الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
احتفالٌ ماسيٌّ للشّاعر جورج فرح في حيفا!/ آمال عوّاد رضوان
احتفالٌ ماسيٌّ للشّاعر جورج فرح في حيفا!/  آمال عوّاد رضوان

احتفاليّةٌ أدبيّةٌ أقيمتْ في قاعةِ مار يوحنّا الأرثوذكسيّة في حيفا، بالتّنسيقِ ما بين نادي حيفا الثقافيّ، ومُنتدى الحوار الثقافيّ عسفيا، والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ بحيفا، ومكتبةِ كلّ شيْء، احتفاءً باليوبيل الماسيِّ للأديب جورج جريس فرح، وتكريمًا لدَوْرِهِ الأدبيِّ العريض في الحَرَكةِ الثقافيّةِ الفلسطينيّة، وذلك بتاريخ 27-11-2014، وسط حُضورٍ كبيرٍ مِنْ شعراءَ وأدباءَ وأصدقاءَ وأقرباء. وقد افتتحَ الفنّانُ بشارة ديب الاحتفالَ بمعزوفةٍ يُرافقُها صوتُهُ العذب، وتولّى عرافةَ الأمسيةِ الأديبُ والإعلاميُّ نايف خوري، وتضمّن الاحتفاءُ مداخلاتِ كلٍّ مِن الأديب رشدي الماضي، ود. بطرس دلّة، وقد حاوَرَتْهُ آمال عوّاد رضوان حولَ قصائدِهِ المُغنّاةِ وأرْشَفَتِها وتكلفتِها، وكانت مُداخلةٌ غنائيّةٌ لإحدى قصائدِهِ بصوْتِ الفنّانة الإعلاميّة تغريد عبساوي، وأخرى بصوت الفنان بشارة ديب، وكلمةُ العائلةِ ألقتْها كريمتُهُ فاتن جورج فرح، وبرقيات من الأديبة سعاد قرمان، وبرقية مقروءة للبروفيسور فاروق مواسي. وقد قدّمَ درعَ التكريمِ لِلمحتفى بهِ جورج فرح كلٌّ مِن؛ جريس خوري وفؤاد نقّارة، ومِن ثمّ شكرَ الأديبُ جورج الحضورَ، وألقى قصيدتيْن، ليتمّ بعدَها التقاطُ الصّورِ التّذكاريّة.  
جاء في كلمة الإعلاميّ نايف خوري: شاعرنا الّذي نحتفي كلُّنا معَه بمناسبةِ يوبيلِهِ الماسيّ، خمسة وسبعون سنة مرّتْ في حياةِ الشّاعرِ مليئةً بالعملِ الدّؤوب، بالعطاءِ المُستمرّ، وبالإبداع الّذي لا يَنضُبُ. شاعرُنا عملَ في عدّة مَجالاتٍ، منها المعيشيّةِ العاديّةِ، ومنها الإبداعيّةِ ككتابة الشّعر والتّرجمة، فهو مُترجمٌ بارعٌ، وبرنامَجُنا التّكريميُّ حافلٌ اللّيلةَ، مُفعمٌ بالمَحبّةِ، ومَليءٌ بالمودّة ومغمورٌ بالإلفة.
إنّ تكريمَ المُبدعينَ الأحياءَ ميزةٌ طيّبةٌ ورائعةٌ، لكي يَشهَدوا مَحبّةَ الجمهور لهم، وهذا ما يَجنيهِ المُبدعُ، أنْ يَلقى ثمارَ إبداعِهِ عن طريقِ هذا التّجاوُبِ والتّفهُّم والتّحبُّب لِما يَقول وما يُعطي. وهنا نُشيرُ إلى تكريم العُظماءِ الّذين تَكَرَّمَ عددٌ منهم في حياتِهم، ومنهم مَن تَكرّمَ بعدَ وفاتِهِ، وإذا كان آخِرُ الكبارِ المُتوفّين هما الشاعر سعيد عقل والصّبّوحة شحرورة الوادي، فقد أوصت الصبوحةُ بتكريمِها بعدَ وفاتِها بمَظاهرِ الفرَح والرّقصِ والغناءِ، وليسَ بالحزنِ والغَمّ والبكاء. ولذا دَعُونا نُصفّقُ تحيّةً لروحيْ هذيْنِ الكبيرَيْن، وسنستمعُ في أُمسيَتِنا إلى أغنيةٍ مِنَ الفنّانةِ تغريد عبساوي تكريمًا للأسطورة صباح، كما سنستمعُ إلى عددٍ مِنَ البرقيّاتِ الّتي أُرسِلَتْ أو جاء أصحابُها لِيُسلّموها مباشرةً إلى المحتفى به شاعرنا جورج فرح. وأولى هذه البرقيات من الشاعر البروفيسور فاروق مواسي، الّذي يبعثُ بتهانيهِ لشاعرِنا، ويقولُ إنّهُ يَستحقُّ التّكريمَ نظرًا لإبداعِهِ الرّاقي، ويُهنّئُهُ لِحصولِهِ على جائزةِ الإبداع في مَجالِ التّرجمةِ لهذا العام، فهو أهلٌ لها.
