الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أليسَ عملُ الخيرِ واجبا؟....د. حاتم عيد خوري
أليسَ عملُ الخيرِ واجبا؟....د. حاتم عيد خوري

نشرتُ قبل اسبوعين مقالا بعنوان "عندما يصبح الحليب خبزا !!". هذا العنوان استلهمتُه من مصدرين معاً هما: 'اولا' الآية الاولى من الاصحاح الحادي عشر من سفر الجامعة، التي نصّها: "ارم خبزك على وجه المياه، فإنك تجده بعد ايام كثيرة". 'ثانيا' قصة جميل المغترب الذي اعطى لأبٍ محتاجٍ حليبا لطفله الرضيع، فكوفيء بعد 23 سنة على عطائه...

يبدو لي ان الرسالة التي حملها المقالُ، قد وصلت الى جمهور واسع من القراء، فإنهمرت عليَّ عشراتُ التعليقات والردود، منها ما يعبر عن إنفعالات القراء وتأثرهم وتقديرهم، ومنها ما يعتبر العطاء لوجه الله، ماديا كان ام معنويا، قيمة انسانية إجتماعية ينبغي صونها وتذويتها وتطبيقها، ومنها ما يتضمن قصصَ أحداثٍ حقيقية 'على ذمة الراوي طبعا' تندرج في ذات السياق، كقصة فتحي الحيفاوي:

فتحي كهربائيُّ سياراتٍ من حيفا. تعرّف سنة 1968 على سلمان من مجدل شمس في هضبة الجولان، وتوطدت بينهما علاقاتُ صداقة متينة على الصعيد الأسَري ايضا. قرّر فتحي تلبية دعوة صديقه سلمان. سافر بسيارته في خريف 1969 الى مجدل شمس، برفقة زوجته وطفله الصغير، وقريب ٍ له من ترشيحا. كانت الزيارة كالمتوقع، ممتعة ً للغاية. عندما حان وقت العودة في ساعات المساء المبكر، وجد فتحي نفسه مضطرا، خدمة ً لصديقه، ان يعود الى حيفا عن طريق ترشيحا مرورا  بالجش فسعسع وحرفيش من هناك الى ترشيحا فحيفا..... كان الليل قد ارخى سدوله، فساهم الظلامُ في زيادة صعوبة السير على شارع ضيق معتم ذي مسار واحد وجوانب وعرة صخرية وعبر منحنيات تحاكي أثرَ زحفِ حيّةٍ رقطاء.

كان فتحي حذرا جدا فجعل سيارته "تسري" الهوينا، تاركا اضواءها الامامية عالية تشقّ ليلا مدلهما. قبيل قرية حرفيش ببضعة كيلومترات، لاحظ فتحي جسما يشبه طائرا ابيض يرفرف فوق يمين الشارع. إستغربَ هذا المنظر فازدادَ حذرا. زحفَ بالسيارة قليلا الى الامام، فانعكست اضواؤها الامامية على سيارة مركونةٍ أمامه تطلّ من شباكها الامامي الايسر، يدٌ تلوّح بفوطة بيضاء. فهم فتحي للتوّ، ان السائق يستغيث بمن ينجده، فترجل بسرعة من سيارته وتقدم نحو السائق "المستغيث" مستفسرا. راى امامه في السيارة طفلا يبكي، وامّا كئيبة تولول  وأبا قلقا جدا. قال الاخير:"انا طبيب من حيفا. تعطلت اضواءُ سيارتي منذ نحو ساعتين. لم تمر ايُّ سيارة من هنا. شعرنا اننا منقطعون عن الدنيا، وخشينا ان نبقى هنا حتى الصباح معرضين لطقس بارد ولخطر حيوانات مفترسة قد تكون منتشرة  في احراج الجرمق المحيطة بنا". هدّأ فتحي من روع الطبيب وعائلته، وسارع الى فحص المشكلة، ثم الى حلِّها بعد جهد كبير. شكر الطبيبُ وزوجتُه فتحي وحاولا ان يقدما اليه رزمة من الاوراق النقدية مقابل اتعابه. اعتذر فتحي عن قبول اي مبلغ منهما، قائلا لهما بابتسامة عريضة، وهو يشير بسبابته الى طفلهما في السيارة: " لقد فعلت هذا من اجله. أليسَ عملُ الخير واجبا ؟". إستسلم الطبيب لإصرار فتحي، لكنه اصرَّ ان يسجل لديه اسم فتحي ومكان عمله وان يعطيه بطاقته(كرته) الشخصية قائلا له:" آمل  ان لا تحتاجني ابدا، لكني سابقى دائما في خدمتك". كان فتحي متعبا جدا فلم يولِ البطاقة إهتماما كبيرا، فألقى عليها نظرةً عابرة مكّنتْه بصعوبة من قراءة اسم هذا الطبيب وكلمتيّ "جرّاح اعصاب"، ثم قام بوضع البطاقة في جيب السيارة.

