الأربعاء 12/10/1444 هـ الموافق 03/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مجزرة المسجدين بنيوزيلندا .. المآلات الدموية لخطاب التطرف والكراهية! ...فؤاد محجوب

تقوم فكرة «الاستبدال الكبير» على أنّ أجيال المهاجرين (المسلمين) سيأخذون مكان الأوروبيين وسيهدّدون الهوية والثقافة الأوروبيتين بالكامل، وبالتالي «لا بد من التصدي لهم»

الهجوم الدموي الذي نفذه الأسترالي بيرنتون تارنت (28 عاماً) على مسجدين في نيوزيلندا (15/3)، أسفر عن قتل ما لا يقلّ عن  50 فرداً من المصليّن، علاوة على إصابة العشرات منهم بجروح، ومعظمهم مهاجرون أو لاجئون من دول آسيوية أو أفريقية وعربية.

وتندرج هذه الجريمة البشعة ضمن سلسلة «هجمات الكراهية العنصرية» التي تعرض لها المسلمون في الغرب، وكان من أبرزها هجوم النرويج (تموز/ يوليو 2011)، الذي أدّى إلى مقتل 77 شخصاً، وآخر في كيبك بكندا (كانون الثاني/ يناير 2017)، وذهب ضحيته ستة أفراد وإصابة آخرين.

ووصفت رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، الهجوم كـ«أسوأ حادث قتل جماعي في بلدها»، وبأنه «عمل إرهابي مخطط له». وتعهدت في تصريحات صحافية بـ«مراجعة قوانين حمل الأسلحة»، علماً أّنّ سمعة نيوزيلندا كبلد هادئ وآمن، تتناقض مع انتشار الأسلحة الفردية فيها، حيث يسهل حيازتها قانونياً في الوقت الذي تُمنع فيه عن معظم أفراد الشرطة.

جريمة عنصرية بامتياز

وللمرة الأولى في تاريخ هذا النوع من الجرائم، قام المتطرف العنصري تارنت بتصوير «مجزرته» ونقلها في بث مباشر على فيسبوك، في فيديو رأينا خلاله كيف أطلق النار عشوائياً على المصلين، ثم أجهز على المصابين والناجين الذين حاولوا الفرار.

وإلى ذلك، فقد قام بتعميم رسائل توضح أنه نفذ عمليات القتل على وقع نشيد حماسي كانت تبثه القوات الصربية أثناء هجماتها التي استهدفت المسلمين والكروات في حرب البوسنة، وتضمنت تمجيداً للزعيم الصربي، رادوفان كاراديتش، المتهم بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. كما كتب تارنت على أسلحته مجموعة من الكلمات التي تعبّر عن الأفكار التي يعتنقها، مثل «فيينا 1683»، في إشارة إلى حصار العاصمة النمساوية فيينا من قبل جيوش الدولة العثمانية، وهو الحصار الذي فشل وكان بداية تراجع العثمانيين في أوروبا. كما كتب على سلاح آخر «وقف تقدم الأمويين في أوروبا»، وعلى سلاح ثالث كتب «أيها اللاجئون: أهلا بكم في الجحيم»!!.

وبذلك، فقد أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان «نظرية صراع الحضارات»، التي طرحها المفكر صموئيل هنتنغتون، والتي يقول فيها إن الصراع الرئيسي في العالم سيهيمن عليه الجانب الثقافي، وستكون «الفوارق والحدود الفاصلة بين الحضارات والثقافات بمثابة خطوط قتال في المستقبل»!.

«الاستبدال الكبير»

وإضافة إلى ذلك، قام تارنت ببث وثيقة من أكثر من 70 صفحة على موقع فيسبوك تعبر عن رؤيته للعالم، وهي «الرؤية» التي يشاركه فيها من ينتمون إلى جماعات اليمين القومي والديني المتطرف، والنازيين الجدد في أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا.

