الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اعترافات تاء...ميساء البشيتي
اعترافات تاء...ميساء البشيتي

 في الماضي كنتُ أجري كل حوارتي مع مرآتي .. أنا أتكلم وهي تصغي .. لا تجادلني .. لا تعترض على حرف مما أخبرها به  .. لا توجه إليَّ النصيحة الهشة  .. لا تثير الفزع من حولي إن غمزني القمر بطرف عينه .. لا ترسم إليَّ طريق العودة مساءً .. لا تحصي عدد التنهيدات المسموح بها في حالات العشق المستعصية وتومىء برأسها إن كنتُ على حافة انزلاق عشقي مباغت .. لذلك كنت أحب مرآتي .. وأحب حوارتي معها .

لكن بعد أن غزا الشيب خصلات عمري .. وعلت التجاعيد ملامح يأسي .. أخذت أنأى بنفسي عن حديث المرآة .. أصبحت أرى فيها وجهاً غير وجهي .. يستوقفني عند كل نفس .. يقطع حبل أفكاري فتسقط أرضاً .. يشتت سعيها بين عقلي وقلبي ، يبعثرها على موائد الخريف ، وحين أستجمعها ثانية أجدها قد فقدت الكثير من نضارتها وملامحها الصيفية .

هجرت مرآتي .. شكوتها بحرقة لفنجان القهوة .. رشفت منه سنوات عمري ونقشت مكانها رسوماً سرية .. في الربع الأول من قعر الفنجان وجه القمر .. في الربع الثاني أبياتاً من الغزل .. في الربع الثالث خاتم سليمان .. في الربع الأخير تنهيدات بلقيس .. لكن تلاشى كل شيء حين أرسلت السماء قصائدَ من مطر.

ساقني الحديث إلى رزمة من الورق .. سمحت للقلم أن يرسمني بألف صورة .. صوراً لم يغزها المشيب .. لم تحتلها التجاعيد .. لم تُذب ملامحها شمس تشرين ، أو تبعثر شرايين الحظ فيها رياح كانون .

أصبحت الأوراق رفيقتي الجديدة .. الوحيدة .. لم تغدر بي أو تَخُني .. لذا كانت أحاديثي معها مطولة ، صوري نضرة ، تنهيداتي حيَّة ، اعترافاتي سرِّية  فالأوراق تحفظ السرُّ في باطن أوردتها .. بينما تبوح به المرآة لأول عابر سبيل .

اكتفيت بالورق .. لم أبحث عن سماء أخرى أحلق فيها .. ولا عن فضاء آخر أهيم فيه على وجهي .. ولا عن غابة من الأساطير أركض فيها علّني أعثر على ثوب ليلى .. ولا عن محطات قطار أبيع في ساحاتها سنابل القمح .

 لم يخطر ببالي يوماً أنني بحاجة إلى  حوارٍ آخر .. مع تاء أخرى .. خريفية الملامح ربما .. أو من بقايا صيف قائظ .. تكون إحدى شبيهاتي الأربعين .. تبحث عني منذ عهد أفلاطون .. وأنا أنتظرها منذ قرون تلت على أطلال آشور وبابل .. حتى التقيتها قابعة في إحدى المجرات الورقية .. تتابع أخبار الفلك وحديث النجوم .. ترسم خطوطاً ومنحنيات لكن ليست كتلك التي قي قعر الفنجان ..لا تتنبأ بالغد لكنها تروي الأمس كشهرزاد .. كنتُ في انتظارها .. فكانت اعترافات تاء لتاء أخرى .. ليست من عالم الورق .