جاءَ في مُداخلةِ د. بطرس دلة/ زبدٌ فوقَ الرّمال- للشاعر جورج فرح:
الأمّةُ الّتي تَعرفُ كيفَ تُكرّمُ مُبدِعيها وقادَتَها هيَ أُمّةٌ جَديرةٌ بالحَياةِ! وأنتم أيُّها الأحبّةُ في نادي حيفا الثقافي، عندما تُكَرّمونَ صديقَنا وابْنَ حيْفا سابقًا الأستاذ الشاعر جورج فرح، إنّما تعمَلونَ على أنْ تكونوا جديرينَ بالحياةِ، فلَكُم منّا إلفُ شكرٍ وقبلةِ مَحبّةٍ صادقةٍ، على دوْرِكُم هذا في خدمةِ الكلمةِ الطيّبةِ والإبداعِ الأدبيّ.
أخي جورج، أيّها الشّابُّ البلديُّ الطّالعُ مِنْ رَحمِ الأرضِ إلى لهفةِ القلوبِ وإلى توَثُّبِ الغزلان، يا وعْدَ الفقراءِ ويا خَميرةَ العرائس، يا انبثاقَ الحياةِ على وجْهِ الأرضِ، أيّها العَلَمُ القمْحِيُّ النّاهضُ مِنْ سَواعدِ الرّجالِ، ومِنْ أرْومةِ آل فرَح الأماجد، كلُّ الأنهارِ الكبيرةِ تَجري في مَساراتِها إلى أن تُعانقَ البحرَ الكبيرَ، أمّا الجداولُ الصّغيرةُ فليسَ لها إلّا أنْ تَرضى بالجَفافِ في آخِرِ المِشوار، قبلَ أنْ تَصِلَ إلى البَحْرِ. وأنتَ أيُّها العزيزُ، وصَلتَ مَثلَ كُلِّ الجَداولِ الكبيرةِ. لقد تعلّمتَ في مَدارسِ الوَجع، أنّ أسوأ عِلاجٍ لجرحٍ نازفٍ، هو أنْ نُطأطئُ رُؤوسَنا إزاءَهُ، وتعلّمتَ كذلكَ أنّ قوّةَ إرادةِ الإنسان أقوى بكثيرٍ مِن قوّةِ ذراعِهِ، كذلكَ أنّ الحُرّيّةَ صناعةٌ لا يُتقِنُها إلّا مَن صَنَعَها بيَدَيْهِ! ولمّا كُنّا شعبًا مُتفائِلًا بطبيعتِهِ، يُحِبُّ الحياةَ والحُرّيّة، فلذلك لا بُدّ مِنْ أنْ نَصنعَ هذه الحُرّيّة، إنْ لم يَكُنِ اليوْمَ فغدًا القريبَ جدًّا لا محالة!
أنتَ أيُّها الصّديقُ، في دواوينِكَ الأربعة أثبَتَّ أنّكَ إنسانٌ مُرهفُ الحِسِّ حتّى الثّمالة، وكلماتُكَ في دواوينِكَ تأتي حُبْلى بالمَشاعرِ الجيّاشةِ تُجاهَ الحَبيب، فليَبْدأ اللّيلُ بكَ عتمةَ تَماهٍ ورضى، كي يَنتهي أُوارُهُ فيها، فكيف إذن قدّمْتَ للحبيبةِ ثلاثَ ورْداتٍ؛ إحداها بلوْنِ الحنين، وأنتَ بلوْنِ الشّوْقِ، وأنتما معَها بلوْنِ المَسرّة! لقد علّمَتْكَ ذاكرةُ الرّيحِ أنّ الجبالَ قد تسْقُطُ وتنهارُ ذاتَ يوْمٍ، فهل تستطيعُ إقناعَ ديكٍ فصيحٍ بعدَمِ الصّياحِ صَباحًا؟ أنتَ أيّها الصّديقُ ذلكَ الدّيك، فتابعَ صِياحُكَ كي تُصَحّيَ النّيامَ عن حُقوقِهِم وإلى توَثُّبِهِم الثّوْريّ!
أنتَ تَبدو في دَواوينِكَ قنديلُ حُبٍّ تُضيءُ للعُشاقِّ ليالي الشّتاءِ، ليَبقوا في أحلامِهِم المُتجدّدةِ تُويْجةَ  ياسَمين، وفي الصّباحِ الحالِمِ نَكهةَ القهوةِ الصّباحيّةِ، وفي همَساتِ العُشّاقِ كلمةً حلوةً، وفي عِناقِ المُحِبّينَ همسةً ربيعيّةً دافئة. إنّ ما وثّقْتَهُ في ديوان "زبَدٌ فوْقَ الرّمال" وإبداعاتِكَ على الأوراقِ البيْضاءِ، هي مُحاولاتٌ مِنْ أجلِ أنْ تَرتسِمَ البَسماتُ على الشّفاهِ، فتصْحو الذّاكرةُ العربيّةُ، لأنّ ما قلتَهُ في الحُبِّ والغزَلِ هو خبزُ الحياةِ فعْلًا، لأنّهُ شبيهٌ جدًّا بالشّرفةِ البيْضاءِ على المَدى الأزرقِ، وكالصّمتِ الأخضرِ على شِفاهِ العاشِقينَ المُراهِقينَ، وكلذعةِ النّارِ في جَمراتِ المَواقِد!
