الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
جهنم هي عيون الآخرين....بقلم توفيق أبو شومر
جهنم هي عيون الآخرين....بقلم توفيق أبو شومر

بَحْلَقَ، يُبحلق: فتح عينيه على آخرهما دهشا، واستغرابا، وإعجابا، واشمئزازا، وتحدّيا، واستفزازا.

إننا نستحق بجدارة أن نُسمي شعبَنا شعبَ البحلقة، لأنه يُجيد كلَّ  فنونها ، كما أنَّ له المرتبةَ الأولى  في نسبة البحلقة بين دول العالم.

 حوَّل ممارسو المهنة، مهنة البحلقة، إلى رياضة، يمارسها الكبارُ  والصغار، ويعلمها الكبارُ للصغار.

ليس مستغربا أن يُفاجئك طفلٌ صغيرٌ، لم يدخل المدرسة بعد، بأن يلُفَّ حولك مرة، أو مرتين مستطلعا كل أنحاء جسدك!

هناك أيضا مَن يشجعون الأطفال على أن يتعلموا فن البحلقة، منذ نشأتهم، ومن أبرز المشجعين كثيرٌ من الأمهاتِ، اللاتي يتسلين على وصف أبنائهن الصغار للأشياء، وقد يكافئنهم على ذلك، بالابتسام أو الضحك، حين يصف طفلٌ شخصا ما قائلا:

 أذناه طويلتان، مشيته كما الحصان، وأنفه مفلطح.

يزدهر فنُّ البحلقةِ قبلَ المساء في بلدنا، بسبب انقطاع التيار الكهربي، فتيارُ الكهرباء مِن أبرز مؤسسي هذا الفن، حين تصبح الشوارعُ كلُّها مقاهٍيَ، حيثُ يجلس الناسُ على الأبواب طلبا للهواء، والحقيقة أنهم يستمتعون بالبحلقة، أكثر من رغبتهم في الاستمتاع بالهواء!

وكل من يُجازف بالسير في هذا الوقت، فإنه يكون عُرضة لعيون المبحلقين والمبحلقات!

وقد لامني أحد الأصدقاء وقال:

لماذا تُركِّز نقدك على هذه الظاهرة، غُضَّ الطرف أثناء مشيك، ولا تلتفت.

قلتُ إنني أرغب في دراسة هذه الظاهرة ومن يرغب في دراستها،يتعلم البحلقة هو الآخر.

ومن غرائب البحلقة أنني رأيتُ زبائن الظلال، الذين يتنقلون مع الظلال، أينما ذهبتْ، ينادون طفلا من الأطفال، كي يُتابع فريسة من فرائس البحلقة، ليعرفوا من هو؟ وإلى أين ذهب؟ وأين استقرَّ به المقام؟

زرتُ منذ فترةٍ صديقا، يعيش في مكان مزدحمٍ، هو مِن أكثر الأماكن شهرةً في فن البحلقة، عندما أدخلني بيته، سمعتُ الطفل وهو يقول لزبون الظل الذي أمره باقتفاء أثري:

لقد دخل بيت أبي سليمان!

البحلقةُ، مرضٌ من أمراضِ الحصار الطويل، والسجن، ومنع التجول، وقد أسهمتْ كلُّ تلك الأشكال من السجن  في تكثيف ظاهرة البحلقة في وطني، كما أن هذه الظاهرةَ رفيقٌ مُلازمٌ للفراغ، فعندما يختصر الرجالُ من كبار السنِّ حياتَهم، ويكتفون بعمل أبنائهم، فيتقاعدون، وهم أشداءُ أقوياءُ، فإنهم يصبحون ضالعين في فنون البحلقة، ويتحولون من آباءٍ رحماء، إلى آباءٍ أعباء، لا يلذّ لهم المقام، إلا على وقع مشكلة من المشكلات، فإن عدموها، فيجب أن يصنعوها، لأنهم يقضون نصف يومهم، وهم يُبَحلقون، يحسبون الحركاتِ  والسكناتِ فيمن حولَهم!

من المعروف بأن البحلقة في بلدان العالم الأخرى، تُعتبر (تحديا) واعتداءً على الحرية الشخصية، ومن العار أن يُضبط المُبحلقُ بجنحة البحلقة!

لم يُخطئ فيلسوفُ المذهب الوجودي، جان بول سارتر، حين قال:

"جهنم هي عيونُ الآخرين!!"

(من كتاب أنابيش)