الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بنميلود... جائحة كتابية!
بنميلود... جائحة كتابية!

حوار أجراه الزميل هاني نديم

كلما أنهيتُ قراءة نصٍ لمحمد بنميلود؛ ومع قراءتي لآخر حرف منه، يتملّكني الشعور أن بنميلود في اللحظة الأخيرة ـ دفع هذا النص للنشر عوضاً عن حرقه بولاعةٍ مع نوبة ضحكٍ هستيرية!

هذا تماماً ما يجعلني أحترق عوضاً عن تلك الورقة أو أضحك بصوتٍ عالٍ كأي مواطن مهووس، مسكين في هذه الأمة المهووسة، المسكينة.

لا أعرف كيف أدخل مناخه الكتابي المتوحش بمزاجي الهادئ هذا، إنها مهمة صعبة، وشاقة! هو يقوّر عين ميتٍ من جمجمةٍ، وأنا أتوضأ بالبهجة وأنا أراقبه! كلانا قتلة بشكل أو بآخر!، إنه أمر في منتهى الغرابة، نصوصه المتوحشة كذئبٍ جريح لا تضايقني ولا تجعلني مذعوراً، ربما لأنها تجاوزت بحدّتها مستويات الخوف الاعتيادي والصدمات الكتابية المعروفة، فأصل لنهايتها وأنا باردٌ مثل ثلجٍ وكأني أقرأ من ثلاجة الموتى!.

وإن كان بعض الشعر ينثال، فإن بعضه ينهال، هذا هو نص محمد بنميلود تحديداً، وكأنه فقط يرفع البحصة من أمام الصخرة التي تسند جرف الجبل ليهوي كله على رؤوسنا، دفعة واحدة. قاضية.

ومع ذلك يكتب بنميلود القصة القصيرة بشكل مبهر، كما يكتب في كل شيء ويعيد تشكيله كما يحلو له، دون أن يعترض أحد على هذا الكمّ من الجمال.

قال لي محمد بنمليود: "يثير اسمي - بالنسبة لي- بعض الغرابة. معناه وطريقة نطقه، أقصد هنا الاسم العائلي: بنميلود؛ بن لصيقة بـ ميلود، وميلود لا أجد لها معنى. أيضا هذا الاسم شائع أكثر في الجزائر. في المغرب قبل الاستقلال لم يكن هناك كنّاش حالة مدنية ولا أوراق ثبوتية كما هو الآن، بعد الاستقلال طُلب من الأُسر إنجاز تلك الأوراق واختيار اسم عائلي، أغلب الأسر اختارت أسماء عائلية غريبة كـ: برنوص، برادة، البطيوي، لعلج، مروقة، الخ 'كأن الأسماء ذات المعنى لم تكن قد اخترعت بعد'  أعمامي اختاروا بنميلود، قالوا لأن اسم أحد أجدادي كان هو ميلود، ماذا تعني ميلود؟ لا أحد يدري. ربما هي إحالة على يوم ذكرى عيد المولد النبوي، لأن المغاربة يسمون تلك الذكرى: عيد الْمِيلُودْ. بالتالي يصير اسمي: محمد، اسم النبي، واسمي العائلي إحالة على المولد النبوي".

"لم يفتحوا لنا الأبواب حين طرقناها،

منعونا من الدخول.

بقينا في العراء كل هذه السنين، إلى درجة أن العراء أصبح ملكا لنا.

والآن،

بعد أن فتحوا الأبواب

إننا نمتنع عن الدخول،

ونمنعهم من الخروج إلى العراء!"

قلت له: نصوصك حادة كنصل السيف، تقطع كل ما تراه، ما سر هذه الحدة؟، فأجاب: هناك حدة، لا أنكر ذلك. في أغلب الشعر المتعارف عليه أو في المعنى المتعارف عليه للشعر أنه بعيد عن تلك الحدة قريب فقط من الزهور والزقزقات هذا أيضا قد يكون صحيحا. لكن هناك بعض التجارب الشعرية الحادة، وبعض التعريفات للشعر تجره في اتجاه تلك الحدة والتوتر والصدامية أيضا، ربما ذلك راجع لاختلاف النفسيات والأمزجة بالدرجة الأولى، يعني أنها حدة متأصلة، وأيضا هي نتيجة لوعي حاد بالعالم، الكثير من الاستدعاء لليقظة والكثير من الحيطة والحذر والريبة والشك أثناء الحياة 'العيش اليومي' وأثناء التفكير وأثناء القراءة وبالتالي أيضا أثناء الكتابة. أعيش حياة حادة ومتوترة حتى وإن بدت في ظاهرها هادئة ومنعزلة خصوصا في السنوات الأخيرة لكنها في أحيان كثيرة وعلى فترات متفرقة تصير كثيفة جداً وغائصة في الزحام والمغامرة والليل والمقامرة وقريبة من الحافة وخطيرة في وقت قصير. أحد الشعراء المغاربة هو سعيد الباز، سبق أن اختار أربعة شعراء مغاربة كتب عنهم، كنت ضمنهم، سماهم: شعراء الزاوية الحادة من العالم".

