الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
ما سقط من عهدة حنظلة....جهاد الرنتيسي
 ما سقط من عهدة حنظلة....جهاد الرنتيسي

يقترح ادوارد سعيد في كتابه "المثقف والسلطة" النظر الى الحياة العامة في المجتمع الحديث باعتبارها رواية طويلة او مسرحية ليتيسر تفهم وادراك ما يمثله المثقف او المفكر "1" .
يكاد اسماعيل فهد اسماعيل ان يتماهى في روايته الاخيرة "على عهدة حنظلة" التي تستعرض بعض التفاصيل الدقيقة من عوالم فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي مع هذا الجانب من الفهم السعيدي لدور الرواية واقصر الطرق لفهم دور المثقف ورمزيته "2".
ففي الرواية التي سدت فراغا في سيرة وتجربة العلي ما يكفي من المقاربات التي تتيح فهم الوضوح والنقاء الذي مثله الفنان حتى آخر لحظات حياته التي انهاها مسدس كاتم للصوت في شارع لندني.
انحياز اسماعيل للنقاء خلال تجربته الروائية المديدة ،ميله للبحث عن الجوانب المضيئة في التجربة الفلسطينية، ومحاولته تجنب ثقوب المشهد الثقافي الفلسطيني، ابقاه بعيدا عن التعمق في نبش التشوهات التي احاطت علاقة سلطة منظمة التحرير ومثقفها بناجي العلي وشراكة المثقف والسياسي في التهديدات التي تعرض لها الاخير قبل اغتياله مما قلل من درجة بياض الوضوح الذي سعى لاضفائه على احداث الرواية.
يظهر ذلك في استخدام اسماعيل عبارات كتبها الشاعر محمود درويش عن العلي خلال صحوة ضمير منهك دون توضيح ما انتهت اليه العلاقة بين الاثنين من حرب ضروس استخدم فيها الاول ما استطاع الوصول اليه من الاسلحة في اسكات الثاني وتشويه تجربته.
في احد مواضيع اغلفة مجلة "الازمة العربية" ينقل صاحبها غانم غباش عن ناجي العلي قوله قبل ايام من اغتياله" محمود درويش زعلان مني لاني رسمت وكتبت عنه محمود خيبتنا الاخيرة، اتصل بي وعاتبني ، قلت له كان عليك ان تزعل لو لم انتقدك، لاني كنت ساعتبرك في صف الذين لا يستحقون النقد من المتساقطين، انا انتقدتك لانك مهم لشعبك، قلت له يجب ان تتقبل نقدي وتفرح له لاني وضعتك في مقام اعلى من اولئك المتساقطين" لكن الحوار الذي جرى بين الاثنين ونشرته المجلة ذاتها تجاوز العتب الى التهديد الصريح الذي يكشف المخفي من خزين الذهنيات وانماط التفكير :
• درويش : شو بشوف مستلمنا هاليومين يا ناجي .. حاطط دبساتك على طحيناتنا .. شو في ؟.
• ناجي : انا انتقدتك لأنك مهم لشعبك و انت لازم تفرح .
• درويش :مش انت اللي بصنفني مهم و إلا لأ ..... آه بس انت مو قدي يا ناجي.
• ناجي: شو يعني مش فاهم الشغلة صارت شغلة قدود .. قدك و قد غيرك.
• درويش: بدي اياك تفهم يا ناجي منيح اليوم اني انا محمود درويش اللي قادر يخرجك من لندن في أية لحظة .
• ناجي : أووف والله هاي جديدة يا زلمة .. بالله عليك بتعملها يا محمود .. وشو هالسلطات المهولة اللي صارت عندك..مش عملتوها قبل سنتين في الكويت و خرجتوني ؟ و قبلها قال الختيار قائدك و صديقك في ثانوية عبد الله السالم في الكويت في الـ75 انو رح يحط اصابعي في الأسيد ان ما سكتت ؟ "3".
توحش فعل اغتيال العلي الذي لقي ادانة عالمية لم يخرج درويش عن نقمته من ناجي حيث يشير الناقد شاكر النابلسي كاتب السيرة الفنية للعلي الى تجاهل مجلة الكرمل التي كان يترأس درويش تحريرها نشر خبر الاغتيال وكأن الحدث لم يقع"4".
