السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بعض تجليات وجوه أردوغان...د. حميد لشهب
بعض تجليات وجوه أردوغان...د. حميد لشهب

 عقدة النقص

 قضى أردوغان وزوجته عام 2008 عطلة صيفية في بودروم مع عائلة الأسد. سافر الوزير الأول التركي أنذاك رفقة زوجته أمينة للمطار لإحضار عائلة الأسد شخصيا، وهناك صور كثيرة تثبت هذا الأمر. وعندما يمعن المرء النظر جيدا في الصور، يلاحظ كيف كان الأسد يعمل على استقامة ظهره باستمرار. على العكس من هذا فقد كان أردوغان يلمس الأسد باستمرار على ذراعه أو كتفه، وكأن الشخص المُستقبَل لم يكن هو الرئيس السوري، بل لربما صهرا أو ابن عم أردوغان، الذي كان يرغب في فرحته بلقائه بضمه إلى صدره ولربما تقبيلة على خديه. كانت أسماء الأسد تبتسم بحرج خفيف، لكنها كانت كالعادة جميلة وأنيقة. كانت ترتدي سروالا يغطي الركبة وقميصا أسودا قصيرا. أما أمينة أردوغان فكانت واضعة على رأسها غطاء رأس وجاكيت وتنورة من ثوب غليض أبيض. هبت ريح، فاتحة جاكيتها ومتلاعبة بتنورتها، التي فُتحت كذلك قليلا وفسحت المجال لرؤية بطنها.

 

أكيد أن أردوغان وزوجته وكذا المستشارين الذين شاهدوا معيتهم صور هذا الإستقبال فيما بعد لم يكونوا عُميان: بجانب أناقة عائلة الأسد، كان منظر عائلة أردوغان طيبا، لكن صعب المراس وريفي/بدوي. بالتأكيد أثرت أناقة عائلة الأسد سلبيا على أمينة أردوغان وزوجها وعلى فرحة العطلة معا في بودروم. لم يكن ينقص أردوغان وهو وزيرا أولا في ذلك الوقت أي اعتراف سياسي دولي. ما كان ينقصه هو اعتراف الطبقة التركية العليا به، التي كانت تتهكم بفرحة عارمة على أردوغان وزوجته. لم تكن هذه الطبقة تدعو عائلة أردوغان لحفلاتها، إلا إذا كانت ترغب في قضاء حاجة ما. وبهذا لم تكن صداقته مع الأسد الأنيق واعدة سياسيا فقط، لكنها كانت أيضا حظا لكي يظهر للطبقة العليا في تركيا مكانته.

 

محاولة إلباس الباطل جلباب الحق

 

عندما بدأت الأزمة السورية عام 2011، ظهر وكأن أردوغان كان يدافع على الأسد ونظام حكمه، لكنه سرعان ما انقلب على رأيه هذا، وهو الذي كان يقدم نفسه كـ "الأخ الكبير للأسد" ونصب نفسه كمُصالح في هذه الأزمة. ففي يوم 21 يونيو 2012 أعلنت وسائل الإعلام السورية بأن طيار سوري (حسن مرعي الحمادة) هرب بطائرة ميغ 21 إلى الأردن. قبلها لاحظت المخابرات الجوية السورية لقاء الطيار حسن مرعي الحمادة مع عملاء للمخابرات الأردنية، التي سبق لها أن ابتزت هذا الطيار بمقطع فيديو عن سهرة حميمة مع امرأة في دمشق، اتضح في أخرى تقديم عدة عروض له من مال وسفر إلى دولة أوروبية مع عائلته إلخ. كان المسؤولون المخبراتيين الأردنيين يشتغلون وينسقون مع زملاء أتراك وإسرائليين لـ "عملية انشقاق وهمي لطائرات مقاتلة سورية"، لقصف الدفاع الجوي السوري في اللاذقية، كتمهيد لفرض منطقة حظر جوي وبعدها منطقة عازلة على الحدود السورية التركية داخل الأراضي السورية بعمق 10- 15 كيلومتر، لشن هجمات على الداخل السوري انطلاقاً من هذه المنطقة. كان الهدف من تهريب هذه الطائرة السورية للأردن هو الحصول على نظام التشفير الخاص بالطائرات السورية، الذي يتيح لكل طائرة تحمله مهما كان نوعها، إمكانية التجول ضمن نطاق رصد الرادار السوري على أنها طائرة سورية.