في ديوانِكَ "زبَدٌ فوْقَ الرّمال" قدّسْتَ مَحبّةَ الآخرينَ منذُ القَصيدةِ الأولى، وأكّدْتَ هذهِ المَحبّةَ بقصيدتِكَ الأخيرة، ففي الأولى دعَوْتَ الآخَرَ كي يَبقى معَكَ وتبقى معَهُ، وفي الأخيرةِ دَعَوْتَ ذلكَ الصّديقَ إلى أن يُبقي حَبْلَ الصّفوِ مَوْصولًا فيما بيْنَكُما، لأنّكَ مُستعِدٌّ لأنْ تَمُدَّ لهُ يَدَكَ لتحفظَهُ مِنَ السُّقوطِ، فلا يَهوي ولا يَذبُلُ! ثمّ في نفسِ القصيدةِ تَركَبُ معَ الحبيبِ موْجةً، وصَلَتْ بكُما إلى الشُطآنِ بالزّبَدِ، لتَرقُصا معًا فوْقَ رَملِ هذهِ الشُّطآنِ، وتعزفا لَحْنًا لا نهايةَ لهُ، فتُمْعِنان في صَبابَتِكُما إلى الأبد!
أمّا في قصيدةِ "أراك" فأنتَ تَعشقُ مَحبوبتَكَ حتّى درجةِ العِبادةِ، ولا تتذمّرُ مِنْ تِلكَ العُبوديّةِ، لأنّكَ سوفَ تزدادُ تَعلُّقًا بها، إلى درجةِ الرُّكوعِ بينَ يدَيْها، تتلو صَلاةَ عِشقِكَ، وتَسكُبُ العَبَراتِ على مَذبحِ الحُبِّ بقوْلِكَ ص14-18: "وحينًا أراكِ بصَفْوِ الحَياةِ/ كحُوريّةِ البحرِ في الأمْسياتِ/ ... فأخشعُ كالعبْدِ لِلحُبِّ حتّى/ لَأجْثُو هُناك فأتْلو صَلاتي!
فأيُّ حُبٍّ هذا الّذي يَصِلُ إلى درجةِ العِبادة؟!
(ملاحظة: أتذكُرونَ أيّها الأحبّةُ أغنيةَ محمّد عبد الوهاب الّتي يَقولُ فيها: مِسكين حالي عدم من كثر هجرانك/ يللي هجرت الأهل والأوطان على شانك! التقاه الخديوي بعد أن غنّاها وسأله: أأنت المُغنّي الّذي غنّى هذه الأغنية؟ قال نعم. فقال له الخديوي: إيه ده؟ إنت بتبيع الوطن ببنت مفعوصة؟!)
صحيحٌ أنّ هذهِ القصيدةَ مِن نوعِ الغَزلِ النّاعمِ الرّقيقِ، الّذي يَصِلُ فيهِ شاعرُنا حَدَّ نُكرانِ الذّاتِ، إرضاءً لمَعشوقتِهِ هذه، لكنهُ لا يَكتفي بذلك، بل يَتعدّاها إلى غيْرِها مِنَ القصائدِ، حيثُ يَسعى إلى الوِصالِ معَ مَنْ يُحِبُّ، كي يَضمَنَ للحبيبةِ أجمَلَ ليالي الحُبّ! كذلكَ في قصيدتِهِ "انتظار" ص27 يُعطينا بعضَ صِفاتِ مَعشوقتِهِ، لكنّه لا يُصَرِّحُ باسْمِها. مِن هنا، فإنّها قد تكونُ أيّةَ فتاةٍ عابرةٍ، أو أيّةَ جَميلةٍ ألْهَمَتْهُ ما كَتبَ فيها، وأبْقى اسْمَها في سِرِّهِ خوْفًا عليْها، وطمَعًا في وِصالِها حينما يَستجيبُ القدَر. يقول: وعندَ الأصيلِ ووَقتِ السَّحَرِ/ صَلاتي/ رَجائي/ ابْتهالي/ دُعائي/ لِمَوْعِدِنا الدّائمِ المُنتظر/ أُسائِلُ طيْفَكَ حينَ يَلوحُ/ مَتى يَستجيبُ الدُّعاء القدَر؟!
أنقضي ليلةً أخرى؟ هذا هو عنوانُ القصيدةِ الّتي وَصَلَ فيها الشّاعرُ معَ مَحبوبتِهِ، درجةَ الوِصالِ الّتي كانَ يَصبو إليْها، حيثُ قَضى معَها ليلةً ليلاءَ، وهي لذلك تَرجُوهُ مُتسائلةً: هل يَقضي معَها ليلةً أخرى؟ فيهمسُ: بزَحَمِ النّاسِ/ فوْقَ رَصيفِ ميناءٍ لَمَوْعِدِنا/ ضمَمْتُ الخصلةَ الرّيّا بأدْمُعِها/ إلى صدْري/ وقد عَزَّ الوَداعُ/ فلاحَتِ الأشْواقُ مِنْ ذِكرى سُوَيْعاتٍ قضَيْناها/ كما الأحلامُ/ نسْرِقُها وتَسرقُنا/... ونَسمَعُ خَفقَ قلبَيْنا/ ودفقًا في العُروق طغى/ وصَعّدَ نَهدةً حَرّى.../ بخِلسةِ سارقٍ طُبِعَتْ/ على شَفتيّ قبلتِها/ وعيناها تُسائِلُني/ أنَقضي ليلةً أخرى؟
أمّا قصيدتُهُ "ليْلُ الوَداع" ص57، فيتألّمُ فيها شاعرُنا كلَّ الألمِ، لأنّهُ يَعرفُ أنّ أصعبَ ساعةٍ عندَ المُحِبّينَ هي ساعةُ الفراقِ، فيقولُ ص59: إذا لاحتْ خُيوطُ الفجرِ تَدعو للمَسير/ أو سمعتَ هديلَ هاتيكَ الحَمائمِ تَستَجير/ أغلِقِ الأبوابَ دونَ الضّوءِ/ دونَ الصّوتِ/ دونَ الوَقتِ/ إنّ الوَقتَ وغدٌ لا يُطاق... / عندَ ساعاتِ الفراق.
