الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
عندما يصبح الحليبُ خبزا !!.....بقلم د. حاتم عيد خوري
عندما يصبح الحليبُ خبزا !!.....بقلم د. حاتم عيد خوري

كانت زوجتي قد حدثتْني اكثر من مرة عن جانيت صديقة طفولتها، التي هاجرت مع والديها واخوتها، من حيفا الى الولايات المتحدة، في مطلع الستينات من القرن الماضي. وهكذا عندما سمعنا قبل شهر تقريبا، ان جانيت قد أتت مع زوجها جميل لزيارة اقاربها في حيفا، سارعْنا  لدعوتهما. كان لقاء زوجتي بصديقتها مؤثرا للغاية. سمعتُهما تغوصان في بحر من الذكريات الحيفاوية المشتركة. تركتُهما تعيشان متعة اللقاء بعد غياب طويل. إنصرفتُ للتحدث مع جميل، فبدا لي محدثا لبقا ونديما يرتاح المرء لمجالسته. فهمتُ منه انه من مواليد حي الطلبية في القدس، وانه قد هُجّر منها مع اهله، وهو في العقد الاول من عمره، ليستقروا في عمان حتى معركة ايلول الاسود سنة 1970، ثم الى لبنان حتى إنفجار الحرب اللبنانية سنة1975، واخيرا الى الولايات المتحدة الامريكية حيث استقرَّ في مدينة شيكاغو. واضاف جميل ضاحكا: "يعني إنتقلنا من تحت الدلفة الى تحت المزراب"، إشارةً منه الى ان رئيس بلدية شيكاغو هو يهودي مدعوم من رؤوس اموال يهودية، تُوظَفُ في مرشحي الانتخابات في امريكا على مستوى المدينة والولاية والسلطة الفدرالية ايضا. فقلت له ممازحا: يعني "إرمِ خبزك على وجه المياه، فانك تجده بعد ايام كثيرة""سفر الجامعة11:1" أليس كذلك؟ ثم اضفتُ قائلا باعتذار: "هل فهمت يا جميل، ما اعنيه بهذا القول؟".

ضحك جميل ربما باستهزاء مقنَّع، لانه اعتقد اني لم الاحظ عمقَ معرفتِه باللغة العربية التي يعتزّ بها  ويحرصُ على استعمالها نقية، رغم وجوده في امريكا لاربعة عقود متتالية. فقال لي بأدبٍ بيّنٍ: "أتعني في المجال السياسي؟". أجبته على الفور: "اتركنا من السياسة فانتما في إجازة". قال: "إذن ساروي لك قصة واقعية تؤكدُ لك انني فهمتُ ما قُلتَهُ لي". تنحنح جميل ثم تابع حديثه قائلا:

"كنتُ أعملُ مديرا لقسم الاطفال في متجر كبير جدا في شيكاغو. فوجئتُ صباح احد الايام، باحدى العاملات تستدعيني على عجل، لحل مشكلة مع زبونٍ أخذَ علبة مسحوق حليب للاطفال، ولا يريد ان يدفع ثمنها، مدّعيا انه لا يملك نقودا.... حضرت ُ على الفور. رأيتُ امامي إنسانا في الثلاثينات من عمره، يقف على حافة الانهيار. كان يقبض على علبة الحليب بكلتا يديه، وكأنه كان يخشى ان تُنتزع منه". توقف جميل عن الكلام لحظة، ربما كي يسترجع المشهد المؤثر، ثم تابع حديثه قائلا: "لم يُتِح لي هذا الشابُ المجالَ لأسأله، إذ قال لي بلغةٍ انكليزيةٍ ركيكة، أنّه عاطلٌ عن العمل منذ ستة اشهر، ولديه طفل عمره سنة واحدة، وان نقوده قد نفذت فوقفَ عاجزا عن شراء حليب لطفله، ثم توقف هذا الشاب، فجأة عن الحديث، مستسلما لدموع كادت تخنقه. شعرتُ ان الارض تميدُ بي. لم أسال الرجلَ عن اسمه، أصلِه، دينه الخ....إستدعيتُ الموظفة جانبا، وطلبتُ منها ان لا تستعيد العلبة منه فحسب، إنما ان تعطيه ايضا صندوقا كاملا فيه 12 علبة مسحوق حليب، وان تسجّل المبلغ على حسابي الشخصي".

شعرتُ بموجة التأثر التي اعترت محدثي جميل وهو يسرد لي هذه القصة. قلت له ان قصته تذكرني بقصة صديقٍ لي في كندا وكأنّ التاريخ يكرر نفسه، كما تذكرني بالمقولة الشهيرة: "من نِعَم اللهِ عليكم حاجةُ الناسِ اليكم".

استعاد جميل انفاسَه ثم تابع حديثه قائلا: "مرّت السنواتُ كرمشة عين. خرجتُ الى التقاعد، وما هي إلا سنوات قليلة مرّت، وإذ باولادي واحفادي يفاجئونني بقرارهم بانهم عازمون على الاحتفال بعيد ميلادي الماسيّ. إلتقينا جميعا في مطعم شرقي مشهور في شيكاغو، تملكُه عائلة ٌ عربية فلسطينية الاصل. رحَّب بنا مديرُ المطعم مهنئا. كان المدير شابا وسيما لطيفا دمثا يبدو في اواسط العشرينات من عمره. تبادلْنا معه حديثا مقتضبا، وعندما علم ان جذورنا تعود الى القدس وحيفا، إزداد ترحيبا بنا كما سارع الى دعوة والده وهو صاحب المطعم، كي يتعرف علينا. تحدثتُ وايّاه بالعربية. كان صاحب المطعم لبقا في طرح اسئلته واستدراجي الى الموضوع الذي يريده، مستغلا ميلَ ابن الخامسة والسبعين، للتحدث عن ماضيه، فاستدرّ معلوماتٍ عن عملي قبل التقاعد، ثم استأذن بالذهاب الى عمله في المطعم، تاركا ايّاي مع عائلتي ومع تساؤلاتي عن سرّ  حُبِّ الاستطلاع لديه".

تساؤلاتُ جميل هذه، بقيت معلقة في الهواء حتى انتهاء الحفل وتقديم الفاتورة الى ابنه، أي الى ابن جميل، الذي بادر الى تنظيم الاحتفال والاشراف عليه. راى جميل ابنَه يُمعن النظر في الفاتورة، ثم يفغر فاه متعجبا ومتطلعا نحوه بنظرة عتاب مغمسةٍ بغضب: "ليش يا بابا دفعت انت هذه الفاتورة؟!". اجاب جميل باستغراب شديد وبصوت مرتفع: "انا لم ادفع الفاتورة". قال ابنُه بانفعال: " لكنهم كتبوا في الفاتورة انك دفعتها!".

كان صاحب المطعم يراقب من بعيد ردودَ فعْلِهم، فتقدم نحوهم هو وابنه المدير، قائلا لجميل باصرار: "نعم يا سيدي، انت دفعتَ هذه الفاتورة. هل نسيت؟". كاد جميل يجنُّ، فصاح بصاحب المطعم: "أتستخفُّ بي؟ متى دفعتُها؟". إبتسم صاحبُ المطعم ابتسامة ً لم تُخفِ دمعة في عينيه، قائلا: "نعم لقد دفعتَها قبل 23 سنة الى ابني هذا. وهل نسيتَ ايها الجميل، عُلبَ مسحوق الحليب؟".

[email protected]

22/4/2016