عند وصول الطائرة إلى مطار عمان، تم تصوريها من كل الجوانب وأرسلت الفيديوهات مباشرة إلى استوديوهات قناتي الجزيرة والعربية لتعرضهما كـ "انشقاق طيارين سوريين بطائرتين مقاتلتين وقصف أهداف عسكرية للنظام ثم اللجوء إلى تركيا". وأعدت التقارير العسكرية والمقابلات التلفزيونية والتحليلات السياسية المرتبطة بالموضوع قبلا لهذا "الحدث الإعلامي الكبير".

سارع خبراء صهاينة لفك نظام التشفير الخاص بالطائرة وأخذ النظام إلى تل أبيب، لاستنساخ نظام آخر منه، قبل أن يرسلوه إلى تركيا على متن طائرة حربية إسرائيلية، نزلت أنذاك في قاعدة "أنجرليك التركية"، حيث تم تركيب النظامين على مقاتلتين تركيتين، وبدأت العملية. ظهرت الطائرتان التركيتان على شاشات الرادار السوري وكأنهما مقاتلتين سوريتين عندما اقتربتا أكثر من الشواطئ السورية. وفجأة بدأ إطلاق النار عليهما من طرف المضادات السورية، أسقطت على إثرها واحدة في البحر وأصيبت الثانية وعادت إلى تركيا.

 

من وجهة نظر تحليل نفسية، يتضح من خلال هذا الحادث بأن التركبة النفسية لأردوغان غير سوية، بل محكومة بميكانيزم الحقد الدفين اتجاه الأخ/العدو أو العدو/الصديق. فقد قدم تركيا (نفسه) كضحية، مرغذا ومزبدا ضد الأسد، متوعدا ومهددا، دون أن يترك الأسباب الحقيقية لهذا الحدث المرور إلى مستوى الوعي. يقول في طلعة له في الجزيرة: "إن صداقة تركيا مهمة جدا، لكن يجب أن يعلم الكل بأن غضب تركيا قد يكون عظيما".

 

روح السيطرة والإنتقام

 

سليمان شاه ابن قتلمش، جد مؤسس الدولة العثمانية، السلطان عثمان الأول بن أرطغرل، كان رئيسا لعشيرة صغيرة تسمى "قايا"، نزحت عام 1231 غرباً نحو سوريا، هربا من غزوات المغول. مات على إثرها غرقا في مياه نهر الفرات قرب قلعة جعبر في سوريا، ولم يعثر على جثته. أقيم له قبرا قرب منحدرات قلعة جعبر الغربية.

 

عندما احتل السلطان سليم الأول سوريا، أقام قبراً (ضريحا) لائقاً بجدّه. وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، تم تجديده وتوسيع المنطقة المحيطة به. وبعد قيام الدولة التركية الحديثة، وبدء الانتداب الفرنسي على سوريا، وبموجب اتفاقية بين تركيا وفرنسا أنذاك تم الاتفاق على أن يبقى ضريح سليمان شاه تحت السيادة التركية، إلا أن الأرض الموجود فيها تبقى تحت السيادة السورية.

 

كان هذا الضريح يقع في في محافظة الرقة حيث يتواجد تنظيم "داعش"، الذي قام بتدمير المساجد والكنائس والأضرحة هنالك، لكنه لم يتعرض لهذا الضريح. وعلى الرغم من أن عناصر "داعش" كانوا يزودون الجنود بالطعام والماء خلال فترة حصارهم التي استمرت نحو 6 أشهر بسبب الحرب في سوريا، فإن البرلمان التركي صوت في أكتوبر 2014 لتفويض الجيش بإجراء عمليات عسكرية ضد مسلحي تنظيم الدولة بسوريا والعراق.