الى جانب نقمة درويش على العلي يفسر هذا التجاهل فهم الاول ـ المسكون بذهنية شاعر البلاط ـ للابداع وحرية التعبير حيث يعتبر الخروج عن الشرعية السياسية خروجا على الكتابة الانسانية"5" مما يضع غالبية المثقفين الفلسطينيين بين حين وآخر خارج اطار انسانية الكتابة ـ حسب الفهم الدرويشي ـ الامر الذي توقف عنده الروائي والناقد محمد الاسعد وهو ينحت مصطلح "نباتات الظل" في الثقافة الفلسطينية ليصف الحاق شرعية الكتابة الانسانية وقضية الحرية بتيار سياسي ما بـ"الشذوذ" والمغالطة المفضوحة "6".
صحوة ضمير درويش المفتعلة في مقالته اللاحقة "لا للاغتيال بالرصاص لا للاغتيال بالكلام ايضا" التي نشرت خلال فترة وجود ناجي العلي في غرفة الانعاش بعد اطلاق النار عليه وقبل وفاته لم تبتعد عن هذه المناخات فهي تصب في خانة محاولة تبرئة الذات والحرص على احتفاظها باكبر قدر ممكن من التعالي حيث وصف ابداعات العلي بـ"حرية جلد الذات" ولم يخل الامر من محاولة لتبرئة القيادة السياسية من فعل الاغتيال حيث يشير الى "متسع لاصواتنا كلها" في "بيتنا" الضيق "7" الامر الذي اعتبره الاسعد "تنكيرا" للعلي وتجريدا من اخص خصائصه ليصل الى ان مقالة درويش لا تخلو من تمجيد للرصاصة التي حاولت اغتيال الكاريكاتير"8" .
الهجوم على الفنان ناجي العلي في السنوات التي سبقت اغتياله والتقليل من اهمية ابداعاته كان نهجا لمؤسسة منظمة التحرير ومثقفيها لم تقتصر ممارسته على الذين تناولهم في رسوماته.
في هذا السياق تندرج مقالة كتبها الشاعر احمد دحبور في مجلة "الافق" التي كانت تصدر في قبرص يتهم فيها العلي بالوقوف "ضد شعبه" ويصف نقده بالفجور ومستواه الفني بالتدهور الى درجة تبعث الشفقة "9".
وسع دحبور في مقالته سياق الهجوم الذي شنه درويش ليصل الى التشويه السافر والمتعمد حيث ربط بين تطور انتقادات العلي لقيادات المنظمة ـ الذي انتقل من الخلاف الخجول الى الفجور ـ ووجود الاخير في الكويت ليكرر الشاعر اساليب الفصائل والتنظيمات التي كانت تنسب المختلف معها من النخب السياسة والثقافية والفنية الى البلد الذي يقيم فيه على أمل توفير حاضنة ايحاءات بان السياسي اوالمثقف او الفنان المختلف خارج عن الاجماع الوطني وينفذ اجندات خارجية.
بلغ الاتساع مداه مع اتهام فنان الكاريكاتير الابرز بالترزق من خلال قضيته بعد ان راى "حائط الفلسطينيين واطئا"و"شتمهم يوفر له الامان والرضا والسمعة اليسراوية الميسورة" وهي تهمة معلبة كانت تطلقها اجهزة منظمة التحرير ضد نقادها في ذلك الزمن.
التأليب كان حاضرا في مقالة دحبور حيث يشير الى قيام العلي بـ "رسم الفلسطينيين بدناء غلظاء مدهونة اقفيتهم بالرقمين المشؤومين 242و338" تمهيدا للوصول الى ان هذين الرقمين "رمز الفلسطينيين في اعمال ناجي الاخيرة" ثم يأخذ التحريض منحى آخر باتهامات الرسم في مجلة المنشق صبري البنا "ابونضال" الامر الذي لم يخل في احد جوانبه من الخلط المتعمد بين الفلسطيني وقيادة منظمة التحرير وكانهما اصبحا حالة واحدة علاوة على تجاهل قيام الكثير من المطبوعات العربية بنشر كاريكاتيرات العلي دون مشاورته وابداء الاخير ارتياحه لهذا التصرف الذي يتيح نشر فكرته على نطاق اوسع.
