السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
عندما تركت المدرسة...مجد مالك خضر
عندما تركت المدرسة...مجد مالك خضر

1

في شتاءٍ قد مضى كنتُ أنظرُ إلى هطولِ المطرِ من نافذةِ مدرستيّ، تلك المدرسةُ التي تعلمتُ فيها الكثير... مقعديّ ما زال خلفي في مكانه، ولكنه لم يعد لي بل أصبح باردًا، ووحيدًا... ولم يصبح لغيريّ فقد تمَّ تكديسه كما كل المقاعد في زاويةِ الغرفة الصفيّة حتى تتسع للجميع... لكل الموجودين فقط... ولكنها لا تتسعُ لأحلامِ أيّ منا.

 

اليوم أنا لستُ طالبًا في مدرستيّ؛ لأنها أصبحتْ منزليّ الجديد الذي أعيشُ فيه، وصارتْ نوافذها تربطنيّ مع العالم الخارجيّ المليء بالرُكامِ، والحُطام، وأصوات الرصاص، والقذائف... تركتُ الدراسة إلى وقتٍ لا أعلمُ مدته، ولكني لم أترك المدرسة التي أعيشُ فيها لاجئًا ينتظرُ ذلك الغدَ الجميل في يومٍ ما.

 

كما كل الأطفال كُنا نخرجُ من غرفة الصف التي تعيشُ فيها أكثر من عشرين عائلة لنلعب في ساحات المدرسة، ونتذكرَ آخر ما تبقى من طفولتنا... التي صارتْ اسمًا مُلتصقًا بمرحلتنا العمريّة فقط... لم نعد نشعرُ بأي رابطٍ بينها وبيننا، فقد رحلتْ الطفولة منذُ وقتٍ طويل بين بقايا منازلنا التي فقدنا فيها أشخاصًا لن يعودوا مُطلقًا.

 

في يومٍ من الأيام اشتدتْ الأمطار، وازدادتْ بُرودة الجو، وازداد صوتُ القصف، ودويّ القنابل المُتفجرة في كلِ مكان، دخل مجموعةٌ من الرجال إلى مكان وجودنا، وطلبوا من اخلاء المدرسة فورًا... كان الخوفُ من المجهول هو سيد الموقف، حملنا ما تمكنا من أمتعتنا الخفيفة، وصار صوتُ بكاء الأطفال ممزوجًا مع صوت المطر، والقصف... أما أنا لم أبكِ، ولم أدع لدموعيّ أي قدرةٍ للسيطرةِ عليّ فتعلمتُ من هذه الحرب فن حبس الدموع، حتى أظنُ أنّ دموعي قد جفت تمامًا.

 

بدأتْ رحلتنا في الخروجِ من المدرسة التي كانت مدرستيّ في يومٍ ما... مشينا على أقدامِنا، وتركنا كل شيءٍ وراءنا.. بقايا المنازل، والأشجار المُحترقة، والطُرق الخاليّة إلا من الموت والصمت، وألعابنا التي دُفنت تحت أنقاض منازلنا، وأحلامنا، والمدرسة التي لم تعد لنا مطلقًا.

 

وصلتْ مجموعةٌ من الشاحنات الكبيرة، والتي حملتْ ما استطاعتْ منا، ولم يركب الجميع في هذه الشحنات لضيقِ المكان فيها، وكان سائقوها يصرخون، ويقولون: إمّا أن تركبوا أو نترككم هنا تموتون... رَكِبتْ والدتيّ التي كانت تحملُ أخيّ الصغير، ومن ثم مدتْ يدها لي لتساعدنيّ على الركوب، وتمكنا من الحصولِ على زاويةٍ صغيرةٍ عند باب الشاحنة، والتي أصبح عدد الأشخاص فيها أكثر من قدرتها على تحمل الأعداد المُتزايدة من الناس.

 

وأُغلقَ بابُ الشاحنة علينا، وسمعنا صوت مُحركها الذي أعلنَ عن تحركها نحو مكانٍ ما.. مكانٍ مجهول الهُوية لا نعرفُ فيه أي شيء، إلا أننا جميعنا نعيشُ التجربة نفسها، تلك التجربة المُؤلمة التي لم تدع النوم يزورنا لدقائقٍ مَعدودةٍ بسلام... إلا عندما يزورُنا الموت لننام نومتنا الأبديّة.

 

(2)

كُنا نسمعُ أصوات الحصى تحتْ عجلات الشاحنة التي تتحركُ نحو جهةٍ لا نعرفها، لم نهتم إلى أين سنذهب فقد أصبحتْ مشاعرنا مُتشابهة.. أغلبنا فقد شعوره بالزمان والمكان... علمتنا الحرب أن نتحولَ إلى مجرد أشخاصٍ لا يبحثون إلا على ما تبقى لهم من بقايا الحياة.

 

كان صوتُ سعال الكبار في السن أصبح مرتفعاً، وصارت إحدى السيدات العجائز تسعلُ بشكلٍ متكررٍ، وتشيرُ إلى باب الشاحنة تريدُ الحصول على القليل من الهواء، حاول الجميعُ سحبها بالقُربِ من الباب، ولكنها لم تستطع التنفس أيضًا فقد كانت أبواب الشاحنة مغلقة بإحكام.

