الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
القدس بيتي ...بقلم: د. سناء عز الدين عطاري
القدس بيتي ...بقلم: د. سناء عز الدين عطاري

استيقظت صباحاً بكل نشاط، متحمسة للذهاب إلى المدرسة لأول مرة من بيتهم الجديد، فقد انتقلت عائلتها أمس للسكن فيه بعد أن أمضت ثلاث سنوات في بيت جدها في حارة السعدية في البلدة القديمة، بالتشارك مع عائلة عمها، أقام في البيت خمسة عشر فرداً، وهو بالكاد يتسع لخمسة أفراد. وكما تذكر كان لهم بيت كبير في بلدة الرام اضطروا إلى بيعه بعد إقامة الجدار الفاصل ليحافظوا على الهوية الزرقاء كما كانت تسمع الكبار يقولون.

كان بيت جدها مكتظاً بما فيه من كبار وصغار، ورجال ونساء، وبنين وبنات. كان كل شيء صعباً، الأكل ، النوم، الدخول إلى الحمام، الدراسة. عدا عن الخلافات التي كانت تنشب في كثير من الأحيان بين جدتها ووالدتها وزوجة عمها، أو بين أبناء العم، حتى بين جدها ووالدها وعمها، فالجميع يشعر بالضيق، والوضع لا يطاق.

وأخيراً قرر والدها أن يبني بيتاً على قطعة الأرض التي اشتراها في حي الأشقرية في بيت حنينا بكل ما ادخره من مال. سمعت والدتها تقول له: كيف تغامر وتبني بيتاً دون ترخيص؟ لن يسمحوا لنا، وسيهدمونه عاجلاً أم آجلاً. لكنه طمأنها قائلاً: إن هناك عشرات البيوت دون ترخيص، ولم تهدم، لا تقلقي وتوكلي على الله. ألا تريدين أن يكون لك بيتاً مستقلاً؟ ولم تجادل والدتها كثيراً، فقد تعبت من العيش في بيت العائلة القديم، وهي تعلم أنهم لا يمتلكون ما يكفي من المال لاستصدار رخصة بناء.

وصلت المدرسة، وأخذت تحدث صديقاتها عن بيتهم الجديد، قالت لهم: أنا وأختي لنا غرفة خاصة لا يشاركنا فيها أحد، فيها كل ملابسنا وكتبنا وألعابنا. واستمرت بوصف البيت وكأنه قصر في إحدى القصص الخيالية، وهي الأميرة التي تسكن ذاك القصر.

كانت تقضي في غرفتها ساعات، تلعب، ترتب، فرحة بكل ما فيها؛ لأول مرة يكون لها سرير وخزانة. وحين تفرغ من اللعب والترتيب تلقي بنفسها على السرير وتشعر أنها تنام فوق الغيوم.

لم يمضِ وقت طويل حتى جاء ذلك اليوم الذي كانت عائدة فيه من المدرسة، وحين اقتربت من البيت شاهدت أفراد الجنود والشرطة يحيطون به، وبالقرب منه جرافات ضخمة وسيارات شرطة ومركبات عسكرية، وسكان الحي متجمعون وأنظارهم تتجه نحوه وهم يكيلون شتائمهم على الاحتلال ويوجهون دعواتهم إلى الله حتى يرحم هذا الشعب ويكف عنه ظلم الظالمين. حاولت أن تجمع المشاهد المُجَزّأة لتكوِّن منها صورة واحدة، اضطربت بشدة فقد فهمت ما يدور هناك، ولكن لا .. لا يمكن أن ينهار الحلم. استجمعت قواها وركضت باتجاه البيت ولكن أحد الجنود أوقفها، ومنعها من الاقتراب، فبدأت بالصراخ: "أريد أمي، أريد أبي، اتركني، أريد أن أذهب". ولكنه لم يتأثر ببكائها وصراخها، وأشهر بندقيته في وجهها مصمماً على منعها. رأت والدها يفاوض الضابط كي يمنحهم بعض الوقت ليخلوا البيت، ولكنه رفض بشدة، وأصدر أوامره بهدم البيت فوراً. دخل والدها مسرعاً لينادي والدتها وأخوتها الموجودين بالداخل، فخرجوا جميعاً مذهولين لا يعرفون بأي اتجاه يذهبون، وبلحظة أفلتت من الجندي وركضت نحوهم، وتعلقت بوالدتها وهي تجهش بالبكاء.

وفي أقل من ساعة أصبح البيت ركاماً من الحجارة، تهدم أمام أعينهم، وتهدمت معه أحلامهم، وعادت الأسرة للعيش في منزل الجد.

وفي المدرسة كانت جزينة خائبة الأمل، لم تحدث أحداً، لم تضحك ولم تلعب. وفي حصة الفن طلبت المعلمة من الطالبات أن يرسمن. أمسكت قلمها ورسمت كوماً من الحجارة، وإلى جانبه دمية ملقاة على الأرض، ورسمت فوقه علماً، لونته بالأحمر والأخضر والأبيض والأسود، وكتبت "القدس بيتي".