الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مقاربة سيكو-إكلينيكية للصوم....د. حميد لشهب
مقاربة سيكو-إكلينيكية للصوم....د. حميد لشهب

علم النفس الإكلينيكي هو العلم الذي يجمع بين العلوم والنظريات والمعرفة السريرية قصد فهم طبيعة النفس الإنسانية، سواء تعلق الأمر بالقلق والضغوط والإضطرابات أو بالأمراض النفسية ومواطن الخلل الوظيفي الناتج عنها. يحاول التخفيف من حدة هذه الإضطرابات طبقا لتقنيات خاصة، والتغلب عليها من خلال الفحص والتشخيص والعلاج. سنحاول تتبع فوائد الصوم في بعده السيكو-إكلينيكي، ليس للدعوة لممارسته من منطق ديني، لهذا المنطق رجاله، بل لفهم ما يحدث في النفس وفي الجسد البشريين عندما يُمارس الصوم بانتظام. ونعني بهذا، ليس فقط في شهر رمضان، بل على امتداد السنة. على الصعيد الجسدي القح، لابد أن نتصور جسمنا كمعمل كيماوي هائل، لا يكف عن الإشتغال والإنتاج إلا عندما يتوقف الجانب الفيزيزلوجي فينا عند الموت. في المجتمعات التي لا تعاني من المجاعة وقلة الموارد الغذائية، يُشحن الجسم يوميا بالغذاء، سواء أكان بحاجة لذلك أم لا. وتفرض الحياة العصرية تغييرا جذريا للعادات الغذائية. يرتكز غذاء اليوم أساسا على الذهنيات والسكريات والأملاح. وهي كلها مواد تُستهلك بكميات يومية مكثفة لا يحتاجها الجسم بالضرورة، بل تخرج فضالات، بعد أن تستقر لمدة معينة في الأمعان. لم يعد المرء يأكل بطلب من الجسد، بل لطغيان الشهوة وتنشيط مراكز بعينها في المخ، تدفع للأكل دون فرامل. وهنا بالضبط يكمن النفس-الجسدي في الصيام. شهوة الأكل، كباقي الشهوات الأخرى، هي نشاط نفسي محظ، محكوم بالطريقة التي نُنشط بها المركز الخاص لهذا الغرض في المخ. كلما لبينا رغبات وطلبات هذا المركز، كلما طالب بالمزيد، على غرار كل مراكز المخ الأخرى. وتتم عملية عقلنة سلوك وعادات تغذيتنا بالسيطرة على نشاط الشهوة هذا، وهو عمل شاق ومضني نفسيا. قد يكون الصيام تمرينا مفيدا للإشتغال على الذات والتحكم في هذه الشهوة، عوض فسح المجال لها لتتحكم فينا. ويدخل هذا في إطار بناء الشخصية للفرد وتقوية مبدأ الإرادة الحرة فيه. لا يعني هذا حرمان النفس، بل عقلنة طريقة استهلاكها، بما لا يتجاوز حدود ما يحتاجه الجسم ليقوم بوظائفه البيولوجية على أحسن وجه. عندما يكون المرء صائما ينخفظ معدل السكر في دمه ويشعر بالتعب والخمول والصداع في الرأس وحتى دوخة وارتعاش في الأطراف. وهذا ما يسبب العصبية الزائدة والهيجان. وفي مثل هذه الحالات، يكون الإنسان مطالبا بإشعال فتيل العقل فيه، ليتحكم في هذا الظرف. وتفتح أمام من ينجح في هذا آفاقا رحبة للسكينة والتأمل ووصول مستوى إدراك من مستوى رفيع. أي أن هناك مراكز في المخ تُنشط للتفكير والإبداع، وتتمظهر هذه التجربة بالخصوص عند المتصوفة والبوذيين مثلا. فالسكر المخزون في الكبد يُنشط، تماما كالدُّهن المودوع تحت الجلد، وبروتينات العضلات والغدد. بيولوجيا يقوم الجسد بتخزين البعض مما يحتاجه، لكن الإنسان مطالب باستهلاك هذا المخزون، لكي لا يتحول لشيئ يضر بصحته، تماما كما نقوم باستعمال ما نحتفظ به من غذاء في حدود مدة معينة. إذا لم تُفرغ الأمعاء كلية من حين لآخر، وتُنظف طبيعيا من طرف الجسم، فإنها تصبح وكر إفرازات لا حصر لها. ولكي تكون عملية التنظيف ناجعة، يكون الماء ضروريا، ولهذا السبب بالضبط تسمح بعض الديانات بشرب الماء أو سوائل أخرى مثل الشاي أثناء الصوم. وظيفة الماء هي حمل هذه الإفرازات والقذف بها خارج الأمعاء، ليتخلص الجسد منها. نحن واعون بأن هذا الأمر "يتناقض" والتصور الإسلامي للصوم، لكن نؤكد على ضرورة الإشارة إليه من الناحية الصحية، وبالخصوص عندما يصوم المرء طوعا في غير رمضان.