ويصف تارانت نفسه بداية بأنه «رجل أبيض» أسترالي ينتمي إلى الطبقة العاملة. ثم يشرح انعكاسات تدفق المهاجرين على الدول الغربية على نحو يهدد مجتمعاتها، كما يقول، معتبراً أن «وقف الهجرة وإبعاد «الغزاة» الموجودين على أراضيها قضية بقاء ومصير». بمعنى أن هدف العملية هو؛ ترهيب من يسميهم «الغزاة المسلمين» وترحيلهم.

وتقوم هذه الرؤية على أن «هناك مؤامرة تحاك ضد الأوروبيين البيض، وتهدف إلى التخلص منهم تدريجياً، والسيطرة على الدول التي يشكلون الأغلبية فيها، وذلك من خلال عمليات الهجرة الواسعة من جانب المهاجرين الأفارقة والآسيويين والعرب»، هذا علاوة على تراجع نسب المواليد بين السكان البيض مقابل زيادتها بين الأفارقة والآسيويين، وهو ما يعني في النهاية أن يتحول المواطنون البيض إلى «أقلية مستضعفة»!.

وبالطبع فإنّ أنصار هذه الرؤية يؤمنون بتفوق العرق الأبيض على باقي الأعراق، ويعتبرون أن «تراجع نفوذ وسيطرة العرق الأبيض يعني خراب الدول التي يشكلون فيها الأغلبية». ونظراً لأن أغلبية الأوروبيين البيض ينتمون إلى المسيحية، فيما ينتمي الكثير من المهاجرين إلى الإسلام، فإنّ مجموعات اليمين المتطرف تكنّ عداء خاصاً للإسلام وللمسلمين، وترى أنهم يشكلون «الخطر الأكبر على الغرب».

ولا يكتفي من يؤمنون بهذه الأفكار بكراهية المهاجرين والتضييق عليهم، بل يحملون قدراً غير قليل من الكراهية للنخب الأوروبية الليبرالية التي يرون أنها تساهم بسياساتها، التي تسعى لإدماج المهاجرين في المجتمعات الأوروبية ومنحهم حقوقا متساوية، في القضاء على المجتمعات الأوروبية، واستبدال الأوروبيين البيض بأعراق أخرى، وهذا أحد أسباب رفضهم للاتحاد الأوروبي.

وعلى ذلك، فقد انتقد تارنت في وثيقته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لأنها سمحت لأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين بالإقامة في ألمانيا، كما وجه سهام النقد إلى صديق خان، عمدة لندن، باعتباره نموذجاً لسيطرة المهاجرين غير البيض على مراكز هامة في أوروبا.

ولم تأت أفكار تارنت ورؤيته من فراغ، بل تستند إلى بعض الكتابات التي يكثر تداولها بين النازيين الجدد. ومن أشهرها الكتاب الذي نشره الكاتب الفرنسي، جون رينو كامس، عام 2012 بعنوان «الاستبدال الكبير»، ويقوم على أنّ أجيال المهاجرين سيأخذون مكان الأوروبيين، وسيهدّدون الهوية والثقافة الأوروبيتين بالكامل، وبالتالي «لا بد للتصدي لهذا الاستبدال الذي يحصل بكل الطرق».

ومن الواضح أنّ كل هذه الأفكار كانت حاضرة في ذهن تارنت، وكانت دافعه لارتكاب مجزرته الوحشية، رابطاً جريمته بمحاولة التصدي لما يعتبر أنه «غزو إسلامي لأوروبا، مثلما تم التصدي لجيوش المسلمين في فيينا، أو التصدي للمسلمين في الأندلس»؟!.

تهافت «أكذوبة» الاستبدال!

وفي الواقع، فإنّ فكرة استبدال الأوروبيين البيض عبر هجرة الأفارقة والآسيويين، لا تصمد أمام النقد ولا تستند إلى أي تفكير منطقي، فضلاً عن أنها لا تراعي الوقائع والمصالح الاقتصادية والاجتماعية لأوروبا أو أميركا الشمالية.