 

طرقتْ السيدة العجوز على باب الشاحنة بآخر ما تبقى من قوةٍ عندها، ولكن دون جدوى حاولتْ والدتيّ تقديم المساعدة لها بتقريبها من زاوية الباب مكان وجودنا، ولكن كانت السيدة تختنق بالفعل لقد تغير لون بشرتها وصار أزرقًا، وعُنُقها بدء بالتخدر ببطء، وجاهدتْ لتلتقط آخر أنفاسٍ لها لكن دونَ جدوى... حاولتْ مُجددًا وصارت قوتها تضعفُ حتى استسلمتْ بشكلٍ كليّ... كانت قد رحلتْ عن الحياة.

 

بكتْ السيدات والأطفال على تلك العجوز التي كانت تتشبثُ بالحياة، ولكنها لم تمتلك أيّ قوةٍ على الاستمرارِ في مواجهة الموت.. الذي كان ينتظرها في صندوقِ الشاحنة، واختلط الحُزن مع صوتِ سعال الكثيرين مثلها، والذين يعانون من أمراضٍ مختلفة، وتمَّ تقريبُ السيدة من باب الشاحنة، وتغطيتها بملابسها... فهي أولُ من غادر الحياة في هذه الرحلة التي لا نهاية لها.

 

كانت والدتي تبكي بصمت، وأخيّ الصغير شاركها البكاء... كُنا نذهبُ إلى المجهول داخل شاحنة تتعاملُ معنا على أننا مجرد بضاعةٍ محملةٍ في صندوقها، بضاعةٍ لا تحملُ أي روحٍ، أو أحلام، أو صفةٍ من صفات الحياة، إلا الصمت المطبق الذي جعلنا نشبهها بكافة تفاصيلها.

 

(3)

وصلنا إلى منطقةٍ صحراويّة كان بعض الكبار في السن قد فارقوا الحياة؛ بسبب عدم قدرتهم على تحملِ الضغط في الشاحنة، والطريق الطويل الذي لم ينتهِ بسهولة... وجدنا مجموعةً من الأشخاص الذين قالوا لنا أنهم لجنةٌ إغاثيّةٌ، وقد تناثرت حولهم العديد من الخيم غير المُجهزة، وطلبوا منا أن نُجهزَها بمعرفتنا، ونعيشَ فيها ريثما يجدون لنا مكانًا أفضل، وغادروا من المُخيم.

احتاج إعدادُ الخيم إلى وقتٍ طويل، ولكن نجحنا في النهايةِ في الحصول على مسكنٍ جديد، وصغير مع العديد من النساء الأرامل اللواتي لم يبقَ لهن إلا أطفالهن... كانت والدتيّ واحدةً منهن، فهذه هي الحرب تزيدُ من ضعفنا، وحاجتنا لوجودِ من يهتمُ بنا، وتسمح لدمعةِ الألم أن تسقطَ من عيون الأطفال؛ على طفولتهم التي رحلتْ منهم دون إرادتهم.

 

في ذلك اليوم تساقط الثلج بغزارةٍ وكان الجو باردًا جدًا... حاولنا تدفئة أنفسنا بالبطانيات التي حصلنا عليها مع الخيم، ولكنها لم تمنحنا ذلك الدفء الذي يقللُ من ألم البرد الذي شارك الحرب في هجومه علينا...

 

مضى على وجودنا في المخيم أكثر من ستة شهور... كنا نحصلُ على طعامنا من مساعدات اللجان الإغاثيّة، وتحول المخيم مع الوقت إلى مجتمعٍ صغير، فقد ازداد عددُ سكانه بشكل كبير، وأصبحت تحتوي الخيمة الواحدة التي تتسعُ لعائلتين على أكثر من خمس عائلات تسكنها معًا.

 

لم نجد مكانًا للدراسة إلا ما كان يقدمه متطوعون من المخيم لتدريس الأطفال... لو كنتُ في مدرستيّ الآن لكنت في الصف الخامس، ولكن لا مدرسة هنا، ولا صفوف؛ لذلك لم أفكر في الدراسة منذ تركتُ المدرسة في ذلك اليوم... قررتُ أن أتحملَ مسؤوليّة عائلتيّ الصغيرة، وأعمل مع أحد الباعة في المخيم في توصيلِ الأغراض إلى الخيم، فقد أصبح المالُ متوفرًا بعد أن تمكن بعض شباب المخيم من العمل في البلداتِ المجاورة التي لم تصلها نيران الحرب بعد...

 

عندما تركتُ المدرسة كنتُ أعتقدُ بأني سأعودُ لها في يومٍ ما، وإنيّ سأحملُ حقيبتيّ المدرسيّة، وأدرس في كُتُبيّ... ولكن ما زال كل ذلك مجرد أحلامٍ لم تتحقق بعد، وما زالتْ المدرسة جُزءًا من الماضيّ الذي رحل منذُ وقت طويل، وحولنيّ من طالبٍ على مقاعد المدرسة إلى رجلٍ كبير... ما زال يعيشُ في سن صغير على مجموعةٍ من الذكريات التي لا تُنسى عن المدرسة.

 

هذه ببساطةٍ قصتيّ التي تتشابه مع قصص الكثير من الأطفال اللاجئين... الذين علقوا أحلامهم على بقايا منازلهم المُهدمة، ورحلوا إلى أماكنٍ جديدةٍ يبحثون عن طفولتهم فيها، وكلهم أملٌ في الحصول على أبسطِ حقٍ من حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة... وما زالتْ القصة مستمرةً إلى الآن.

 

مجد مالك خضر