كنتُ قد كتبت عن موجة شعراء غاضبة من الوطن العربي، أسميتها في مقال قديم بذئاب الأمة، من بينهم محمد الهادي الجزيري من تونس وفتحي أبو النصر من اليمن وسمر دياب من لبنان وغيرهم، وكان المحور الجامع بين هؤلاء، هو تقديم الهامش إلى المتن، وعليه، هل أنت منهم؟ يجيب بنميلود:" ذئاب الأمة توصيف رائع، جيل غاضب ومفترس، أعتقد أني أنتمي لكل من يكتب قصائد ذئبية من الكتّاب العرب وفي العالم الذين ذكرتهم وآخرون كثيرون، قصائد تريد أن تكون غاضبة ومفترسة وفي نفس الوقت بفروٍ ناعم وعيون حزينة وبالكثير من الشهامة المكسورة. كتبت قصائد ونصوص كثيرة أتقمص فيها روح ذلك الذئب الذي تقصد. في أحد النصوص كتبت: أتأمل القمر بعيني الصغيرتين الذئبيتين منتظراً برقاً يشق سماء الصيف الخالية من الغمام، جاهزاً في زحمة ليل المدينة للعواء، كما أنني أجزم أنك أحد تلك الذئاب. أما عن الهامش، ففي حقيقة الأمر لدي تعريف خاص جدا لمعنى الهامش، قد يتقاطع هذا التعريف أو يتطابق مع تعريفات البعض له، لكنه دون شك ليس التعريف العام والمتعارف عليه خصوصاً في المغرب وربما في أغلب الدول العربية. هنا في المغرب وجدت التعريف الشائع للهامش هو ما يفرض ويمارس على الكاتب من إقصاء وتهميش من طرف الدولة بمؤسساتها، يعني الهامش ليس اختياراً بل هو نتيجة قهرية تمارسها السلطة على المبدع، وهو أي الهامش وضع غير لائق ومثير للشفقة ومرتبط بالفقر والجوع والرصيف وتدخين السجائر الرديئة والسكر بشراب رخيص الخ.. وعلى المبدع النضال للخروج منه!. ماذا يكون ذلك الخروج؟ يكون هو انتزاع ذلك المبدع لاعتراف الدولة بمؤسساتها به، وماذا يعني ذلك الاعتراف؟ يعني أنه صار جزءا بشكل مباشر أو غير مباشر من الدولة، بالتالي لم يعد مهمشا. تجارب شعرية كثيرة في المغرب مثلت الهامش بهذه الطريقة وبهذا الوعي القاصر وكتبت منه شاكية باكية مهاجِمة، ثم انتهت أخيرا تلك النهاية المناقضة للهامش، لم تعد مهمشة ولا مظلومة ولا مستضعفة، صارت في الطرف الآخر، من النخبة، عبرت النهر ونشفت أقدامها، صاروا من موظفي وزارة الثقافة واتحاد الكتاب وبيت الشعر وأعضاء في أحزاب كلاسيكية تتناوب على السلطة وعلى الاستفادة من سخاء النظام وهذه المؤسسات كلها متحكم فيها بالكامل من طرف الدولة الخ...بالنسبة لي الهامش هو الحرية والقوة والاستقلالية الوحيدة للمبدع، باعتبار المبدع في حد ذاته سلطة ضد السلطة. إذن الهامش ليس تكتيكاً بل وعياً بالواقع وبروح الفن الكونية الكبيرة ونظرة استراتيجية غير قابلة للنقاش أو للتفاوض يجب أن تتسع باتساع تجربة الكاتب وتتطور مع الوقت وتكتسب أسلحتها وليس أن تتقلص. عليك أن تكتب بحرية وتعبر بحرية وأن تملك موقفا نقديا صارما من العالم لتنتج تجربة إبداعية كبيرة وذات قيمة حقيقية. هذا يستدعي معرفة بالتاريخ وبالعلوم والمعارف والثورات الإنسانية معرفة نقدية وليس فقط معرفة بالأدب وأنك واع عبر كل ذلك بالسياسة أيضا وبألاعيبها، وأنك تنتمي لدول متخلفة ديكتاتورية ترى في الابداع والمبدعين إما أداة لخدمتها تستعملهم  كما شاءت وبأقنعة مختلفة لصناعة واجهة ثقافية لها، وإما ترى فيهم أعداء لها وصراصير مزعجة. عليك أن تختار بمحض إرادتك ووعيك موقعك، أن تكون موظفا أو أن تكون مبدعا، وهو أيضا على صعيد أوسع اختيار فلسفي. حتى في دولة غربية (ديموقراطية) عليك اختيار الهامش، لأن دور المبدع 'حسب هذا التعريف للهامش' هو المطالبة المستمرة بحرية أكبر والضغط المستمر والنقد المستمر والحرية المستمرة والبحث عن نقائص الدولة لتعريتها وليس مدح مزاياها، قد لا يظهر ذلك بالضرورة في النصوص التي تكتب لأن تلك النصوص ليس مطلوبا منها أن تصير مباشرة وركيكة أو شبيهة بخطابات الأحزاب، لكن مواقف المبدع يجب أن تكون واضحة ومباشرة وواعية وهذا هو ما يعطي لإبداعه معنى سياسيا. إذا كان المبدع -كما أراه- يجب أن يكون في الطرف النقيض من السلطة، إذا ماذا يريد هذا المبدع؟ لا يريد شيئا محددا، يريد أن يصرخ وأن يحتج وأن يقول لا وأن يكتب بحرية وأن يتحول جماهيريا إلى سلطة مضادة للسلطة، سلطة اللاسلطة، سلطة 'الفوضى' ضد القانون والحرية ضد الخطوط الحمراء، ضميرا للإنسان، ومهما كانت هذه الخلاصة فضفاضة فهي رغم ذلك المكان الأنسب للمبدع وللإبداع، وهي مصدر قوة وليست مصدر ضعف، شساعة وليست ضيقا، جبلا عاليا، وليست رصيفا. طبعا يمتلك الذين يرفضون هذا التعريف والداعون للإبداع من داخل الدولة وبالتنسيق معها، طبعا يمتلكون مبرراتهم المقنعة للبعض، لكنها ليست مقنعة بالنسبة لي".