فاذا تمّ الفراقُ، فإنّهُ يَشكو مِنْ دَهْرِهِ الّذي تَرَكَ لهُ غَصّةً في الحلقِ، بعدَما قسَا عليْهِ وسَقاهُ مُرَّ العذاب، كما يَبدو في قصيدتِهِ "لو أنْصَفَ الدّهرُ" ص71-73 حيثُ يَقول: وكيفَ رُمِينا بداءِ الفراق/ وكيف قسَا دَهْرُنا فرَمانا/ وأعْجَبُ كيفَ أصَرَّ الجفاءُ/ على قهْرِنا/ فقضى ودَعانا/ ولو أنْصَفَ الدّهْرُ يوْمًا/ لأبْدى/ لنا العُذْر مَنْ مَرَّ ما قد سَقانا.
إنّ موْضوعَ هذه القصيدةِ ليسَ جديدًا، لأنّ الكثيرينَ مِنَ العُشّاقِ انْتهَتْ علاقاتُهم بالفراق، فاتّهموا الدّهرَ بأنّهُ سببُ الفراقِ، ومعَ ذلكَ، فإنّ هذهِ القصيدةَ مِنْ أجملِ ما في هذا الدّيوان، لأنّ شاعرَنا يُعبّرُ بلُغةٍ بسيطةٍ، فيها مِسحةٌ مِنَ الجَمالِ ولَمسةٌ مِنْ لَمَساتِ أفروديت ربّةِ الحُسْنِ والجَمال.
الشّعرُ الوَطنيُّ: في ديوان "زبَدٌ فوْقَ الرّمال"، وديوان "بدء الحصاد" يَكتبُ شاعرُنا على مِحْوَرَيْنِ؛ المِحور الغزليّ والمِحورِ الوَطنيّ، مع أنّ الغزلَ يَغلبُ على هذا الدّيوان. لكن حتّى ولو كانتْ مُعظمُ قَصائدِ هذهِ المَجموعةِ تَنطوي تحتَ عُنوانِ قصائد غزليّة، إلّا أنّ شاعرَنا كمُعظمِ الشعراءِ الفِلسطينيّين، لا يَنسى وطنَهُ، حيثُ يُكَرِّسُ للوطنِ أكثرَ مِن قصيدة، كقصيدته "تلك التي" ص(77- 79)، الّتي يُعلنُ فيها مَحبّتَهُ لِلوطنِ، لأرضِ الوطنِ، ففلسطينُ بالنّسبةِ لهُ هيَ جنّةُ اللهِ على الأرض، ولكنّها مُغتصَبةٌ وجَريحَةٌ، وهو يَرصُدُ مَنْ يَهديهِ إلى سَبيلِ جَنّتِها، وإلى خلاصِها مِنَ المُغتَصِبِ المُحتلّ حيثُ يَقولُ فيها: "تلكَ الّتي منها أنا/ والبُعدُ عنها مُستحيلٌ/ في حُبِّها ذقت الضّنا/ ما مِثلُ آلامي مَثيلُ/ في أرضِها الزّيتونُ والصّبّارُ/ يُفضي للنّخيلِ/ ... مِنْ حَرْفِها صغتُ القصائدَ/ كالقلائدِ/ للبلابلِ كي تُغرّدَ/ والحمائمُ للهَديلِ/ غنّيتُ كي/ صَلّيتُ كي/ يَبقى النّضالُ الحُرُّ/ كي يَنزاحَ عنها ليْلَها/ ذاكَ الثّقيل.../ قالوا تجَلّدْ/ قلتُ طالَ اللّيلُ بالصّبرِ الجَميل/ لكن صبْري قاتلي/ فيها أنا صِرتُ القتيل/!  يا ليتَ شِعري هل إلى/ أبوابِ جَنّتِها/ سَبيل؟!
إنّهُ إذن؛ ناقمٌ وحاقدٌ وثائرٌ على أوضاعِ هذا الوطن، ولكنّ ثوْرتَهُ هادئةٌ كلَّ الهُدوءِ، لأنّهُ لا يَدعو إلى الهَبّةِ الشّعبيّةِ ولا إلى الثّورة، بل يَكتفي بالصّلاةِ والأُمنياتِ! فهل يَتحَرّرُ الوطنُ بالأُمنياتِ وبالصّلواتِ؟ مِن هنا يُهاجمُ شاعرُنا عُروبَتَنا المُتخاذلةَ، فيَنعاها لأنّها ميّتةٌ كما يقولُ: "ونبقى نحنُ في الدّنيا/ وإن عِشنا، كأموات" (ص89). هكذا وَجدناهُ يَلجأ إلى القصيدةِ الأليغوريّة، (والأليغوريّة هي نوعٌ مِنَ الشّعرِ التّأمُّليِّ الّذي يَجعلُ الإصغاءَ العاشقَ للشّيءِ المَحسوسِ عنصُرًا أساسيًّا للقصيدةِ أو للقصّة، وهي نوعٌ مِنَ التّرميزِ كما في كليلة ودمنة مثلًا.)
