الروسية التركية عام 1877 ، هذه الموجات من المهاجرين ، ساهمت في اثراء الحياة الثقافية في المحروسة مصر ، وكانت أولى الفرق الشامية التي هاجرت الى مصر فرقة سليم نقاش و أديب إسحاق عام 1876 ، وأحدث أبو خليل القباني تأثيراً هائلاً على المسرح ، ويذكر الباحث أيمن عثمان ، باحث في التراث ، أن الفضل الأول لتأسيس المسرح في مصر يرجع الى الشوام ، خاصة بعد أن طردت الفرق المسرحية من سوريا ، اذ كانت السيدات يشتكين من أزواجهن الذين يتأخرون خارج المنزل ليلاً ، وعدما كثرت الشكاوي التي وصلت الى الوالي ، عرف أن السبب يعود الى المسارح التي أنشأها الشباب ، فأصدر فتوى بتحريمها ، وطردوا جميعاً من سوريا ، فالتجأوا الى مصر ، وفي عام 1876 ، أصدر مفتى سوريا فتوى تحرم التمثيل ، فوجد الشوام البيئة الخصبة للازدهار في مصر ، معتمدين على تعريب المسرحيات العالمية . عقب ثورة 1952 بدأت ظاهرة الشوام في مصر تنحسر ، لكن دورهم الاقتصادي والثقافي ظل موجوداً ، ومع الوقت ذابت تلك العائلات الشامية في مصر ، فلم تعد شامية بل مصرية بامتياز .

المصادر : - الدكتور ياسر ثابت ، قصة الثروة في مصر . مصر : الهيئة العامة للكتاب 2013 . - ماهر محمد درويش ، هجرة الشوام الى مصر . فلسطين : جامعة النجاح الوطنية ، 2003 . - السيد عبد المقصود ، الشوام في مصر . مصر : الهيئة العامة للكتاب ، 2010,

2018-09-18