السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أهمية الخطاب الديني في تأثيره السياسي والإنساني...م. زهير الشاعر
أهمية الخطاب الديني في تأثيره السياسي والإنساني...م. زهير الشاعر

 

 لا شك بأنه في ظل التحديات التي تواجه العالم خاصة فيما يتعلق بانتشار ظاهرة العنف والإرهاب التي تكون غالباً ذات مرجعية دينية، وما يصاحب ذلك من جهل للمفاهيم التي جاءت بها الديانات السماوية المختلفة التي أنزلها إله واحد هو الله سبحانه وتعالى ، والداعية في مجملها للتجديد والتطور الحياتي حسب الأزمنة الحياتية وذلك لتجنب المهالك والنزعات العدوانية التي تثير الفتن والصراع بين مختلف الثقافات التي تؤدي في النهاية إلى تدمير الحضارة الإنسانية.

 

هنا لابد من الإشارة إلى أهمية الخطاب الديني التوعوي الذي يهدف إلى قراءة واعية للواقع، لتوفير القدرة على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات الواقع وتحدياته، خاصة في ظل التحول الكبير في السلوك الديني الذي بات يرتكز على أسس فقهية متقادمة باتت تجلب مهالك في ظل اختراقات وتجيير تفسيراتها، ولذلك باتت تحتاج لإعادة النظر وتقييم لحيثياتها ، حتى ينتج عنها خطوات عملية لمواجهة التطرف الفكري الناتج عن الخلل الذي أصاب الخطاب الديني بشكل عام.

لذلك لو تأملنا التحديات السياسية والإنسانية الناجمة عن الخطاب الديني التي باتت تواجه العالم بشكل جدي سنجد أن هناك على سبيل المثال صراع ديني بشع في نيجيريا أدى إلى خلق جماعات متطرفة ومنها جماعة باكو حرام ، كما أنه يتم انتهاك كرامة المسلمين بشكل غير إنساني في بورما التي يقوم فيها أصحاب العقائد الأخرى بعملية تطهير غير إنسانية في ظل غياب الخطاب الديني المسئول الذي بإمكانه توضيح مخاطر ذلك، وهذا لربما يخلق حالة من التطرف ستظهر نتائجه لاحقاً.

كما أن الحال في الفلبين التي وصلها المتطرفين وباتوا يهددون السلم المجتمعي وحالة الأمن المستقرة فيها استدعت الحاجة للتدخل العسكري لمواجهة الحالة المتطرفة التي باتت تواجهها، وهذا أيضا سببه غياب الخطاب الديني التوعوي الهادف لمخاطر تحدي الأنظمة والخروج عن القوانين والدخول في مواجهة معها .

كما أن الخطاب الديني المتطرف بدأ ينتج عنه تصعيد الحالة الطائفية كما هو موجود في العراق وسوريا ولبنان ، بالإضافة إلى أنه خلق حالة توتر دائمة في فلسطين وفي مصر ، هذا عوضاً عن ما يحصل في ليبيا من صراع دموي ناجم عن التطرف الفكري والخطاب الديني المنغلق والمتطرف الداعي لفكرة الإقصاء والتوسع والاستبدال ولا يؤمن بفكرة الشراكة والاندماج.

من هنا لابد من الإشارة إلى أهمية الثقافة الدينية السوية الداعية للخطاب الديني المرن والمتطور الذي يحاكي الواقع ويهدف إلى حالة من التعايش الإنساني وقبول الأخر من جهة ومن جهة أخرى الداعي إلى الانخراط في حالة البناء والتطور وعدم الانغلاق والانعزال عن الواقع والتأثير في أهم مرتكزاته السياسية والإنسانية، لا بل الدعوة للاستفادة من النماذج التي حققت نهضة اقتصادية وعلمية وعملية بعد أن باغتتها الحروب والدمار ودُمِرَت كل مقدراتها، لكنها نهضت من جديد من خلال رسالة أمل وإيمان بالحياة وبالمستقبل وبطاقات أبنائها وإمكانياتهم، مستخدمة بذلك الخطاب الإنساني المبدع في كل المجالات بدلاً من الخطاب المتطرف الذي يلبس عباءة دينية وغالباً ما يكون في إطار متقوقع في قصص تاريخية تختلف ظروف حدوثها بالكامل عن ظروف الحياة في التاريخ المعاصر مما يجعل النتيجة تصب في طريق الهدم والصدام مع الواقع.