مُعظمُ قَصائدِ هذا الدّيوان وما سَبَقهُ هي شِعرٌ مُباشرٌ، ذو عِباراتٍ واضحةٍ لا تَحتمِلُ التّأويلِ، فيهِ رسالةٌ إنسانيّةٌ واضحةٌ، وتمْجيدٌ للحبيبِ في شِعرِهِ الغزليّ، فالحُبُّ والوطنُ والنزعات الإنسانيّةُ القيّمةُ هي شُغلُهُ الشّاغلُ! 
الجرْسُ المُوسيقيّ: شاعرُنا يُجيدُ كتابةَ الشِّعرِ العَموديِّ المُقَفّى بجرْسٍ موسيقيٍّ رائعٍ، فقد وَجَدْناهُ يَلجأ في غَزليّاتِهِ إلى بُحورِ الشّعرِ الّتي قلّما يَطرُقُها الغزليّون. هكذا جاءتْ قصيدَتُهُ "إنذار" (ص32) على وزن البحر المحدث الّذي تفعيلاته فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن مع جوازات فاعلن.
وقصيدته "انتظار" (ص26) على وزن البحر المتقارب، والّذي تفعيلاته فعولن فعولن فعولن فعول مع جوازات فعولن هذه.
وقصيدته "في ليلة ماطرة" على وزن البحر المديد فاعلاتن فاعلاتن فاعلات مع الجوازات.
وقصيدته "بأول كرة" على البحر المتقارب فعولن فعولن فعولن ... الخ .
وقصيدته "بعنف النّبض" (ص43) على وزن مجزوء الوافر فاعلاتن فاعلاتن.
أخيرًا اسْمَحوا لي أنْ أقولَ ما قالَهُ الأديبُ الكبيرُ علي الخليلي: "يا ضمّةَ الزّنبقِ والغَمام/ عبّأت مِن محبّتي/ كأسًا إلى الجمام/ فاجترحوا/ واخترعوا/ واجتمعوا/ على دروب الحقّ/ والسلام! يا حبّي الكبير! أنا فارسٌ يُطاولُ السّحابَ عِزّةً / ويُخجلُ النّسور/ يا خطوةً على دُروبِ الشّمس/ والنّجوم/ يا حُبّي العظيم امتشقوا اليراع في تلهُّفٍ ثم انثروا العبير.
لكَ أيُّها الشّاعر الصّديقُ جورج فرح أقول: لقد عمّدَتْكَ ربّةُ الشّعرِ بمِياهِ النّهرِ المُقدّس، فنشأتَ مُحِبًّا ومُبْدِعًا، وسبَقتَ الكثيرينَ مِنَ الشُّعراءِ إلى إثراءِ مَكتباتِنا بما أبدعْتَ. ستَذكُرُكَ الأجيالُ القادمةُ أبدًا، لأنّكَ فتحتَ أمامَها أبوابَ الشّعرِ، وعرَفتَ الإبداعَ، وأصبحْتَ سيّدَ الكلمةِ الشّاعريّة. لم تَكسَلْ في أيّ يوْمٍ، ولمْ تَتوانَ عنِ العَطاء، وذلكَ لأنّكَ تَعرفُ في قرارةِ نفسِكَ، أنّ الّذينَ يُعطونَ هُم أبناءُ الله. لِعَطائِهِم يَبتسِمُ اللهُ في عَليائِهِ، ويُصَفّقُ لهُم جبريل ومَلائكتُهُ في السّماء. فطوبى لكَ لأنّكَ أعطيْتَ بغيْرِ حِسابٍ، وتُعطي وتُقدّمُ لنا الجميلَ والمُحَبّبَ والمُمَيّزَ مِنْ شِعرِ القافيةِ العموديّ وغيْرِهِ. نحنُ نُغبِّطُكَ كلَّ الغبطةِ، ونَرجو لكَ العُمرَ المَديدَ والرّأيَ السّديدَ والصّحّةَ والعافية، لِتَظلَّ كشجرةِ الزّيتونِ المُتجذِّرةِ في باطنِ أرضِ هذا الوطن، تُعطي أكلها في حينِهِ، وتَضحَكُ للرّياحِ العاتيةِ الّتي لا تَهُزُّ جذورَها، بل تُلاعِبُ أغصانَها في رقصةٍ ربيعيّةٍ حالِمة! لكَ الحياةُ أيُّها الصّديق!
وحولَ قصائد جورج فرح المُغنّاة حاوَرَتْهُ آمال عوّاد رضوان:
آمال: فضْلًا عن الشّعرِ الفَصيح، لكَ كثيرٌ مِن كلماتِ الأغاني. فمَن لَحّنَ وغنّى لكَ؟
جورج: لي العديدُ مِنَ الأغاني الّتي تمّ تَلحينُها وغناؤُها. لحَّنَ لي كُلَّ مِنَ الفنّانِ المَرحومِ حكمت شاهين، والمرحوم جورج درماركوريان، والأستاذ فرَنْسْوا الخِلّ، وقد غنّى كلماتي الفنّان إبراهيم عزام (قُمْ يا مُغَنّي اللّيْل) وبشارة عوّاد، وسمير فارس، وفوْزي سعْدي، وعلاء شُرُّش، كما قامت الفنّانة تغريد عبساوي بتلحين وغناء قصيدة "إذا مضيْتَ"، وهيَ مِنْ توْزيع الفنّان ميشيل سجراوي، وأغنية عيونُ بلادي، لحّنَها مؤخّرًا الأستاذ نبيه عوّاد.