الاندفاع في كيل الاتهامات وفر لدحبور الارضية التي ظنها ملائمة لاسقاط حالته الذهنية على المستوى الفني لرسومات العلي او تحويل خلاف المبدع مع السلطة السياسية والاستقلال عنها الى معيار للحكم على الابداع وفي الحالتين ما يبرر للاول قراءة مغايرة لتطور رسومات الثاني تتيح له الحديث عن تدهور الى درجة تبعث الشفقة.
حرب المؤسسة ومثقفها على المبدع اخذت منحى تزوير لوحات الكاريكاتير بعد رسم ناجي العلي لوحة ناقدة لمشاركة دار "الفتى العربي" التي يملكها نبيل شعث باسم منظمة التحرير الفلسطينية في معرض الكتاب الدولي في القاهرة رغم المشاركة الاسرائيلية ومقاطعة دور نشر ونقابات مصرية للمعرض رفضا للتطبيع.
تمت المحاولة في كانون ثاني 1985حين ارفق شعث رده على الرفض الذي قوبلت به المشاركة في المعرض برسم كاريكاتوري قديم لناجي العلي لاظهاره بصورة المتناقض في مواقفه وبعد نشر المقالة والرسمه وعودة ناجي الى ارشيفه تبين حدوث تزوير في الكاريكاتير المرفق مما اضطر الصحف الكويتية التي نشرته الى الاعتذار.
هذه المقدمات وغيرها تركت لدى الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة قناعة بوقوف المؤسسة الرسمية الفلسطينية ومثقفيها وراء اغتيال العلي ففي مقابلة صحفية اجريت معه بعد قرابة العقدين من وقوع الاغتيال قال ان مثقفين فلسطينيين حرضوا على القتل "10" .
كتب اسماعيل فهد اسماعيل رواية تطابق الى حد كبير رؤية ادوارد سعيد حول جدوى قراءة الشخصيات من خلال الرواية لكن ثمة خدش في هذه المطابقة يتمثل باتجاه اصابع الاتهام باغتيال العلي الى اسرائيل والمؤسسة الرسمية الفلسطينية مما يخرج مثقف منظمة التحرير بشكل تلقائي من دائرة الاتهام ويبرئ ضمير المثقف الفلسطيني من تلوث السياسي وقد يقلل من عمق الخدش الذي اصاب التطابق بين الرواية والرؤية وربما يبرره رغبة الروائي المضمرة في الاحتفاظ بصورة ارقى للمثقف بما في ذلك المثقف الفلسطيني لا سيما وانه تعرض في روايته لعلاقات فنان الكاريكاتير مع شخصيات ثقافية وفنية تركت وراءها ارثا يمكن العودة اليه في مشاريع احياء للثقافة والفن الجادين مثل اميل حبيبي وغسان كنفاني وسعد الله ونوس ونور الشريف وغيرهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المثقف والسلطة / ادوارد سعيد / ترجمة د.محمد عناني /صادر في القاهرة عن دار رؤية عام 2006 .
2ـ على عهدة حنظلة رواية لاسماعيل فهد اسماعيل صادرة عن دار العين في القاهرة عام 2017 .
3ـ الازمنة العربية ، العدد 170 ، ص 14 ، صدر في العام 1987 .
4ـ كتاب "اكله الذئب .. السيرة الفنية للرسام ناجي العلي" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1999، ص437.
5 ـ كتاب اكله الذئب ، ص377.
6ـ محمد الاسعد ، مديح البياض ، كتاب صادر عن دار الفارابي عام 2015 .
7ـ نشرت مقالة درويش "لا للاغتيال بالرصاص لا للاغتيال بالكلام ايضا" في صحيفة القبس الكويتية في 3/8/1983 بالاشتراك مع صحيفة اليوم السابع .
8 ـ مديح البياض ، مصدر سبق ذكره ، ص96.
9ـ مجلة الافق ، العدد الصادر في 1 آب 1985 .
10 ـ اجرى الحوار موقع ايلاف الالكتروني عام 2004