ومن المعروف تاريخياً، أن قادة الدول الأوروبية الكبيرة، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فتحوا الأبواب أمام مئات الآلاف من المهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية للمشاركة في بناء أوروبا، سواء من مستعمراتها السابقة أو من تركيا، وذلك للمساهمة في بناء أوروبا، لا في هدمها. كما سبق أن ساهم الآلاف من الجنود المسلمين في الدفاع عن الأراضي الفرنسية والبريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.

ومع استمرار النمو الاقتصادي في أوروبا من جانب، وانخفاض أعداد المواليد من جانب آخر، تبدو الهجرة حتمية لتوفير الأيدي العاملة التي يحتاجها الاقتصاد الغربي في العديد من القطاعات. وفي كل الأحوال مازالت نسبة المسلمين إلى إجمالي عدد السكان محدودة للغاية في أغلب دول أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا. وعلى سبيل المثال لا تزيد نسبة المسلمين في كل من بريطانيا وألمانيا عن خمسة في المئة من إجمالي عدد السكان، وهي أقل من ذلك في الولايات المتحدة. أما فكرة تفوق العرق الأبيض، فقد نسفها تماماً التقدم الهائل الذي حققته اليابان والصين وكوريا وسنغافورة وغيرها من الدول الآسيوية.

وعلى رغم أنّ نظرية «الاستبدال الكبير» مرفوضة من أغلب الأحزاب الرئيسية في الغرب، إلا أنها تمثل ركناً أساسياً في عقيدة «النازيين الجدد» والناشطين في جماعات اليمين الشعبوي واليمين القومي والديني المتطرفين، لتقدم مبرراً لعنصريتهم وكراهيتهم لمن يخالفهم العرق أو العقيدة، وتضمن لقادتهم الشعبية لدى مختلف الفئات الاجتماعية، بما فيها الطبقات العاملة التي تُحمّل المهاجرين أوزار متاعبها ومشكلاتها.

وإلى ذلك، فإنّ جرائم الكراهية والعنصرية المرتكبة لا تقتصر على المسلمين فقط، إنما تستهدف الأقليات بشكلٍ عام، ففي الولايات المتحدة وحدها انتشرت عدد من الهجمات الإرهابية التي استهدفت الأفارقة السود واليهود. مثل ما حدث في مدينة بيتسبورغ بولاية بنسلفانيا حين اقتحم المسلح روبرت باورز معبداً يهودياً وهو يصيح «الموت لكل اليهود»، وأسفر هجومه عن مقتل 11 شخصاً. فيما قام الأميركي ديلان روف بإطلاق النار على كنيسة تشارلستون في ولاية جنوب كارولاينا التي يرتادها أميركيون متحدرون من أصول أفريقية، مما تسبّب بمقتل تسعة أشخاص.

التطرف يغذّي بعضه

وهكذا، فإن ما تفعله تلك الجماعات يمثل «وجه العملة الآخر» لما تفعله جماعات الإسلام السياسي المتشددة، حتى لو تمّ ادراجه في إطار ردود الفعل على ما تفعله التنظيمات «الإسلامية» المتطرفة؛ مثل تنظيم «داعش» وسواه من المجموعات التي استهدفت المدنيين أو أقليات في العديد من الدول.

فالجماعات المتقابلة هنا وهناك تتغذى على «خطاب الكراهية والتحريض» الذي يطلقه كلٌّ منها تجاه الآخر، ومن الواضح أن موجة المدّ اليميني الشعبوي والمتطرف التي يشهدها الغرب في الآونة الأخيرة؛ لا ترتبط فقط بأزمة الرأسمالية وتراجع مرحلة «الرفاه الاجتماعي» التي طبعت العقود الأخيرة، ولكنها تجيء أيضا كردة فعل على الهجرة والمهاجرين، وصعود «الإسلام السياسي» المتشدّد الذي يُكفّر الغرب ويوظف الدين وأحداث التاريخ للتغطية على عملياته الإرهابية.

 

2019-03-25