 

كان أول احتكاك حقيقي لمحمد بنميلود بالكتّاب وبالكتابة عبر ملحق ثقافي في جريدة الميثاق الوطني المغربية والذي كان يستقطب أغلب الشباب المغربي المبدع مهما كانت محاولاتهم الأولى متواضعة، كان يشرف عليه شاعر وتشكيلي عراقي اسمه فراس عبد المجيد وأسس بنميلود مع أصدقائه نشرة شعرية خاصة أسموها "خارج السياق".

ولم يكن بنميلود ينشر قصائده في الصحف والمجلات آنذاك، اللهم إلا أن أرسلها أصدقاؤه عنه، بعدها نشر قصيدة في مجلة الآداب اللبنانية وأخرى بالزمان اللندنية. بعد ذلك بدأت نصوص بنميلود تسري في المجلات والنشرات الثقافية كجائحة كتابية جديدة، فنشر في أخبار الأدب والقدس وكيكا، حتى جاء الفيس بوك الذي أصبح جريدته ونشرته اليومية المتابعة من الآلاف، يقول بنمليود: "أعدت النظر في كل ما أكتب وفي معنى الكتابة وجدواها. اخترت الكتابة والتواصل عبر الفيسبوك بوعيٍ مباشر ودون رقابة أو وساطة. الآن أيضاً، أصبحت ميالا أكثر للكتابة بلغة أبسط وأقرب من الواقع ومن الذات والتجربة الحياتية أكثر من قربها من التجارب الإبداعية الأخرى أو من جزالة اللغة، وصدامية. أكتب بلغة اليومي والمعتاد، أوظف كلمات ذات حمولة سلبية جمالياً، متلاشيات وغبار وأشياء منسية ومنسييّن، وهذا محفوف كثيرا بالمخاطر والمنزلقات وسوء الفهم والأحكام المسبقة، ومشحون مسبقا بحمولة مكرورة. الكتابة بلغة بسيطة قد تعني "فلكرة" الإبداع وتحويله إلى بضاعة شعبوية هذا ما أرفضه وأتجنبه، في المقابل أعتقد أني أضيف شيئا يحتاج عيونا ناقدة ومبدعة ملمة بحركية الإبداع لتلاحظه وترى فيه تميزا ما واختلافا عن السائد".