آمال: مَتى وكيف بدأتَ بتأليفِ الأغاني؟
جورج: يَعودُ ذلكَ إلى بدايةِ الخمسيناتِ مِن القرن الماضي، إلى سنوات التقشّف، ففي تلكَ الأيّام كتبَ صاحبُ الظّلِّ الخَفيفِ المرحوم جورج سليمان كلماتِ أغنيةٍ "عَ النّونا"، على لحن أغنية "ع الياني الياني". استهوتْني الأغنية، ولم أتَجاوَزْ آنَذاكَ الثالثةَ عشرة مِن عُمري، فأضفتُ مِنْ عندي بعضَ الأبيات، وغنّيْتُها في نزهةٍ عائليّةٍ على شاطئ الطابغة (طبريّا)، وصادفَ أنْ كانَ المرحوم جورج سليمان قريبًا منّا، فلمْ أكَدْ أبْدأ مَطلَعَ الأغنية، حتّى تَصدّى لي قائلًا إنّ الأغنية لهُ. فدعَوْتُهُ للاستماعِ حتّى النّهاية، وبَعدَ أنِ انتهيْتُ مِنَ الغناء، عانقَني بِحَرارةٍ واعتذَر.
كان مطلع الأغنية: ع النّونا النّونا النّونا/ ضرايبكُم هدُّونا/ ضريبة دخل وماس مُوتروت، ضريبة سُكْنى وأَرْنونا. {ماس موتروت؛ ضريبة الكماليّات، فرضَتْها (إسرائيل) آنذاك على كُلِّ المُنتجاتِ غيرِ الضّروريّةِ للمَعيشة}.
من الأبيات التي أضفتُها: أمَّا عدل أمَّا إنصاف/ شيّلْتُونا عَ الأكتاف/ شَهَّيْتُونا الخبْزِ الْحاف/ حتّى البيضة حَرَمْتونا/ ولك يا دايْرة التّموين/ ثلاث أرباعْنا عيَّانين/ كوكوز وشِيمِن ومَرْجَرِين/ ثلاثة عَمُوا عينينا.
وأثناء العدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956، جادَتِ قريحتي بأكثرِ مِنْ أغنيةٍ، دارتْ على ألسُنِ النّاس، أذْكُرُ منها على سبيل المثال أغنيةً قلتُ فيها:
بين حانا ومانا/ ضاعتْ نيتسانا/ وبين إنجلند وفرنسا/ ضيَّعنا سينا!
هي أغنيةٌ تهَكُّميّةٌ تناولتُ فيها زُعماءَ العدوانِ آنذاك: إيدن بريطانيا، وغيموليه فرنسا، وبن غوريون إسرائيل. ونيتسانا هي المعبر الحدوديُّ البَرّيُّ الرّئيسيُّ بين إسرائيل ومصر، تعبُرُهُ شحناتٌ مختلفةٌ للسُّلطةِ الفلسطينيّةِ، مِن سِلَعٍ غِذائيّةٍ، وخضرواتٍ، ومنسوجات، وتَوابلَ، وزجاج، ومُنتَجاتٍ كيماويّة.
وحينَ تحدّثَ الأديبُ جورج فرَح عن التّكاليفِ الباهظةِ الّتي يتكبّدُها المُبدعُ في بلادنا، مِن إصداراتٍ وتسجيلاتٍ ونشرٍ وتوزيعٍ، وعلى حسابِهِ الخاصّ، وتوزيعِها كهدايا لِلمعارفِ والأصدقاء وليسَ للبيْع، فجّرَ السّؤالُ حميةَ المحامي فؤاد نقارة؛ رئيس نادي حيفا الثقافيّ، وأعلنَ عن استعداد النادي لتشكيل جمعيّةٍ مِن أدباء وشعراء وقرّاء، تُساهِمُ بدَعم المُبدعينَ وإصداراتِهم ونِتاجاتِهم.
جاءَ في مُداخلةِ رشدي الماضي: جورج خريطةُ الفَرَح:
حينَ رَحلتُ منّي إلى عُبابِ فراشتي الّتي تَشتعِلُ نَشوَةً ولا تَحترِقُ، وَجَدْتُني أُطِلُّ مِنْ شُقوقِ سِلالِ الإبداع، وأخطِفُ إليْهِ نظرةً. ولأنّهُ صعْبٌ عَليَّ أنْ أكونَ خارجَ تَضاريسِ نَصِّهِ، تَرَكْتُني أَحْبو على عَتبةِ خَجَلي، مِنْ عَنَاقيدَ أبْجَديّةٍ تَدلَّتْ، حتّى دَلفَ إلى حُجرةِ لغةِ الشِّعرِ، حُجرةٍ مُرَصَّعةٍ بوَشْمِ الكَلماتِ، فالتَقَيْتُهُ بعدَ قصيدةٍ ثاويةٍ على كتِفِ الإبداع، عندَ ضفافٍ زَلِقةٍ، تُمَسِّدُ جَدائِلَها أجنحةٌ مَسكونةٌ بقلَقِ السُّؤالِ والجَوابِ، قلَقٌ مُستغْرِقٌ في الذّاتِ يَتَهيَّا، ولو بعدَ حينٍ، أنْ يَلبَسَ ثوْبَ الحقيقة. فما الغريبُ أنْ أتَناوَلَكَ كِسرةً كِسرَة كيْ أراكَ؟!
