الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الصوم عند ابن رشد والغزالي...د.حميد لشهب
الصوم عند ابن رشد والغزالي...د.حميد لشهب

خصص ابن رشد كتابا قائما بذاته للصوم: " بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، عالج فيه مسألة الصوم من الناحية الشرعية الفقهية. وتطرق الغزالي لنفس الموضوع في كتاب: "الإحياء". ويعتبر الكتابان متكاملان، يؤسسان لما يمكن تسميته فلسفة الصوم في الإسلام. كان غرض ابن رشد هو فتح باب الإجتهاد في فرض من فروض الإسلام، في حين استهدف الغزالي ما يمكن تسميته أنطلوجية الصوم. لا يعتبر كل من أقلع عن الأكل والشرب والجماع صائما عند الغزالي، فقد يكون هذا مقدمة للصوم الحقيقي عنده، ألا وهو الكف عن المفطرات المعنوية. تَأَمَّلَ الصوم بطريقة هرمية من ثلاثة طبقات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. يقول بالحرف في الكتاب الآنف الذكر: "أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الصفات الدنية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية [...]". وإذا لم يفصل القول في النوع الأول، فقد أشار بأن من يصوم ويقضي يومه في البحث عن القوت للإفطار، فكأنما لم يصوم؛ لضعف في الإيمان، المتمثل في عدم الثقة في قدرة الله على ضمان رزق كل من هو حي. وحدد شروط الخصوص، أي الصالحين عنده، في ستة أمور: غض البصر، حفظ اللسان، كفُّ السمع، كفُّ بقية الجوارح عن الآثام، عدم استنكار الطعام الحلال وقت الإفطار وأن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء. ويلخص هدف هذه الدرجة من الصوم في قوله: "ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بأخلاق الله عز وجل، والإقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات -بحسب الإمكان- فإنهم منزهون عن الشهوات. [...]. والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم [...]". ويذكرنا ذكر الملائكة في إطار الحديث عن الصوم من طرف الغزالي في ذكرهم من طرف القديس أغسطين عند حديثه في نفس الموضوع. وأما صوم خصوص الخصوص، فهو صوم القلب عن الأفكار الدنيوية وكل ما يشغل عن الله سبحانه. فهم الغزالي للصوم هو في العمق تقديم تطور كرونولوجي للصوم أثناء تطور الحياة الإيمانية للمرء. إذا لم يمر تطور صوم الإنسان في حياته من المرحلتين الأولتين إلى المرحلة الأخيرة، فإنه يبقى في مرحلة حضيضية للصوم. فالبناء الهرمي للصوم عنده لا يتأسس على تصور طبقي للمجتمع، سواء اقتصاديا أو عرقيا أو على مستوى تحصيل العلم والفكر؛ بل على تطور أنطولوجي داخلي للإنسان في علاقته بالإيمان. فالصوم كإقلاع عن شهوات الجسم والنفس هو شرط ضروري للوصول إلى النوعين الآخرين له، لكن ليس من الإيمان في شيئ حصره في هذه المرتبة فقط. ووصول المرتبة الثالثة من الصوم، لا ينحصر على فئة مثقفة بعينها، كما قد يفهم المرء، بل مُتاح لكل شخص، شريطة تطوره في إيمانه وتوفر علماء دين أكفاء، لا يختزلون ملتهم في مظاهرها، بل يذهبون لعمقها الأنطلوجي. وهذا ما ذهب إليه ابن رشد، أكثر من الغزالي الذي قدم وصفات جاهزة، لأن الأول اعتنى بالصوم في إطاره العقائدي وترك للمؤمن باب الإجتهاد مفتوحا على مصراعيه، لاستعمال عقله وتطوير إيمانه، طبقا لهذا الإستعمال، وليس اعتمادا على السمع والنقل. مشكل عدم تطور إيمان عامة المسلمين، هو مشكل عدم تطور الكثير من مفكري الإسلام في فهم عقيدتهم.