الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حوار مع الكاتب والناقد د.مصطفى الكيلاني .... فوزي الديماسي
حوار مع الكاتب والناقد د.مصطفى الكيلاني .... فوزي الديماسي


هو اسم من أسمائنا الثقافية الوطنية البارزة في تونس وخارجها ، وعلامة من علامات رأسمالنا الرمزيّ ، كتب في أجناس عديدة ( القصة - الرواية - النقد ) ،وحبّر في مواضيع شتّى ، وبين التدريس في الجامعة التونسية ومحنة الكتابة راوح د.مصطفى الكيلاني مكانه ،وتقلّب في مساحات حبريّة مختلفة ، على قلق يعيش ، السؤال مطيّته ، والمعرفة ديدنه ، التقينا به في هذه المساحة لنشاركه قلق الأسئلة وأسئلة القلق لعلّنا نتعرّف على بعض فكره وهمّه المعرفي ، والحال أنّ الرجل نهر لا ينضب
سؤال 1 :
الشعر : هو الصوت الخفيّ فينا ، و دندنة الأمواج في قيعان ذواتنا الجريحة ، وتدفّق الآلام والآمال في كهوف ذاكرتنا . باللغة يرسم دموعه على وجنتي الوجود ، ويخرج صيحاته المكبوتة من حيز الكمون إلى عوالم الشهادة / الكلمات . هو قول حمّال أحزان جوانيّة وأخرى برّانيّة ...هو لغة الانتماء والإنبات في آن ... فهل بالانتصار للتجريب البصري يكون الشعر ؟ أم هو شيء من هذا وكثير من كيمياء الذات ؟
******
سؤال شائك صعب، والإجابة عليه هي لا محالة،من ذات ماهيته،إذ لكل سؤال إجابته الخاصة الماثلة فيه،إنه سؤال الوجود والكينونة والموجود والعالم وإمكان المعنى في غياب أي معنى مسبق جاهز،بوعي الموجود. والموجود الكائن (الإنسان،أي الشاعر.تحديدا وهنا في الآن ذاته... إنه سؤال الشعري أيضا،وعلى وجه الخصوص الذي هو أساس القول الشعري ومختلف الأجناس الأدبية والفنون، كل الفنون،وبدون استثناء. سؤال الجمال والمعنى والنظام في مغالبة القبح والبهمة والفساد أو الفوضى،الكارثة عند محاولة إكساب الوجود معنى بالشعر والشعري والفن عامة. سؤال اللعب الفني باللغة شعرا وبوسائل التعبير الأخرى فنونا ، سؤال المغامرة لكون الوجود الكينونة مشروعا للتحقيق ولا معنى جاهز ولا جاهز لمعنى... كذا الشعر تجربة وتجريب،استماع للداخل والخارج وإعادة تركيب لما يصل ويفارق علامة ودلالة بين أصوات الداخل وأصوات الخارج . تفاعل في الداخل وانفتاح على الخارج بما يكسب العالم صفتي الواقع والرمز،العلامة والدلالة،الذات والموضوع بذات الموضوع وموضوع الذات ، وإذا اللغة هي مجمع تمثلات العالم في ذات الموجود الشاعر، وبها يعاد تشكيل العالم واقعا وإمكانا لمدرك تواصلا مع الأخر المتقبل . ولان سياق التخاطب، هنا ،صحافي يستدعي جمهورا واسعا لا يشترط فيه اختصاص نقد الشعر والخوض في فلسفته فان تبسيط الإجابة تقتضي الإشارة إلى أننا نحتاج جميعا إلى الشعر،لأنه الأساس المرجعي لكل أنواع القول الأدبي،والفنون،جميع الفنون، وهو مرجع كل القيم الأخلاقية التي نستضيء بها على حياتنا السياسية والمدنية، فتدرك به وبها أقصى الحياة للفرد والمجموعة الوطنية والقومية والإنسانية، إذ به نغالب القبح والشر والاستعباد والفساد والرداءة وننتصر للحياة والأمل والحلم ونغامر كتابة ووجودا ونحول وهننا إلى قوة فنقاوم بالاختراع والإبداع وتغليب الاعتياد على محبة الحياة،بلغة نيتشه ،على الاعتياد على الحياة...