 

أتساءل دوماً بيني وبين نفسي عن التكوين الأدبي واللفظي لمن أحب، سألت بنميلود عن ذلك، فأجاب: "قراءاتي جد متنوعة ومختلفة ومتناقضة، أقرأ كثيرا التاريخ، والبيولوجيا والأنثروبولوجيا والفيزياء. في الأدب أحب قراءة الرواية أكثر من قراءة الشعر، أعشق هدوء الأدب الآسيوي في الرواية كما في الهايكو والزن، لكن أعشق أكثر تسونامي الأدب الأمريكي اللقيط، المتوتر والعنيف والحاد، البعيد ما أمكن عن التأملات الهلامية وعن الميتافيزيقا، الناظر بيقظة غريبة إلى الواقع كما هو. أول رواية لهنري ميلر لم أستطع إكمالها، كانت بالنسبة لي كالأوفر دوز التي لم أعتد تعاطيها، بعد ذلك اعتدت على الجرعات الزائدة وصارت سقفا لقراءاتي، بوكفسكي في الشعر لكن بالنسبة لي الأخطر من بوكوفسكي هو وليام كارلوس وليامز؛ الأدب الروسي أيضا  ثم روائيين وشعراء كثر من العالم ومن العالم العربي أغلبهم منفيون إما في الجغرافيا وإما خلف خريطة الأدب والشعر المتعارف عليه وإما فيهما معا".

بنميلود مدافع شرس عن الوهم، عن المنسي والمهمل، هل يؤمن بالأبطال والبطولة؟ من هم أبطاله؟ يقول: "بشكل عام لا أومن لا بالبطولة ولا بالأبطال، لذلك أصنع أبطالاً ضد الأبطال، وأمدح أشخاصاً بعيدين كل البعد عن البطولة، أحسهم بلذة أبطالا ضد البطولة، أمدح أجدادي الفقراء ضد الملوك والسلاطين والأبطال الأسطوريين الذين صاروا أبطالاً فقط بفضل اللغة وأكاذيبها. أمدح الرجل نصف الأحمق الذي ينام خلف الشاطئ الصخري وليس لديه عائلة ولا مستقبل ولا أي شيء ولا حتى اسم، أحب أن أصنع منه بطلاً وهمياً. أفضل أن تكون البطولة لأجدادي الذين أمدحهم بتصوف ولأصدقائي الذين غرقوا في النهر على أن تكون تلك البطولة للأنذال ولذوي الدماء الزرقاء، إنها نوع من المساواة الطبقية (بنظرة واقعية للعالم وللصراع بين طبقاته) أن نمدح المجانين والدراويش والفوضويين واليائسين ونصنع منهم أبطالا قوميين، أبطالا يمثلوننا، ويمثلون حياتنا البئيسة، حياة الأغلبية، أبطالنا من لحمنا ودمنا وليسو أسيادا علينا، أبطالا مهزومين. أتذكر هنا عنوانا مؤثرا لكتاب عن بعض اليساريين المغاربة في السبعينيات نكل بهم النظام في الإعدامات والسجون أغلبهم من الطلبة: "أبطال بلا مجد".

 

كان لا بد لي، ولا أعرف لماذا، أن أسأل بنميلود عن محمد شكري الذي قال عنه: "محمد شكري في نظري هو الكاتب المغربي الوحيد الذي استطاع كتابة رواية بالمعنى العالمي، ذلك العصامي السكير القادم من المجاعة ومن دور الدعارة لقد فعلها. خلع ثيابه كاملة وخلع معها جلده أيضا ليكتب دون قناع، أدبا إنسانيا رفيعا غير محدد بالخطوط الأخلاقوية، في زمن كان فيه الأدب المغربي مازال مشغولا بالصرف والتحويل كما هو اليوم منشغل بالتجريب. في الخبز الحافي من الصعب ألا تجرف القارئ كثافة المشاعر الإنسانية العميقة، العارية، وغير المنمقة، بلغة متقشفة ومتواطئة ولا تبرر شيئا، تجعلك مستعدا أنت أيضا لارتكاب جريمة أكبر، جريمة الكتابة بحد السكين. محمد شكري محمد زفزاف ومحمد خير الدين؛ هذا الثلاثي هو مدرستي الأولى.".

 

محمد بنميلود ختم هذا الحوار بنسفه كعادته! عندما سألته: في الخلاصة... ماذا تريد؟ فأجاب: "أريد أن أصير شاعراً.. وضحك".

تباً يا رجل..لولا أنك شاعر يخطف الأنفاس ما تعذبت وراءك ستة أشهر لأكتب عنك، فأنا مثلك ضارٍ ومنهك ولا وقت لدي للتربيت..

على فكرة! يقول بنميلود:

"ربيّت حيوانات كثيرة ضارية داخلي، أطعمتها من خبزي، ومن حنوّي، ومسدت فراءها الناعم بيدي، والآن، ها قد شبّت كلها، وشخت أنا، وصار لزاما علي أن أطلقها لتذهب إلى الغابة، وأبقى وحيدا بين الشراك والوبر والأقفاص".