الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
"ما يجب أن يُقال"، غونتر غراس...د. حميد لشهب

"ما يجب أن يُقال" هي قصيدة سياسية ملتزمة للكاتب الألماني الشهير غونتر غراس، المتوفى يوم الإثنين 13 أبريل 2015. أحدثت عند نشرها ضجة إعلامية كبيرة واهتم بها كتاب وفيالق من المتخصصين في العلوم الإنسانية، وبالخصوص السياسية منها. ومن طبيعة الحال تصدى لها بالنقد اللوبي الصهيوني، الذي رأى فيها معادية للسامية، وهذا ما حذى بوزير الداخلية الإسرائلي الأسبق إيلي جيشاي Eli Jischai أخذ قرار منع غراس من دخول إسرائيل إذا كان ينوي ذلك. ما يثير الإنتباه في كل ردود الفعل هذه، هو موقف "العصبة اليهودية الأوربية للسلام العادل European Jews for a Just Peace"، التي هنأت غراس على نشره لقصيدته، وعلى الرغم من انتقادها لصمت غراس لسنوات عديدة على ماضيه النازي، فإنها رأت بأنه أصاب الهدف المتوخى من القصيدة، المتمثل في ما نسميه شخصيا: "فض بكارة" طابو انتقاد إسرائيل في ألمانيا بالخصوص، التي ما تزال تعيش تحت ضغط ماضيها النازي الذي كان معاديا لليهود. فقد رأت هذه العصبة بأنه يحق مواجهة سياسة الدولة الإسرائلية، التي تمشي بالأقدام على مبدأ حقوق الإنسان في فلسطين، دون اعتبار المنتقدين معاديين للسامية، فإسرائيل تستعمل هذه التهمة بلا هوادة للتغطية على معاملاتها الوحشية اتجاه الشعب الفلسطيني. للإشارة فإن عدد من اهتم بالقصيدة كمنتوج إبداعي كان جد ضئيل، بالمقارنة مع "التسونامي" الذي أحدثته القصيدة في مضمونها السياسي، وأخذ موقف واضح من تطوير إسرائيل لقدراتها النووية العسكرية بتزكية ومساعذة الغرب. ولعل مرد هذا إلى كون غراتس كان "ساحرا" للكلمات والمفردات والمفاهيم، ومتمكنا بامتياز من تقنيات الكتابة وترويضها، بل تسخيره لها بحبكة وأسلوب لم يسبق مثلهما في تاريخ الأدب الألماني المعاصر. قد يكون أهم نقد لغراس في قصيدته هذه، وهو نقد بقي في الظل، بل غُطي عليه باتهامه بالمعادات للسامية، هو تعرية السياسة الألمانية، التي لا تجد أي حرج لإمداد إسرائيل بالسلاح والعتاد، على الرغم من علمها بأنها تستعمله في مشاريع إبادة جماعية للفلسطينيين كلما أُتيحت لها الفرصة لذلك، تحث ذريعة الدفاع عن النفس. وإذا كان معظم من "رفض" شجاعة غراس في اعتبار الميولات الإسرائلية في إبادة شعوب أخرى، وبالأخص الشعب الفلسطيني، واقعية ولا غبار عليها؛ لا تقل أهمية عن تصريحات المسؤولين الإيرانيين السابقين في الرغبة في "مسح إسرائيل" من خريطة العالم، فالواقع هو أنه يتصدى هنا إلى ما اصطلح عليه بـ "الكيل بمكيالين" للغرب. ذلك أن إسرائيل تمثل بالنسبة للكثير من المؤرخين المعاصرين، ثمرة لما بعد الحركة الكولونيالية الغربية، وتتأكد هذه الأطروحة بالنسبة لهم في الدعم اللامشروط لكل الدول الغربية للسياسات الإسرائلية، كطفل مدلل للسياسة العالمية. هناك انزلاق معين لغراس، شعوري أو لا شعوري، في صرف الإنتباه عن المشكل الحقيقي للسياسة الإسرائيلية اتجاه الفلسطينيين، بتركيزه على الصراع الإسرائيلي الإيراني فيما يخص التسابق على السلاح النووي. وقد انتبه بعض النقاد من الإسرائليين الذين يَدْعُونَ للسلام إلى هذا الأمر، ممن ينتقدون بشدة ضرب إسرائيل لحقوق الإنسان عرض الحائط. لكن لا يجب فهم هذا "كمناورة" تكتيكية لغراس، ذلك أن الموضوعين الرئيسيين اللذان ركزا عليهما هما من جهة سكوت وصمت وتكتتم الغرب عامة وألمانيا خاصة على الجرائم التي تمارسها إسرائيل ضد الإنسانية، ومن جهة أخرى حط الأصبع على سياسة الكيل بمكيالين للغرب اتجاه المسلمين، بل تعزيز القدرات الحربية الإسرائيلية في المنطقة، وهذا ما