سؤال 2 :
إذا كان الشعر قول رحلة وترحال في رحاب الوجود بحثا عن معنى ، وإذا كان الشعر قول حفر وبثّ لفتنة السؤال في الأفئدة كما فعل الفلسفة في النفوس ، فها هي الرواية أيضا كجنس مغاير تدخل بيت الفوضى الخلاّق ، وتتلبّس بثقافة السؤال وتعلن سقوط دولة المعنى والوثوق والهدوء السرديّ ، ويضرب التجريب بعواصف من مغامرة في قدسية الكتابة / الإجابة ليبشّر بكتابة اللاّمعنى ؟
*****
إن سلمنا بدءا ومن غير وثوق المطمئن بأن الشعري هو أساس الشعر ومرجعه الأول،عودا إلى الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر في هذا الشأن عند مقاربته لهولدرلين فهذا الشعري لايتحدد بالشعر لوحده، كما أسلفنا،بل انه يشمل أنواع القول الأدبي الأخرى والفنون، كل الفنون ، وهو الذي يؤدي أصالة الموجود الكائن-الإنسان ويتشكل لغة تستقدم إليها العالم بتمثلات الذات المبدعة تواصلا مع أشياء هذا العالم الذي يصاغ بمختلف ألوان الكتابة الأدبية وباللون والشكل والحركة الجسدية والصورة الضوئية والمنحوت والصوت المغني وغيرها. كذا الرواية اليوم هي سكن آخر للموجود الكائن حيث لغة السرد تستقدم إليها هذا الشعري، مرجع كل الفنون ومولد الدهشة والمحرض على تجريب الأساليب ورفض المنتهي، إذ في الرواية بمختلف الآداب الإنسانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة ما يربك حقا الحدود التقليدية الفارقة بين السرد والشعر والفلسفة والمسرح والسينما والموسيقى والرسم. إن الشعري لكونه دلالة والدة مرجعية هو الناظم بين مختلف عناصر هذا الذي يبدو شتاتا بروح إبداعية أحدثت أساليب سردية مركبة جديدة من ممارسة لعبة الكتابة، كأن تحضرنا أسماء روائييين عالميين قرأنا لهم في الأعوام الأخيرة ،فنذكر،على سبيل المثال لا الحصر : خوري ساراماغو والكساندر جاردان وأليساندر باريكو ودافيد فوانكينوس ورينهارت شلينك وكورماك ماكارتي وباولو كويلو ويوكو أوغاوا... في روايات هؤلاء وغيرهم ممن أمكن القراءة لهم ما يجعلنا نقف على حافة هوة بلا قرار،هوة جميلة آسرة رغم اتصافها بالإرعاب حيث الذات الإنسانية تقاوم بأساليب السرد الروائي الجديدة فاجعة الانهيار القيمي الحادث في زمن الاستهلاك العولمي وتنجز معنى ما عجزت عنه السياسة واستحال فكرا لدى المشتغلين على الفلسفة ومختلف العلوم الإنسانية وانتفى تثاقفا وتسامحا دينيا بعد أن أضحى الدين بالدوغما والنضوب الأخلاقي في بعض المواقف وسيلة للقتل ونشر الكراهية وتدمير الأوطان. وإذا الرواية،وهي المسكونة بالشعري ومجال التلاقي بين مختلف الأفكار والأصوات والأساليب،ملاذ الكتابة وأعتى قلاعها المتبقية بعد تراجع ثقافة الكتاب في زمن هيمنة الثقافة الرقمية. الرواية اليوم بتجربتها الجديدة وآفاقها التجريبية الحادثة هي ملحمة الإنسانية بعد أن كانت ملحمة طبقة بعينها، هي البورجوازية في تقدير النقد الأدبي الماركسي،لأنها صوت الضمير الإنساني المدوي الرافض لتدهور القيم بما تحرص على الكشف عنه من وقائع الشر والفساد والاستبداد وقلق الفرد وانحباس آفاق حريته وتوتر المجتمعات. إن على الرواية العربية اليوم أن تتحرر من الدوائر المحلية الضيقة باسم الواقعية الساذجة السطحية وحالات الفرد المنطوي على ذاته استذكارا باهتا لا غير للانخراط في حركة الإبداع الروائي العالمي بهذه الروح المتمردة التي ذكرنا. ولكن كيف،والسرد الروائي العربي لم يراوح موقعه، تقريبا ،لإغراقه في حالات الفردانية وبقائه أسيرا في دائرة التأثير الإيديولوجي وتلك الواقعية المباشراتية الفجة
