السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
جمال الأمكنة!!.... عبد الهادي شلا
جمال الأمكنة!!.... عبد الهادي شلا

 

 ماذا يصنع الفنان حين يشعر باحباط و دوامة تأخذه إلى عالم يعج بأفكار لا تنتهي و هو يبحث عن مخارج لمشاعره المتأججة في قرارها البعيد ؟!

يراها قريبة  يكاد يلمسها وهي غير ذلك ،دون أن يملك القدرة على عتقها من بين ضفتي صدفتها المغلقة على سرها في أحشائه؟!

قبضة حديدية تمسك بتلابيب مشاعره تحبسها ..تذيبها وتحولها إلى خليط عديم الطعم جامد متكلس ،إلا من ارتجاجات يتردد صداها في رماد الصمت دون أن يحقق مرادا ولا نفعا.

 

الأماكن لا تحتاج أن تكون جميلة كي تثير الحس والمشاعر الدافئة في نفس الفنان،وكم من مكان مرت عليه السنون وخلفته ركاما وقعت عليه عين فنان فتحول بإبداعه إلى عمل فني إحتل الصدارة في المتاحف أو صالونات أصحاب الذوق الرفيع.

هو الفنان ..القادر على إضافة اللمسة الجميلة إلى الجمال ذاته ، كما يمكنه إضافتها إلى مادون ذلك بطريقة لا يمكن لغيره أن يقوم بها وهي لا تتشابه مع فنان أخر حين يريد أن يضيف لمسة جمال بمذاق أخر.

 

حقيقة يعرفها جيدا كل الفنانين فلا يمكن أن تتطابق الصورة النهائية عند كل منهم في رسم نفس المكان وبث مشاعرالحنين فيه خاصة إن لم يكن المكان جميلا بالشكل المتعارف عليه إلا أن الفنان بمقدورة أن يجعل منه مكانا تعشقه العين حين يتكشف لها مكنون جماله.

 

بعض الأماكن تفصلنا عنها مسافات زمنية بعيدة،ولكن صورتها تبقى ساكنة في ذكريات وصور سرعان ما تتجلى في لحظة ما فيتجدد العهد بها حين تبرز تفاصيلها و تستقبلها المشاعر بالابتسامة الغريبة ،قد يكون أجملها أمنية أن  تعود تلك اللحظة بكل تفاصيلها وفي نفس المكان .

 

كنت في زيارة لجزيرة قبرص في منتصف الثمانينيات متجها إلى مدينة سياحية ولفت نظري جمال الطريق المتعرج بين الجبال التي استقر في وسطها موقع به رادار ضخم  يحيط به عدد من الملاعب الرياضية ومجمعات خشبية في تناسق جميل،وبدى منظر البحر من بعيد تلألأت أمواجه تحت أشعة الشمس ، فقلت للسائق :كم هو جميل هذا المكان..!!

 

قال: إنهم هم الذين صنعوا جماله وكان يقصد -القاعدة البريطانية-،وأردف هذا المكان نمر به نحن أهل الجزيرة منذ سنوات طويلة لكننا لم نفكر في أن نجعله بهذا الجمال الذي تراه!!!

 

هذا يحدث مع الكثيرين الذين يألفون مكانا بعينة ويعيشون فيه ولا يفكرون في مغادرته وإن كان غير ملائم للحياة الرغيدة إلا أن مشاعرهم ارتبطت وتآلفت معه وكلما ابتعدوا عنه طوعا أو كرها أخذهم الحنين إليه بالعودة ولو لساعات عابرة تعيدهم إلى ذكريات ترافقهم مسيرة الحياة.

 

بعض الأشياء نحتفظ بها سنين وسنين دون أن نسأل عن السر في ذلك رغم أننا لا نقوى على أن نلقيها بعيدا بل ننقلها من مكان إلى أخر ونتفقدها من فترة إلى أخرى بحنين غريب،فما السر في ذلك؟!

 

أكاد أجزم أن المثل القائل الذي سمعته مرارا من جدتي: " مـَن أحـَبَ عبداً..عـَبـَدهُ،ومن أحب حجرًا..نقـَلهُ "، هو السر في ذلك.

وإني أحتفظ بحجر صغير غريب في ألوانه منذ أكثر من أربعين عاما وقد حملته من مكان بعيد جدا في مدينة أسوان حيث قبر زوجة أغا خان أمير الطائفة الإسماعيلية في أعلى الهضبة التي تطل على النيل،ولا أدري سر الإحتفاظ بهذا الحجر الصغير الجميل حتى يومنا هذا ولم أفكر مرة واحدة في التخلص منه.

 

ربما جمال ولحظة الفرح التي عشتها في ذاك المكان مازالت تسكن في وجداني وأنا برفقة أصدقاء مازلت أشتاق إليهم؟ ..

 ربما .

و لكن..يبقى الوطن الأم بكل ما فيه هو أجمل الأماكن التي ترتاح لها النفس حين تشتد الغربة ولا نملك القدرة على العودة إليه وقت نشاء..!!