فعلى سبيل المثال المانيا التي نهضت لتصبح قوة اقتصادية هائلة ودولة صناعية مبدعة رسخت مفاهيم دولة القانون التي تحكمها الديموقراطية وعملت على استغلال الطاقات البشرية لديها وانخرطت في المنظومة الدولية ضمن آلياتها ومتطلباتها ، وهذا ينطبق أيضاً على النموذج الذي طبقته اليابان وهي الدولة التي أصبحت الأكثر إبداعاً في العالم والتي نهضت من تحت الركام بعد الحرب العالمية الثانية لتصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم.

مما سبق أود القول أن الخطاب الديني التعبوي والتحريضي الذي يهدف لملء الصدور غضباً لم يعد هو الخطاب البناء والديناميكي والعملي والواقعي في بناء الإنسان وتحفيز طاقاته الإبداعية ، بل هو خطاب هدم يدعو إلى لغة العنف والتصادم الحضاري والثقافي وإلغاء الآخر وهذا الأمر خلق حالة معقدة وأكثر شراسة في المجتمعات التي تخضع لسطوة الفكر الديني المتطرف وذلك في سياق الصراع الديني الذي كان نتيجته الرئيسية هدم دول بأكملها وتشريد شعوبها وانعكاس ذلك على الأوضاع السياسية والإنسانية.

من هنا تظهر أهمية الخطاب الديني وتأثيره السياسي والإنساني حيث أنه لم يعد خطاباُ يقتصر فقط على مواقيت إيمانية بل بات يمثل أهم عوامل التأثير الحياتي فيما يتعلق بالمجالين السياسي والإنساني في المجتمعات العربية والإسلامية بشكل خاص ، مما يتطلب ضرورة اختيار الأشخاص المؤهلين والناضجين علمياً وفكرياً وثقافياً ممن يقودون الخاطب الديني، وذلك من أجل إنقاذ هذه المجتمعات من الحالة الظلامية التي باتت تهددها وتستبيح أمنها وفكرها واستقرارها ومستقبلها لا بل باتت تشكك في قدرتها على النهضة والتأثير في المجتمعات الأخرى .

هذا ينطبق بالتأكيد على الخطاب الديني في الدول الغير إسلامية التي باتت تحتاج إلى نماذج دينية مقتدرة ومعتدلة فكرياً وإنسانياً وناضجة باحتراف ومؤهلات خطابية بليغة وصادقة وليس ساذجة ومتاجرة، لا بل ومؤمنة بأهمية الاعتدال بالخطاب الديني التوعوي لمواجهة الخطاب الديني التحريضي الذي ينتج عنه تطرف فكري وخطاب إعلامي تحريضي يعمل على استغلال الخطاب الديني المتعثر في لململة أفكاره وتجديد محتواه والذي ينتج عنه فكراً متطرفاً وذلك للتحريض على أصحاب ديانة بأكملها ذنبهم بأنهم ينتسبون لهذا الدين أو ذاك!.

بشكل عام ، في تقديري أن هذا الأمر بات مُلِحَاً وأكثر أهمية من أمور كثيرة أخرى، خاصة في ظل إنحراف حالات شبابية وسقوطها في وحل التطرف والإرهاب، مما جعل هناك حاجة لدراسة عميقة ونقاش منفتح وشفاف بين فئات المجتمعات المختلفة وبين المؤسسات الرسمية التي لابد لها من رسم سياسات منهجية وواقعية والانفتاح بشفافية بدلاً من اعتماد الانفتاح المزيف نهجاً، وذلك من أجل مواجهة الحقيقة وإيجاد الحلول الممكنة للمشاكل المتفاقمة ، والتي تفرز حالات شاذة نتيجة تقاطعات الخطاب الديني المنفلت والذي على ما يبدو بات يهدف لاستقطاب ضحايا من فئة الشباب الذين يفتقرون إلى مرجعيات ثقافية ودينية معتدلة وقوية وأمينة ، حتى توضح لهم القيمة الإنسانية بكل معانيها قبل الغرق في وحل التطرف والإرهاب.

أخيراً ، في تقديري أنه ليس من الإنصاف أنه كلما حدثت حادثة فردية أو مبرمجة من جماعات إرهابية نتيجة سلوك وفكر متطرف وهمجي، أن تكال التهم بالمسؤولية عن مثل هذه التصرفات المجنونة للمجموع من الأبرياء ومن ثم خلق حالة من القلق والخوف لديهم مما ينعكس بطريقة سلبية على إمكانية الحوار بين مختلف الثقافات من أجل تطوير الخطاب الديني والارتقاء به إلى مستوى قبول الثقافات المختلفة الأخرى وخلق حالة حوارية مستمرة فيما بينها للعمل بطريقة تكاملية من أجل إرساء حالة سلام شاملة على المستوى السياسي والإنساني.

كاتب ومحلل سياسي

[email protected]