 

وفي يوم 22 فبراير 2015 اقتحمت القوات التركية الحدود السورية في اتجاه الضريح ونقلته إلى تركيا "مؤقتا" قبل أن تعيد دفنه في سوريا مجددا على بعد أقل من 200 متر على الحدود السورية. وصرح جهاز الأركان الحربية التركية في بيان له بأنه: "تم نقل الأمانات التي تحمل قيمة عالية والتي تركها لنا أجدادنا، من ضريح سليمان شاه (في حلب)، الذي يعتبر أرضا تركية وفقا للمعاهدات الدولية، إلى تركيا بشكل مؤقت، تمهيدا لنقلها إلى قرية آشمة في سوريا ...". في نفس السياق قال الناطق بلسان الخارجية التركية: "لا يخفى على أحد أن ضريح سليمان شاه الذي يقع ضمن الأراضي السورية والمخفر التابع له يعد أرضا تركية وفقا للاتفاقيات المعقودة في إطار القوانين الدولية". وفي شهر ماي 2015 عبر رئيس الوزراء التركي أوغلو الحدود إلى سوريا، زار خلالها هذا الضريح.

 

ثلاثة سنوات بعد إحباط "عملية انشقاق وهمي لطائرات مقاتلة سورية" من طرف السوريين، أسقطت مقاتلات تركية طائرة عسكرية سورية في ماي 2015، بتهمة انتهاكها للمجال الجوي التركي، على الرغم من أن أن الطائرة أُسقطت فوق الأراضي السورية، في منطقة كردوش في ريف إدلب شمالي سوريا. والذريعة الوحيدة التي قدمتها تركيا لقيامها بهذه العملية هو تأكيدها بأنها تراقب الوضع جنوبي البلاد (شمال سوريا) عن كثب، وخائفة من تداعيات الصراع المحتدم في البلد الجار وتأثيره على الأوضاع في تركيا.

 

للحدثين علاقة وطيدة على مستوى الرمز التحليل نفسي لأردوغان. فنقل الضريح بتدخل عسكري يوحي بما فيه الكفاية بأن هناك روح مسيطرة، مليئة بالرغبة في الإنتقام، ويتعزز هذا الطرح بزيارة الوزير الأول التركي للضريح. الرسالة الواضحة من العملية هي البرهنة للسوريين بأن تركيا، ليست فقط الأقوى، باقتحامها للأراضي السورية وخروجها منها متى أرادت، بل بامتلاكها لذاكرة هدامة لا تنسى، ومن تم إسقاط المقاتلة السورية.

 

تمظهرات العدوانية اللفظية

ما يلاحظ هو أن أردوغان عدواني في كلامه، وبالخصوص عندما يشعر بأنه مستهدف شخصيا. يصبح بمثابة مدفع خطابي ويتفوه بأشياء لا تقبل أية اعتذارات، تماما كما يفعل المراهق عندما تنتابه نوبة من الغضب. ويسمي الأتراك حالات من هذا القبيل "ديليكانلي" (الدم الأوهس). والواقع أن أردوغان يُلقب بهذا اللقب من طرف منتقديه، عندما يفقد السيطرة على سلوكه الكلامي، ولنتذكر ما قام به في دافوس عندما التجأ إلى إيهام العالم بأنه "محام" للفلسطينيين بالهجوم على الوزير الأول الإسرائيلي أو كما حدث في فيينا عندما أهان برلمانية فرنسية، إلى درجة أن الدموع غزت مقلتيها. لنتذكر كذلك كيف سب مرة الصحافيين في إسطنبول، واستعمل حتى يداه ضربا وشتما.

 

لا يعرف المرء بالضبط لأي سبب يزبد ويرغد ويفقد السيطرة على نفسه، فمرة بسبب إحساسه بأن المرء "خان" الصداقة، وأخرى لأنه يشعر بأنه مستهدف في تدينه وثالثة لأنه يعتبر ذلك مسا بشرفه/كرامته. يشعر كل مرة بأن المرء خانه وأخذ منه أهم شيئ، بل أن المرء لا يأخذه محل الجد حتى. نصب نفسه في فترة ما سمي "الربيع العربي" كمعلم اتجاه "الثوار" العرب، مؤكدا بأنه بإمكانهم تحديث مجتمعاتهم دون خيانة دينهم، وبهذا يحاول تقديم نفسه كمثال يُقتدى، ولعل هذا ما ساهم في "شهرته" في الدول العربية أنذاك.