سؤال 3 :
قد تكون الكتابة شطحة الذات على رمل الوجود والزمن فجر.قد تكون رحلة في الموت بمفهومه الفلسفي اليوناني لتجسّد باللغة بعد ذلك حقيقة الكتابة وكتابة الحقيقة . قد تكون ذوبانا في مفردات الجسد ، فيموت فينا إله حبريّ لنعلن ولادة آخر ، وقد تكون الكتابة رحلة الإنصات للقيعان قيعان الذات ، وفي هذه المشهدية المتداخلة يقف النقد بأدواته ومعاوله ، فيكون في مساحات المداد كما المرآة العاكسة لطبيعة الوجوه وملامحها أو كما البوصلة تقوّم الاتجاهات ، ولكن يبدو أنّ النقد اليوم يعيش لحظة سريرية بامتياز أو خيّر مكانا في الصمت قصيّا لكي لا يكون شاهد زور في حفل ذبح الجمال في الكتابة ؟
*****
عن أي كتابة نتحدث اليوم بعد الذي حدث من اهتزازات عميقة في ذات الكيان البشري؟ إن مرجع الكتابة في العام واقع بلغ أقصى حالات ارتباكه بعد كل الذي حدث ويحدث إلى الآن من حروب وفتن وصراعات طائفية وعرقية ودينية منذ احتلال أفغانستان ثم العراق وما عقب ذلك من أحداث مدمرة ، وما انعكس سلبا على البلدان والمجتمعات وما نتج عنه من اضطراب في السلوك الفردي وسلوك المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. فواقع الكتابة حال بلغت أقصى حالات توترها ولم تعد قادرة على الانسجام مع ذاتها والانتظام والاقتداء بثابت المعنى، وإنما هي " درجة صفر" أخرى من الكتابة بعد " درجة الصفر" التي أدرك رولان بارط مفهومها للتدليل على الإبدال الأكبر الذي شهده الأدب الفرنسي،والغربي عامة منذ فلوبير وبودلير ومالارميه عند بدء المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر لقد مثل موفى ثمانينات القرن العشرين انهيار نظم القطبية الثنائية: زلزال هائل مروع تعاقبت تبعاته السلبية إلى اليوم فأسقط رموزا وزعامات وأنشأ وهن الدولة الوطنية ليظهر محلها ما أسماه يورجن هابرماز " الدولة مابعد الوطنية" أو " مابعد القومية"، هذا الانقلاب الحاصل في واقع الوجود عامة وكينونة الإنسان خاصة أنتج ظروفا جديدة وتمثلا فرديا مختلفا للعالم،وللذات الفردية المبدعة، على وجه الخصوص. لذا تشهد الكتابة اليوم حالة مخاض وثورة أساليب بتفكك المنظومة الأجناسية الأدبية الموروثة وظهور النص الإبداعي المختلف ،النص المغامر،النص المشروع،النص الرافض لثابت واحديته بالتناص يمارس لعبه عن قصد وبالتناص العفوي حيث اللا-معنى ينكتب إمكانا لمعنى. لذا فالكتابة هو كل ما ذكرتم من وضعيات وصفات،وهي ما لم يرد ذكره.إنها لعب جاًد، اندفاع إلى أقصى الحياة وأداء بتمثل أقصى الحياة أيضا،فرار جميل من الحياة إلى الموت ، ومن الموت الماثل فينا وعيه إلى الحياة، رفض لكل الحقائق الثابتة مع التسليم بحقيقة مفادها هشاشة الكائن،نقصانه،أبديته المنشودة ولا أبدية، حضوره المؤقت العارض،عدم امتلاكه في الأخير لأي شيء عدا الذكريات إن كان على قيد الحياة، وما قد يستمر بذكريات الأحياء عن الأموات حينا من الدهر. الكتابة أيضا هي تذكر، فعل تحنيط أي ذاكرة مؤجلة، كرمزية توت ،إله الكتابة لدى المصريين القدامى يشهد على إمكان الخلود بالكتابة ذاتها. وكما تنزع الكتابة إلى الوضوح بفعل الانفتاح على الخارج فهي تبطن إخفاء وتخفيا عند الاختيار أو الاضطرار،كالالتباس هو حالة دالة على عميق معنى أو بهمة ناتجة عن ارتباك الحال ذلتها، لذا فقد تشبه بالمرايا المعتمة، كخيالات الأشياء تتوالد أطيافا أخرى لخيالات بفعل الذات الرائية والذات المرئية في سياق مشترك تواصلي. فكيف للمتقبل، القارئ أو الناقد،أن يتمثل هذا الذي تتمثله الكتابة؟ هل بمناهج نقدنا الجامعي الباهتة التي يغلب عليها الوصفية والإتباع أم بمفاهيم قرائية جديدة؟ وكيف لثقافة اعتادت على النقل والإتباع والتجميع والتلخيص وابتسار المفاهيم والتعسف على إبداعية النصوص أن تؤسس لفكر نقدي جديد قادر على مواكبة ثورة أساليب الكتابة؟ كيف لمن ليس له هاجس النقد بالبحث في الماهيات والخفايا والطوايا أن يكون ناقدا؟ وكيف لمن لا يجيد إبداعية القراءة ولا يتمثل روح الكتابة أن يدرك ماهية المقروء وإبداعيته؟
سؤال 4 :
بين سقراط موظّف على حدّ تعبير سليم دولة والمثقف العضوي يعيش عقلنا الوطني لحظة بيضاء إزاء ما يحدث في البلد في ظلّ الربيع العربي ، بل لعلنا نلامس كثيرا من السطحية والفوضى والعبث في التعاطي مع الأسئلة الحضارية الوطنية الحارقة ، فهذا بتاريخ يدقّ وذاك بتقدميّة يصيح ، والبلد هو البلد كأصحاب الكهف أو كجماعة أمثولة الكهف ، فكيف ترى دور المثقّف الآن وهنا؟
****
وهم كبير سكننا لعقود في حياتنا المدنية والسياسية العربية أسميناه المثقف العضوي،والحال أن لهذه التسمية مرجعيتها الخاصة المحددة بغرامشي ولديه. إن المثقف " مثقفنا" منذ أزمنة سالفة وإلى اليوم هو المثقف التقليدي ابتداء بالفقيه الخاضع لإرادة الحاكم المطلقة.وإن مارس هذا المثقف هامشا من الحرية فتبعا لقصد هذا الحاكم المستبد. ولعل تجربة ابن رشد تختصر مهزلة العلاقة بين المثقف والحاكم في مجمل تاريخنا العربي والإسلامي. كأن تغيرا بدأ منذ المنتصف الثاني من القرن العشرين إلى اليوم بمشروع المثقف النشيط فكرا وإبداعا وسياسة واجتماعا، ولكن باتفاق صريح أو ضمني مع الحاكم.وإذا هامش الحرية المتاح لهذا المثقف الناشئ يتسع ويضيق، وقد ينتفي تماما في بعض الأحيان بالمراقبة والمحاصرة والعقاب بالسجن والقتل حقيقة ومجازا وينبغي، هنا، عدم الخلط بين المناضل السياسي والمثقف المناضل، بين المعارض السياسي وبين منتج الأفكار ومبدع الأعمال الحريص على تغيير الوقائع وما يقدمه من أفكار ومشاريع برامج جديدة المصلحين والثوريين. فنهجنا السياسي العام هو وريث سياسة القهر والاستبداد وثقافتنا هي سليلة ثقافة الفكر الواحدي وان ظهرت محاولات التأسيس المختلف في هذا الاتجاه أو ذاك. أكذوبة أخرى أو وهم آخر ينضم إلى مجموع أوهامنا السالفة والحادثة: وهو الربيع العربي الذي، وإن أطلق الألسنة لتتكلم بعد تلجيم عقود بعد قرون، فقد كلفنا الكثير من الخسائر والأضرار في مستوى القيمة والمعنى والرمز قبل الحسي، كالتشويه الحاصل للإسلام لدى الرأي العام الكوني الذي بدا ديانة سلبية تحرض على الكراهية وتدعو إلى سفك الدماء والترويع،واستباحة الأوطان " أوطاننا" وتفقير واجهاتية تؤديها أحزاب متسلطة محكومة في الداخل بزعاماتية مقيتة. كذا الحادث منذ 14 جانفي 2011 بتونس إلى اليوم: بنية عميقة مسكونة بالفكر الواحدي القروسطي الظلامي المتخلف تطفو على سطح الواقع وتكشف عن خواء بنية سطحية صدقت لمدة عقود وهم التحديث بما سعت إلى تحقيقه من برامج ثبت فشلها اجتماعا وسياسة واقتصادا وتربية وتعليما وثقافة، ونحن اليوم في دوامة فوضى جديدة بعد انهيار النظام القديم المتقادم الذي لم يعد قادرا على الاستمرار في البقاء. فكيف للمثقف اليوم أن يكون له دور في الخروج من هذا الوضع؟ وعن أي مثقف جديد نتحدث؟ وعن أي ثقافة لمجتمع نتحدث أيضا؟