نعم، أراكَ تُحاورُ الحَرفَ المُعتَّقَ، لِتَرْسُمَ القصيدةَ مَغموسةً بصِدقِ البَوْحِ والوَفاءِ لِتَفاصيلِ الواقع، خاصّةً، حينَ تَراهُ يَتَرنَّحُ مَخمُورًا، مِنْ شِدَّةِ رائحةِ العُنفِ وعَفنِ المَواقِفِ، والدُّخانِ الأسْوَدِ الّذي يرْمينا بشَرَرِ التّمزُّقِ والتّكفيرِ ونَزيفِ الانْكِساراتِ، كيْ يَتْرُكَنا حاضِرًا مُوجَعًا، لا تَسْتَفيقُ في صَباحاتِه إلَّا المجزرة! أبا ربيع، يا شَريكي في حِراسةِ القصيدةِ! تَعالَ نُمْطِرُ الشِّعرَ مَعًا، ونُعَرِّجُ على الحُلْمِ المُنمَّقِ بحَريرِ الكَلام، كلامٍ يُنادينا أنْ نُؤَجِّلَ رغبةَ الهزيمةِ إلى رُفاتِ زَمَنٍ مَنْفِيِّ، إنْ أصَرَّ أنْ يَأتِيَ، تَأكَّدْ أنّهُ لنْ يَصِلَ، فلمْ يَعُدْ يا شاعري وسعٌ للأنين.
أنا، والشّمسُ شاهدةٌ، مُصَمِّمٌ أنْ أُواصِلَ السّعْيَ بيْنَ المِسْكِ والزّيتونِ، سَفَرًا بيْنَ صَوْتِكَ ومَعناهُ، أُوقِظُ قَصيدتَكَ المُوغِلةَ بالدّلالةِ، سحابةً تَحُطُّ قبلةً تَنعَجِنُ في تُرابِ أرضِنا المُبارَكةِ قبلةً، يَدُها إلهٌ ينْحَتُ الوَطنَ الجَريحَ لوْحةً تنزعُ الأغلالَ عنَّا، وتَكْسِرُ الأصْفادَ الّتي تَربطُ أقدامَنا حُلمًا، يُسْرِعُ إلى الإقامةِ تحتَ عشبةٍ أبديّةِ الكلمة، حامِلةٍ حقيقةَ الحياة.
شاعري جورج فرح، وأنتَ خريطةٌ لِلفرَحِ، صَحيحٌ أنّنا معًا في هذا المساءِ الماسِيِّ للإبداعِ والقَلمِ، معًا للحظاتٍ لا غيْرَ، لكنْ تأكَّدْ يا أخي الّذي لَمْ تَلِدْهُ أُمّي، أنّ القصيدةَ ستَبقى المِنجَلَ الّذي يَحصُدُ حتّى "الحرب"، وفقط حينَ تَبْتُرُ راءَها، كي تَعودَ إلى أصْلِها حَبًّا، نَعَم حَبًّا، يَتَجَمَّعُ حوْلَهُ الجَسدُ والنّفسُ والرّوحُ أرْضًا طيّبةً، تَرفَعُ حَبْلَ مَشيمتِها إلى الله، كيْ يُبارِكَ خُصوبَتَها كلَّ صباحٍ، وأنتَ بقصيدةٍ مِنها كلُّ شيْءٍ حيٌّ، ولكَ المَسرّةَ والسّلامَ حتّى مَطلع الفجر!
إذا مضيتَ/ كلمات جورج جريس فرح/ ألحان وغناء تغريد عبساوي
إذا مضَيتَ مضى كمالٌ عقلي مَعَكْ/ والقلبُ إذ قد غَدا بجِنَّةٍ مُولَعَكْ
الأذنُ في لَوعَةٍ تتوقُ أن تَسمَعَكْ/ والعَينُ مَهما التَقَت/ بالعَينِ لن تَشبَعَكْ
يضيقُ بي مضجَعي فأشتَهي مضجَعَكْ/ وتشتَهي أدمُعي أن تلتَقي أدمُعَكْ
فأسأَلُ الشوقَ أن يثورَ كَي يرجِعَكْ/ تزورُ في غَفوَتي/ أقولُ من لَهْفَتي/ للهِ ما أروَعَك!
وفي كلمة العائلة، ألقتها كريمة الشاعر الآنسة فاتن جورج فرح:
يقولُ الشّاعرُ الإغريقيُّ سوفوكليس: "ليسَ هناكَ فرَحٌ أعظمُ مِنْ فرَحِ الابْنِ بمَجْدِ أبيهِ، ومِن فرَحِ الأبِ بنَجاح ابْنِهِ"، وأنتَ يا أبي مَصدرُ فرَحٍ دائمٍ لنا.
والدنا الحبيب، نقدّمُ لكَ في هذا اليوْمِ الرّائعِ، في عيدِ ميلادِكَ الماسيّ، كلَّ باقاتِ الوُدِّ والحُبِّ والاحترام. كيفَ لا، ونحن هنا لِنحتفيَ بكَ  شاعرًا، أديبًا، فنّانًا، زوْجًا وأبًا! ماذا نقولُ لكَ وعنكَ؟ أنت الّذي ربّيْتَنا على التّواضع، وعلى أنْ لا نُباهِيَ ونُفاخرَ، ونحنُ لا نَستطيعُ أن نتحدّثَ عنكَ إلّا بكلِّ فخْرٍ ومُباهاة! ماذا نَقولُ يا أبي، والكلماتُ تهربُ منّا الكلمات.
