الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
'لو وضعوا المدرسة على طريق البحر'!....تحسين يقين
'لو وضعوا المدرسة على طريق البحر'!....تحسين يقين

 ترى لو وضعوها هناك، كيف كانت ستكون حياة الأطفال!
وحياتنا نحن؟ لقد كنا في يوم من الأيام أطفالا وفتيانا وفتيات..
ترى ما الذي التقطته إليزابيث مويستراب في قصة الفتيان العربية الفلسطينية "مذكرات تلميذ ابتدائية" للشاعر خالد جمعة التي بين يدينا؟
وما الذي أغرى دار "جنسن ودالغارد الدنمركية هذا الصيف لإصدارها تحت عنوان المقال؟
وما الذي دفع بالقائمين على كاتالوج مهرجان الوايت رايفينز(تضمن الكتالوغ وصفاً وتقييماً لـ 200 قصة من 55 دولة مشاركة، مكتوبة بـ 36 لغة) حين تم إطلاقه من قبل ضمن معرض فرانكفورت للكتاب، والذي عقدت على هامشه سلسلة من الورشات والنقاشات والفعاليات حول أدب الأطفال واليافعين في ألمانيا وبولونيا؟
لعلنا نضع هذه القصة وما نكتبه عنها أمام التربويين والمعلمين، لعلهم يجدون فيها ما وجد الناشران العربي والدنمركي، كتعبير بديل ومساند، للأساليب التربوية والفنية التقليدية والحديثة التي تتعامل مع عالم الطفل، اضافة لأساليب المجتمع والأهل.
ترى ماذا وجدنا في تلك المذكرات الطفولية!
هي تساؤلات وأحلام طفولية قد لا تبعد كثيرا عن تساؤلات الكبار وأحلامهم.
كأن الكاتب طفل عبّر عن أحداث منتقاة من حياته، وليس أي تعبير يصف الواقع، بل يتجاوز ذلك إلى نقده، بل والتهكم عليه، بسخرية إنسانية بريئة محببة.


الأحداث اليومية، بالنسبة لعالم الطفل أحداث مهمة تركت أثرا في حياته وحياة أقرانه. أما ما يربط بين تلك اليوميات، فهي سياق حياة طفل في البيت والمدرسة والشارع، محيطه الخاص والعام، وهو سياق نفسي اجتماعي وسياسي أيضا، وجد الطفل نفسه في ظل كل تلك المؤثرات والتقييدات، فصار الإبداع لديه هو كيف يهرب منها، وكيف يستطيع العيش معها، محاولا اقتناص سعادة لا توفرها لا المدرسة ولا البيت.
ولعلنا هنا نركز على السياق النفسي والفكري، أي كيف عبر الكاتب عن شعور الطفل وتفكيره، وهو التحدي الذي يواجه كتاب ادب الطفل، وهو ما يبحث  عنه من يرسم له.
أما سرّ الابداع في المذكرات، فهو يعود للقدرة المدهشة للكاتب في استدعاء عالم طفولته بمصداقية عالية، فلم يبعد عالمه عن عالم الطفل اليوم. سياق المذكرات يدل على زمن المذكرات، ولكن هذا لا يمنع من أن تعبر المذكرات عن الحاضر والمستقبل.
تبدأ المذكرات بالتخطيط لقضاء الإجازة الأسبوعية في الحارة، فيصف طقوس اللعب واستخدام المواد البيئية في اللعب، وجرأة الأطفال، وتحديهم في جعل الشارع فضاء لهم، في ظل عدم تخصيص أي فضاء لهم أصلا.
وينتقل الكاتب إلى طقوس المدرسة، خصوصا في علاقات الطلبة والمعلمين، واستخدام المعلمين للأساليب التقليدية في التعامل ومنها العنف، ويكشف الكاتب-الطفل التحولات التي حدثت مع المعلم نادر بعد أن اضطر لحلق شاربيه "لأن زوجته دفعت باب الحمام وهو واقف يحلق ذقنه"، حيث تغير فصار لينا، فربط الأطفال بين الشكل والمضمون، شكل الشارب الكبير بما يوحي من قوة وأسلوب التعامل القاسي معهم.
ولا يبتعد عن طقوس المدرسة في وصف الرحلات المملة، وحب الطلبة للبحر، والإيحاء بفكرة البحث عن أسلوب جاذب للتعليم بدل تنفيرهم. ويعرض لتساؤلات الطفل عن سبب تعلم الرياضيات.
وينتقل إلى البيت، وعلاقة الاب بابنه، واهتمام الاب بتعليم الطفل عادة الشراء من السوق بسبب سفره، وتحميل الأم له مسؤولية عدم اختيار الفواكه الصالحة.
ثم تبدأ أحلام الطفل في ارتداء الملابس التي اشتراها الوالد، ويروح يمني نفسه بالزهو بها أمام الطلبة، وتبخر تلك الأحلام مع إعلان الأب نيته بالمتاجرة بها.