ومع ذلك يبقى "قاسم بَسالي"، كما يقول ديبلوسييه عندما يبحثون له عن أعدار لسلوكه. فقاسم باسا هو حي قديم في القرن الذهبي في ميناء إسطنبول، حيث وُلد أردوغان عام 1954، لأب بحار. في هذا الحي تعلم أن يكون أردوغان الذي لا يجب على المرء إغضابه. في هذا الحي الشعبي، حيث يمارس العنف يوميا بين الشباب، وحتى الراشدين، وتسود الجريمة في شكل سرقات وسطو، ترعرع أردوغان وخُتم سلوكه وتعلم فرض نفسه بالقوة الجسدية أو العنف اللفظي. في هذا الحي يعيش ما يسميه المرء في عين المكان: "الأتراك السود"، أي المنتمين إلى أسفل السلم الإجتماعي: أناس بسيطون، نازحون من منطقة الأناضول والبحر الأسود، معروفون بتشبتهم بالتدين وبالتقاليد. نفس الشيئ قام به والد أردوغان أحمد، حين نزح من مدينة ريتس المحادية للبوسفور في الثلاثنييات من القرن الماضي. ويعرف أردوغان الإبن انطلاقا من تجربته الشخصية ما معنى أن ينتمي المرء لأسفل السلم الإجتماعي، وهذا ما عبر عنه بالواضح في إحدى حملاته الإنتخابية عندما قال: "يوجد في هذا البلد فرق بين الأتراك البيض والسود. وينتمي أخوكم الطيب إلى السود منهم".

 

إذا رجعنا مرة أخرى للعطلة الصيفية التي قضتها عائلة أردوغان مع عائلة الأسد، وطبقا لاقتحام الحساب الرقمي (المايل) لهذه العائلة، فإن أسماء زوجة الأسد كانت تنظر لأمينة أردوغان باحتقار ملحوظ. فعندما كان الزوجان يتحدثان في الأمور السياسية، كانت أمينة تحاول كسب صداقة أسماء، التي لم تكن متحمسة لذلك. وهذا ما نفهمه من المايل الذي أرسلته هذه الأخيرة نهاية 2011 لنجلة أمير قطر، حيث قالت بأن حسابها الإلكتروني مخصص لأسرتها وصديقاتها، وليس لأمينة أردوغان. وعندما وصل هذا المايل إلى وسائل الإعلام ونشر، كانت هذه الأخيرة بالتأكيد جد متأثرة، لأنها كانت تطمح لصداقة أعمق مع أسماء الأسد. من طبيعة الحال، اعتبر الأردوغان هذا كخيانة "للصداقة". ولا شك أن نسبة العداوة اتجاه الأسد قد ارتفعت، جراء هذه "القضية"، وأشعلت في نفس أردوغان الرغبة في الإنتقام، وهذا ما يشرح تغير موقفه من الأسد في فجر بداية الأحداث المفبركة في سوريا.

 

إذا ربطنا كل ما سبق ذكره مع ما يحدث حاليا في المنطقة، فلا نستبعد إطلاقا بأن أردوغان في نرجسيته القوية قد يرتكب أكبر حماقة قد تخطر على البال ويرسل جنوده إلى سوريا مباشرة. فشعوره بأن الكل قد تخلى عنه بالفعل: أمريكا، الحلف الأطلسي، إسرائيل وحتى "حليفه" الجديد السعودية، سيقوده إلى اعتبار الكل خائنين وسيحاول أن يبرهن للعالم بأنه يستطيع تحقيق أهدافه بالإعتماد على نفسه والرجوع إلى أحسن طريقة للوصول إلى أهدافه، ألا وهي محاولة إلباس الباطل جلباب الحق. فقد أكدت الكثير من المنابر الإعلامية الغربية بأن ما حدث في أنقرا قبل أيام، قد يكون فبركة تركية داخلية، لمحاولة الضغط على "الحلفاء" لتتمكن تركيا من استعمار جزء من سوريا الحالية.