ماذا نقولُ لكَ يا مَن لا يَعرفُ طريقَ المَللِ ولا الكَلل، بل تَعمَلُ دونَ تعبٍ أو عجزٍ. يا مَن ضحّيْتَ لأجْلِنا ولإسْعادِنا. يا مَنْ أشبَعْتَنا بدِفْءِ حنانِكَ وحُبِّكَ. يا مَن ربّيْتَنا فأحسَنتَ التّربية، وعلّمتَنا فأحسنتَ التعليم. يا مَن أعطى ولم يَزلْ يُعطي بلا حدود.
إليْكَ يا أبي العزيز نبعثُ باقاتِ حُبٍّ واحترام. نحبُّك. كيف لا، وقد كرّسْتَ حياتَكَ لنا، وبذلتَ ما بوسْعِكَ مِن أجْلِنا، ومِن أجْلِ حياةٍ كريمةٍ، لِترانا اليوْمَ أمامَكَ كِبارًا ناضِجين. ليسَ غريبًا أن يَعتزّ الأبناءُ بأبيهم، ولكن ليسَ كلُّ الأبناءِ مَحظوظينَ بأبٍ مِثلك، أنتَ الحكيمُ المُتواضعُ، ذو القلب الكبيرِ والصّدرِ الواسع، المُتعدّدِ المَواهبِ والمَنافِع، وخيْرِ المَصادرِ والمَراجع.
والدنا العزيز.. كم نفخرُ بك! لا يَسعُنا اليومَ، إلّا أن نتمنّى لكَ العمرَ المديدَ، والمَزيدَ مِنَ الإنجاز والعطاء. فكلُّ التّحيّة والتقدير لك، وكلّ عامٍ وأنتَ بألفِ خير.
بعد أن شكر الشاعر جورج جريس فرح الحضورَ، تلا على مسامِعِهم قصيدَتَيْنِ:
قصيدة سِرْ مُنقَلِبًا/ للشاعر جورج جريس فرح
المنطقُ يبدو مَوروبا/ والباطلُ أصبحَ مَرغوبا/ والعَدْلُ اختلَّ توازنهُ/ والحَقُّ تَبَـدَّدَ مَسْلوبا/ ميزانُ  النَّحْوِ  بهِ  خَلَلٌ فالرَّفْعُ أتانا مَنصوبا
قد كانَ لإنَّ شقيقاتٌ هاجَرْنَ شَمالًا وجَنوبا/ فغدَتْ من ضَعفٍ عاجِزَةً/ أن تأخُذَ  في النَّحوِ نَصيبا/ والممنوعاتُ مِنَ الصَّرفِ ﭐنصرفتْ لا تخشى تأنيبا
المشرِقُ تغشاهُ دَياجٍ تمتدُّ قُرونًا وَحُقوبا/ والمغرِبُ قد أمسى شرقًا يتَوَهَّجُ نورًا ولهيبا/ والأرنَبُ    يَتَبَوَّءُ عَرْشًا والأسَدُ تبَدّى مَركُوبا/ والنَّعجَةُ تقتاتُ لحومًا والذِّئبُ حَشائشَ وعُشُوبا             وتَطِلُّ عَلَينا أَحكامٌ/ تُسمِعُنا في الحُكمِ عَجيبا/ أن تبقى أنتَ بلا وَطَنٍ/ أو تحيا في الوَطَنِ غَريبا/ في  زَمَنٍ أصْبحَ مَعكوسًا/ مَفهومُ العَدْلِ ومَقلوبا/ سِر مُنقَـلِبًا حتى تَبقى فـي نَظَرِ العالَمِ محبوبا
حكايات جدّي/ للشاعر جورج جريس فرح
كانَ جدّي/ مثلَ حاسوبٍ وأكثَرْ/ يحفظُ الأشياءَ عن غَيبٍ/ فلا يحتاجُ دفتَرْ/ يستقي الأخبارَ من أوثقِ مصدَرْ/ ثم يرويها انسيابًا/ ليسَ يعثُرْ
ينبشُ التاريخَ من/ أيامِهِ الأولى البعيدةْ/ ليسَ يقرأ من كتابٍ/ أو جريدَةْ/ فهو لم يذهبْ لكُتّابٍ/ ولَم يُجِدِ القراءَةْ/ وهو درويشٌ وسيمٌ/ بالبساطةِ والبراءَةْ
كانَ جدّي/ يُتقِنُ التفصيلَ بالقولِ الوجيزْ/ كانَ كلُّ الحيِّ مشغوفًا/ بذيَّاكَ العجوزْ/ ضاربِ الأمثالِ حلاّلِ الرموزْ/ لم أزلْ أذكرُ منهم/ جارنا عبدَ العزيزْ/ كانَ هذا/ يستزيدُ الجدَّ أكثر/ وهو يُطري هاتفًا: أللهُ أكبر!
باشتدادِ البرد في كانونْ/ بعدَ وقدِ النارِ في الكانونْ/ كانَ جدّي/ يجمعُ الجيرانَ حولَهْ/ ثمَّ يمضي
قائلاً ما شاءَ قولَهْ.../ يقتفيها من أبي زَيدٍ وعنترْ/ عبرَ هولاكو/ وتاتارٍ وبربَرْ!
ذاتَ يومٍ قالَ: يا عبدَ العزيزْ/ دالتِ الأتراكُ قبلَ الإنجليزْ/ قُل لمن يبكي على أطلالِ خَولَةْ/ صالَ جنكيزخانُ صًولَةْ/ لَم تدُمْ للظُّلمِ دَولَةْ!