مرّت الايام وتوالت السنون ورُزق فتحي وزوجته بمولود جديد، فتعاظمت مسؤوليتهما وتراكم غبارها على ذاكرة كل منهما، ليغطي اسم ذلك الطبيب الذي كان محفورا هناك. ولقد ادركا هول هكذا نسيان وابعاده، عندما فشلا في العثور على بطاقة ذلك الطبيب وعجزا عن تذكر اسمه للإستنجاد به في احرج لحظات حياتهما. كان هذا يوم جمعه مساء عندما وقع ابنهما البكر عن دراجته الهوائية ولم يكن معتمرا خوذة واقية، فشُجَّ راسه. نُقل الولد المصاب الى مستشفى رامبام في حيفا، حيث اجريت له فحوصُ الكشفِ الطبيِّ التي اكّدت حدوثَ إرتجاجٍ دماغيّ مع إحتمال وجود نزيفٍ دموي داخلي، يتطلب تدخلا جراحيا سريعا.

كان فتحي وزوجته المسمّران في المستشفى، يدركان صعوبة تجنيد كادر طبي ملائم، عشية يوم السبت بالذات، سيما لاجراء مثل هذه العمليات الحساسة المعقدة. هذا الإدراك زاد من ألمِهما وضخّم شعورَهما بالندم الحارق لانهما نسيا اسم ذلك الطبيب. لكنهما عندما علما ان العملية الجراحية إبتدأت، شعرا بانفراج معيّن ما لبث ان اصبح زيتا يُصبُّ على نار القلق التي يتلظيان فوقها. مرّت عليهما وهما يجلسان امام غرفة العمليات، أثقلُ ساعات حياتهما وامرُّها. وهكذا عندما شاهدا باب غرفة العمليات يُفتح أخيرا ليطلَّ منه الطبيبُ، قفزا واقِفين كانهما كانا يجلسان على نابضٍ 'زُنْبرَك'، متلهفَين لسماع ما سيقوله. كان الطبيب ما زال يعتمر قبعة غرفة العمليات، ويضع قناعا طبّيا يغطي فمه وانفه فبدا كأنه يُخفي نصف وجهه. كان الطبيب يقرأ على وجه كل منهما، منسوبَ التوتر الذي يعيشانه ومدى حرقتهما لسماع اخبار ولدهما، فزفّ اليهما دون مقدمات طويلة، الاخبارَ السارة عن نجاج العملية رغم صعوبتها الشديدة، ممّا جعل براكين توترهما تنفجرُ دموعا تغسلُ يدي الطبيب الماهرتين، وقد إنهالا عليها تقبيلا. سحب الطبيب يديه بسرعة، ثم رفعهما ليخلع قبعته وليزيل القناع الطبي عن انفه وفمه، فبدا وجهه معروفا لهما سيما عندما سمعاه يردد مبتسما، ما قاله فتحي في حينه: "لقد فعلتُ هذا من أجله. أليسَ عملُ الخير واجبا؟".

[email protected]

6/5/2016