السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
كتاب وادباء شربوا من نبع السبعينيات والثمانينيات/ د.حسن عبدالله
كتاب وادباء شربوا من نبع السبعينيات والثمانينيات/ د.حسن عبدالله

لا احد يأتي من فراغ ، ولا ظاهرة بعينها تتشكل من اللا شيء ، هذا التوصيف ينطبق تمامًا على جيل من الكتاب ولد ابداعيًا في السبعينيات من القرن الماضي ، واشتد ساعد قلمه في الثمانينيات والتسعينيات ، حينما انخرط الادباء الشبان في الفعل الوطني الكفاحي والنقابي ، والتحموا التحامًا عضويًا مع اعدل قضية ، واسهموا في رفع لوائها ، بينما راحت المواهب التواقة للتطور ، تشرب وتنتعش من روح القضية ، تستمد القوة من ابعادها الوطنية والقومية والانسانية ، وتستنبط الابداع من زخمها .

كنا قد خطونا بعض الخطوات في طريقنا الادبي ، نخطئ تارة ونصيب تارة اخرى ، نحاول الاستفادة من ملاحظات اساتذتنا ، ويقوم كل " مشروع اديب " بيننا بدور الناقد لزميله ، يعزز ويصوَب.

" نخربش " القصص والاشعار والمقالات السياسية والاجتماعية ، المعفرة بغبار الميدان من الرأس حتى اخمص القدم ، قبل ان تنجلي على صفحات دفاترنا الجامعية ، ثم لتأخذ طريقها الى " الفجر الادبي " او " القدس" او " الكاتب " او " البيادر" .

وكان الاستاذان الشاعران علي الخليلي واسعد الاسعد سنديين لاقلامنا من خلال افساحهما في المجال لنا ، لكي نواصل محاولاتنا دون كلل او ملل.

وفي النادي الثقافي التابع لمجلس طلبة جامعة بيت لحم ، تبارينا كتابيا نهاية السبعينيات ، ابراهيم جوهر ومعين جبر وعبد الكريم قرمان وانا . كنا نسابق الزمن ، نسابق بعضنا بعضا ، وربما نسابق انفسنا في انتاج الجديد ، وكأي أدباء حديثي التجربة وقعنا في فخ المباشرة ، واستطعنا بالعمل والمثابرة والقراءة المكثفة، تحسين ذائقتنا الفنية ، والافلات التدريجي من ذلك الفخ المزعج . وصرنا نقترب اكثر فاكثر من الجماليات الادبية ، الى ان ثبتَت اقلامنا واقدامنا في ميدان الكتابة والابداع .

 

اذكر في السنة الجامعية الاولى ان صديقي ابراهيم جوهر قد كتب قصة قصيرة بعنوان " عندما ينفث الراعي في السهل البعيد الحانًا حزبية " . وكتبت بدوري قصة بعنوان " باب العامود يشرب من نبع جبل جرزيم " . عرضنا القصتين باستحياء على استاذ اللغة العربية في ذلك الحين .

قال : " يا ابراهيم عنوان قصتك طويل ويحتاج الى تكثيف واختزال ".

وقال لي : " يا حسن عنوان قصتك طويل ويحتاج ايضا الى اختزال . لكن هناك ملاحظة اخرى، ان جبل جرزيم هو الذي من المفروض ان يشرب من باب العامود" .

سألت مستغربًا – كيف والماء يتدفق من الاعلى الى الاقل علوا. فاجاب استاذي : " لا جبل ولا مرتفع في بلادنا اعلى معنويًا وتاريخيًا ودينيًا ودلاليًا واخلاقيًا من باب العامود ، مع احترامي واعتزازي بجرزيم كمعلم تاريخي وجغرافي نعتز به " .

ومنذ ذلك اليوم كلما قرأت خبرا عن باب العامود او شاهدت صورًا لهذا المعلم التاريخي ، الا وتذكرت انه الاعلى والاعلى .

كانت هذه الملاحظة من بين عشرات بل مئات الملاحظات التي استمعنا اليها من اساتذتنا وزملائنا ومن الادباء والنقاد الذين سبقونا . اما مدرستنا الحقيقية فكانت القراءة والقراءة والقراءة .

