الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
لا أشبه أبي....مجد مالك خضر
لا أشبه أبي....مجد مالك خضر

 

 ما زلتُ أذكرُ ذلك اليوم بوضوحِ كنتُ في العاشرةِ من عمري، كانت أمي تقفُ ورائي وهي تذرفُ الدموع، أما أبي فوضع يده على كتفي، وقال: لن أغيبَ كثيرًا ستة شهورٍ، أو سنة وسأعود مُجددًا حتى نعيش جميعنا حياةً سعيدةً، وأوفر لك كل ما تتمناه... ورحل أبي.

كان أبي يتواصلُ معنا في الأسبوع مرةً واحدةً، ومن ثم في الشهر مرتين، وبعد ذلك في الشهرين مرة، وكان يقولُ دائمًا بأنّه سيعودُ قريبًا، ولكنه لم يرجع بعد، وأعتقدُ بأنّهُ لن يعود مُطلقًا، فقد مضى على غيابه عشرون عامًا.

أصبحتُ في الثلاثين من عمري، لم يرَ أبي تفوقي في المدرسة، ولم أخرج معه مثل كل الأولاد إلى السوق، ولم يشاركني نجاحي في التخرجِ من الجامعة، ولكن كانت أمي تراهُ بيّ على حسبِ تعبيرها.

عندما كانت أمي تُخالفني في آرائي كنتُ أغضبُ، وأصرخُ، وأرفضُ كلامها وكانت تقولُ لي أنتَ تُشبهُ أباك كان مثلك، وعندما كانت أمي تُجادلني قبل تناولِ الطعام على أي موضوعٍ عابرٍ، كنتُ أتركُ طبقي، وأغادرُ مائدة الطعام، وكانت أمي تقول لي أنت تشبه أباك كان مثلك.

لا أشبه أبي! ... لم تُدرك أمي بعد أنْ الطفلَ الذي كان ينتظرُ عودة أبيّه على بابِ المنزل لساعاتٍ طويلةٍ قد رحل منذُ وقت طويل، وأنْ الطفلَ الذي بكى كثيرًا من ألم غياب أبيّه قد رحل منذ وقت طويل، وأنّ الطفلَ الذي لم يفرح بالأعيادِ؛ لأنه ببساطة لم يمتلك عائلة سعيدة قد رحلَ منذُ وقت طويل.

لكن في ذلك اليوم تغيرَ كل شيء، عندما خرجتُ من المنزل ووجدتُ رجلًا عجوزًا واقفًا أمامي، وكانت التجاعيد تغزو تقاسيم وجهه، ولكنه كان مألوفًا بالنسبة لي ... توجه نحوي بخطواتٍ بطيئةٍ، وقال: بُني بصوتٍ مرتفع، لم أصدق ما سمعت، هل هذا الرجلُ حقًا أبي؟!

احتضنني ولكني لم أفكر أنْ أُحركَ ذراعيّ نحوه، بل بقيتُ واقفًا في مكاني، وقال لي: اشتقتُ لك، لم أسمعه في البداية أو تجاهلته عن قصد، ولكنه كرر كلامه، فقلت له من دون أن أُفكرَ بكلماتي: لماذا عُدتَ، لماذا؟

نظر لي بصمت لم يتكلم أي كلمة ... احتضنني مُجددًا ودخل في نوبةٍ من البكاء، وبدأتْ يداهُ ترتخيان، ولم يعد يشدُّ على كتفيّ، كان قد رحل للأبد، لم ألحظ وقوف أمي ورائي، والتي قالت لي: أبوك كان قاسيًا أيضًا وأنتَ تشبهه، نظرتُ نحوها، وقلتُ بتصميم: لا أُشبه أبي!

 

مجد مالك خضر