يحتاج المبدع في كثير من حالاته المتقلبة التي لا تنتهي بحثا عن موضوع يضيفه إلى رصيده ويعلي من شأنه عند المتلقي الي بحث قد يكون مضني في أغلب حالاته.
قلق المبدع ،ونحن هنا نستخدم كلمة "مبدع" لتشمل كل أنواع العطاء من كتابة وفنون وأسلوب حياة مبتكر بشكل عام قد يستمر لأيام أو يقصر لساعات لا يستغني فيها عن استحضار ابداعات من سبقوه تفاديا التقليد أو الإعادة التي لا تثري عمله .
في كثير من الأحيان تستعصي الفكرة التي تلح في داخل المبدع على الخروج بالشكل الذي يريد فيضطر مرات عديدة لإعادة الصياغة لاهثا ورائها ينشد ابتكارا غير مألوف أو مقتبس .
يمزق الكاتب الورقة تلو الأخرى لمرات كثيرة ويفعل هذا الموسيقار حين يكتب لحنا في نوتة ويصل الأمر إلى أكثر من هذا لنجد الرسام يمزق لوحته التي لم تقبل كل محاولاته في الوصول إلى قناعته التي تلبي مراده منها ويلقي الألوان من يديه ويصمت صاغرا أمام جبروت الحس العالي الذي يأبى أن يتشكل في اللحظة.
مواقف لا يشعر بجبروتها سوى المبدعون الذين يبحثون عن القيم السامية ،وقلما نجدها عند العابرين دروب الإبداع صدفة يلاحقون وهما زرعته أوهام شيطانية في مناخ ملائم..!!
قرأنا الكثير عن طريقة البحث عند كبار المبدعين وكان لبعضهم مكان يذهب إليه يستريح فيه بحثا عن الحلول والإجابات عن الأسئلة التي لا تهدأ إلى ان تثيره حركة أو يسمع كلمة من احد المارة أو الجالسين بجواره تكون كلمة السر التي تفتح له الأبواب المغلقة.
صارالدخول إلى عالم محرك البحث الالكتروني طريقة حديثة أصبح الجميع يتقنها بما توفر من وقت كان المبدع قبلها يقضيه بحثا عما يفيده في الكتب والمقالات وغيرها مما كان يتناقله الناس وقد لا يوفق في الوصول إلى ما يريد فوجد ما يفيده في هذا الاختراع الحديث وبأقل وقت حيث يمكنه التنقل بين العديد من الأماكن ليتخير الأنسب.
كما أن المبدع يجد في البحث فإنه يتخير المكان الذي يرتاح إليه ليفرغ ما في جعبته ،فقصة"الشيخ والبحر" للكاتب الأمريكي "أرنست همنجوي" فقد كتبها في مدينة هافانا الكوبيةعام 1951 إلى جانب " وداعا للسلاح" و"ثلوج كلمنجارو" على سبيل المثال ،و الكاتب المصري الحائز على جائزة نوبل في الآداب نجيب محفوظ كتب الثلاثية الشهيرة "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" فقد كان لمقهى الفيشاوي بحي خان الخليلي نصيب منها حيث شهد المقهى الكثير من المسودات الأولى لرواياته، وكان بمثابة فضاء حي يلتقي فيه أصدقاءه ومحبيه من الكتاب والفنانين وبسطاء الناس.
يحكى أن أمير الشعراء أحمد شوقي قد كتب أبيات الشعر وهو راكب في الحنطور على علبة سجائرة حين جاءه الألهام.
الفنان"بول جوجان" ترك باريس وأسرته وهاجر إلى تاهيتي بحثا عن جديد يرسمه فكانت تلك الأعمال الخالدة التي تنافست عليها متاحف العالم وأصحاب الذوق الرفيع وبلغ ثمنها أرقاما خيالية.
في لوحة"الجرنيكا" التي رسمها "بابلو بيكاسو" بما فيها من تصوير قاس لويلات الحرب ونتائجها وهي حالة إنسانية تتكررعلى مرالزمان ومن هنا جاءت قيمتها وأصبحت نموذجا للتعبيرعن بشاعة الحروب ونتائجها،وقد احتفظت الذاكرة بأعمال أخرى للفنان"أوجين ديلاكروا" الذي صور الحرب الأهلية الأسبانية في مرحلته السوداء،وغيرهم الكثير من الأدباء الذين كتبوا الروايات والقصص الهامة.
وفيما وصلنا من الشعراء الكثير جدا مما حمل قيما رفيعة صارت حـِكــَمً مازالت تتردد بين الناس ومن أكثر من لغة.
ليس للإبداع مكان ولا زمان فهو مثل الريح المرسلة تهب لا تهدأ حتى تتفح صورها الجميلة و الذي تحتفظ به ذاكرة المجتمع فهو العمل الإنساني الشامل الأقدر على الصمود.