قرأنا اشعار محمود درويش وراشد حسين وعز الدين مناصرة ومعين بسيسو وسميح القاسم وتوفيق زياد ومظفر النواب واحمد فؤاد نجم واشعار ناظم حكمت المترجمة ... وقرأنا قصص محمود شقير وغسان كنفاني ورشاد ابو شاور وسميرة عزام وزكريا تامر... وقرأنا روايات حنا مينا وغادة السمان ويوسف القعيد وسحر خليفة .. وكان لنا تجربة معمقة مع الادب السوفيتي المترجم ، وقد كنا اربعتنا من المحسوبين على اليسار ، رغم تعدد انتماءاتنا ، مأخوذين ومعجبين بكل ما يصدر عن دار التقدم في موسكو . لكن عيبنا الذي ربما تداركناه في سنوات النضج- اذا كان هناك نضج في هذه الحياة- اننا لم نقرأ ولم نغص كما ينبغي في التراث العربي الاسلامي ، بما اكتنزه من ادب وفلسفة ومعارف وفكر . ولو فعلنا ذلك مبكرًا لاقمنا مشاريعنا الكتابية على اساسات اقوى واشد ، لكن ان تصل الى ما تريد متأخرًا افضل بالطبع من ان لا تصل ابدًا . فما اهملناه ولم نلتفت اليه عوضناه لاحقًا . فعندما قرأت على سبيل " مقدمة ابن خلدون" حينما كنت اقبع في الاعتقال ، امتلكت مفاتيح معرفية مهمة ينابيعها من بيئتنا . وشعرت بفخر عظيم وانا اكتشف ان هذا المفكر الرائد قد سبق ابناء جيله والاجيال التي تلت ، من الكتاب والمفكرين الغربيين، بخاصة في علم الاجتماع.

في اواخر السبعينيات كان توفير القرش واضافته الى القرش الاخر مهمتنا الصعبة طيلة ايام السنة ، في انتظار معرض الكتاب الذي كان يقام في نهاية الفصل الدراسي الثاني ، لنشتري عددًا من دواوين الشعر والروايات . وكان فرحنا يلامس غرة السماء ، حينما يتسنى لنا رفد مكتباتنا المتواصفة ببعض الكتب الجديدة.

لقد حولنا قاعة مسرح جامعة بيت لحم الى منتدى ثقافي وابداعي مفتوح ، ونظمنا المسابقات الثقافية على مستوى الجامعة ثم انفتحت شهيتنا نحن الادباء الشبان لتنظيم مسابقة في القصة القصيرة على مستوى الوطن.

وتستمر المسيرة وتتواصل ويتجرع اربعتنا مرارة الاعتقال بنسب متفاوتة . وعن تجربة الكتابة والابداع في معتقلات الاحتلال هناك تفاصيل ومواقف كبيرة علمت وهذبت وبنت ، ورغم انني خصصت عشرة كتب من بين اصداراتي السبعة عشر لتوثيق وتأريخ التجارب الابداعية والصحافية في الاعتقال ، اجد ان ما لم يكتب بعد يحتاج الى عشرات الدراسات نظرًا لغنى وعمق هذه التجربة.

والحقيقة انني تذكرت كل ما اوردته في هذا المقال الذي لا يشكل سوى شذرات من التجربة ، عندما شاهدت " ريبورتاجًا " مؤخرا عرض في احدى محطات التلفزة المحلية ، حيث سألت المراسلة وبشكل عشوائي عددًا من الطلبة الجامعيين " من هو غسان كنفاني ؟؟ ، فاذا بها تتلقى بعض الاجابات المضحكة المبكية . وسألت نفسي من المسؤول عن هذا الجهل المعيب بحق ادبائنا ورموزنا وثقافتنا ، هل هو الطالب .. المعلم .. البيئة التعليمية .. المجتمع .. نحن الادباء .. ام المرحلة التي أكلت كل شيء بعد ان حولته الى طعام استهلاكي.

اجبت ذاتي بمرارة بعد لحظة صمت مؤلمة .. ان المسؤول جميع ما ذكرت .

فهل من سبيل لاصلاح ما جرته المرحلة على ثقافتنا وفكرنا من خراب وويلات؟!!