يخلق عدم توازن في موازين القوى، تستفيد منه إسرائيل في المقام الأول، ومعها الغرب برمته. تجدر الإشارة بأن الجرائد الألمانية رفضت في أول الأمر نشر هذه القصيدة، وهذا أمر انتقده ورفضه بشدة غراتس، لأنه يمس مبدأ حق التعبير، الذي يتشدق به الغرب وينتقد أُمَما أخرى في عدم ممارسته. وبعد رهط من الزمن، وبفضل التقنيات العالية في الإقناع لغراتس، لأنه كان يؤمن بما كان يكتبه، قبلت ثلاثة جرائد بلغات مختلفة نشره في نفس اليوم: Süddeutsche Zeitung و El País و La Repubblica. وتعتبر هذه الجرائد من أكثر الجرائد قراءة في مواطنها ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، اعتقد الكثيرون بأن نشرها في نفس اليوم في ثلاثة جرائد مختلفة كان لتجاوز رياح الرقابة، التي تهب من حين لآخر على القارة الأوروبية، وبالخصوص إذا تعلق الأمر بنصوص تفضح المؤامرات التي يصعب تعدادها بين الغرب وإسرائيل ضد باقي العالم. وكيفما كان الحال، فإن هذه الجرائد الثلاثة قدمت خدمة مرموقة، ليس فقط لشعوبها، بل للعالم أكمله، بإخراج قصيدة غراس هذه من سجنها، محررة إياها من جبروت المؤسسات الإعلامية الغربية ومن الحصار الذي حاول الكثير من الساسة ضربه على غراس قبل وبعد نشره لقصيدته هاته. "لماذا أصمت، أكتم طويلا، ما هو واضح ويمارس بشفافية كناجون، لسنا المسؤولون المباشرون عنه بل في أحسن الأحوال مشاركون فقط.  يَدَّعُون بأنه من حقهم السبق بالضرب، ضربة يمكن أن تمسح الشعب الإيراني الخاضع لأبطال الخُطَبِ والموجه للهتاف المنظم لأن المرء يعتقد بأن أصحاب السلطة فيه يصنعون القنبة الذرية.  لكن، لماذا أمنع نفسي، تسمية ذاك البلد الآخر باسمه، الذي منذ سنوات -حتى وإن كان ذلك سريا- يتوفر على تطور ذري متصاعد خارج السيطرة، لغياب أية مراقبة؟  أشعر بالكتمان العام لهذه الحقائق، الذي خضع له صمتي، ككذبة مُرهقة يقود بالضرورة حالما تُجوُهِل إلى احتمال العقوبة والحكم بـ"المعادات للسامية" المعتاد.  الآن، ولأن بلدي، من حين لآخر يُطلب منه التعويض عن جرائمه القديمة التي ليس لها مثيل، يزود عمليا/تجاريا بحثا إسرائيل بغواصة حربية مرة أخرى، حتى وإن كان المرء، يعلن بخداع ذكي، أنها تعتبر كتعويض، تكمن مهمتها في إمكانية توجيه كل الرؤوس المتفجرة المدمرة إلى المكان حيث لم يُبرهن على وجود ولو قنبلة ذرية واحدة فيه، وبما أن الخوف هو الذي يحاول إثباتها، فإنني أقول ما يجب علي قوله. لكن لماذا صَمتُّ إلى الآن؟ لأنني اعتقدت، بأن أصلي الذي يعاني من شائبة لن تُمسح أبدا يمنع هذه الحقيقة كحقيقة أكيدة وأتوقع هذا من إسرائيل مع من لي ارتباط وأريد أن أبقى مرتبطا.  لماذا أقول هذا الآن فقط، في شيخوختي كشيئ لابد قوله، بأن القنبلة الذرية الإسرائلية، تهدد السلام العالمي الهش؟ لأنه من الضروري قول، ما قد يكون قوله متأخرا غدا، - كألمان متهمون بما فيه الكفاية- قد نصبح مُمَوِّنُون لجريمة يمكن التنبأ بها مسبقا، لذا فإننا مسؤولون كذلك ولا يمكن مسح هذه المسؤولية بأي تبرير معتاد  أعترف: لن أستمر في الصمت، لأنني سئمت من نفاق الغرب وأتمنى أن يتحرر الكثيرون من هذا الصمت ومطالبة مسببي هذا الخطر المعروف الإستغناء عن العنف وفي نفس الوقت التشبث بالمطالبة بمراقبة مستمرة ودون إعاقة للإمكانيات الذرية الإسرائلية وللمنشآت النووية الإيرانية من طرف سلطة دولية بترخيص من حكومتي البلدين  بهذا فقط يمكن للجميع الإسرائليين والفلسطينيين وكل من يعيش في هذه المنطقة المستعمرة من طرف الجنون المعاديان لبعضهما بعمق حل هذا المشكل و مساعدتنا نحن أيضا". المرجع: جريدة الجنوب الألماني Süddeutsche Zeitung، بتاريخ 4 أبريل 2012