ينتقل لمغامرة اللعب بالمطر ورشق المارة، والخوف الذي عاشه وأقرانه حينما ركض أحدهم خلفهم، وكيف ظلوا يهربون بالرغم من توقفه بعد خطوات، حيث يوحي هنا إلى مسألة الخوف.
في المذكرة التالية يطرح الكاتب-الطفل لمسألى الحرية، في سياق شراء الصحن اللاقط للفضائيات.
مغامرة قطف حبات التوت، في ظل انتهاز فرصة خروج المدرسة في مظاهرة، حيث اضطر الطفلان للنوم في المدرسة بعد إغلاقها، وقلق الأسرتين والخوف على حياتهما، ثم مرض الراوي، وإجراء عملية الزائدة، وتساؤله عن اهتمام الأسرة به: "هل علينا أن نمرض كي نأكل الطعام اللذيذ ونشعر بحنان أمهاتنا وآبائنا؟"
الخلفية السياسية هنا تظهر مع منع الاحتلال للتجول، وكيف عانى الطفل من السجن في البيت.
ويربط الراوي بين البيت والمدرسة، بين فقر الأسرة والتعبير، وتساؤل معلم اللغة العربية عن عدم اختيار المقلوبة للكتابة عنها كتراث، وكيف تهكم ببراءة على تشكيك أمه بفلسطينية المقلوبة.
ثم إلى طقوس الامتحانات باتجاه نقدها لأثرها السيئ على الأطفال، ونقد النظرة الاجتماعية للتعليم، وفرحته التي لم تكتمل بالإجازة الصيفية حين يحضر الوالد مدرسا خصوصيا له أثناء الاجازة لتقويته.
ولعل لوحة الغلاف (طفل يقود دحدالا داخل اطار دائرة العجل، بمطرزات تراثية)، تشير برمزية إلى رحلة الحياة للإنسان الفلسطيني طفلا وكبيرا، حيث تتكرر دوائر الأسئلة والحيرة تجاه الطفل والتعليم والتعامل والحقوق.
تقودنا لوحة الغلاف للفنان التشكيلي عبد الله قواريق إلى قراءة خاصة للوحات المذكرات، والتي لا تقل إبداعا عن النص.
يظهر استخدام الأطفال للعلب الفارغة باللعب، فالشارب المخيف ومآل العنف، من خلال سحب الصراصير للشنب، فلوحة العصير، وباص الرحلة، فتخيل (تمني) المدرسة على شاطئ البحر، والهدايا التي هبطت على البيت كمظلات قبل اكتشاف مصيرها التجاري، فالمطر، وخطوات الخوف، والسلسلة التي تغلق التلفزيون، واعتلاء حبات التوت حبا به وشغفا طفوليا بطعمه، واستلهام لوحة جبل المحامل لسليمان منصور، فالمقلوبة..
وقد أبدع الرسام هنا في رسم إما المشهد، وإما أثره كآثار خطوات الخوف، إضافة إلى التصرف في الرسم كما في المقلوبة ورسم الساعات الثلاث التي على الطفل-الرواي تحملها كل يوم في التعليم، وشكل دود التفاحة حيث ظهر كعينين.
تكاد تكون فعلا مذكرات تلميذ، أخذت شكل اليوميات الأدبية، تشدّ الكبار قبل الصغار، تأخذ الكبار إلى تلك الذكريات العزيزة، أما الأطفال فإنها تعمّق لديهم ما سيحملونه في الوعي واللاوعي: أن يكونوا أنفسهم، فيعبرون عنها.
تلقينا لهذه المذكرات-اليوميات، كأدب طفل، يدفعنا للتفكير العميق ليس في الكتابة للأطفال فقط، بل كيف نتعامل معهم في البيت والمدرسة.
وهنا لعلنا نفكر بتساؤلات بداية المقال، لعلنا حين نفكّر فعلا بعمق، فإننا سنجد طريقنا الى الاطفال عبر جسر الكلمات والرسوم والألحان..والأفكار أيضا!
لعلّ اختيار الدنمركية المترجمة ودار النشر لعنوان آخر للقصة، يأتي في سياق الفهم العميق لعالم الطفل، وهذا ما ورد في المذكرات-القصة، عن الطفل والبحر..وغيرها من الجزيئيات التي قام عليها العمل الأدبي.
·        صدرت "مذكرات تلميذ ابتدائية" بالعربية عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي 2016، ثم صدرت بالدنمركية عن دار نشر  " Jensen Dallgardكوبنهاجن، بالتعاون مع مؤسسة تامر بتمويل وإشراف البيت الدنماركي في فلسطين.
·        عبد الله قواريق: فنان تشكيلي ورسام كتب اطفال فلسطيني ولد في الكويت، رسم العديد من قصص الأطفال التي صدرت عن مؤسسة تامر ودور نشر أخرى، منها: ملك الحكايات، والغولة، العنيزية، الحصيني، مختار أبو دنين كبار، وغيرها.
[email protected]